نضال الأمس للاستقلال تحول إلى هموم

المحامي فوزي: افتقدنا الرقيب على سلامة المساطر وحماية الحقوق ونخشى التغول منذ زمن، كان الإجماع على ضرورة استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، و كانت الغاية هي ضمان حماية المتقاضين من بطش من تقلدوا مناصب وزارة العدل مخافة، إما من انتقام سياسي، أو تحكم مخزني، وكانت تجارب محاكمات سابقة في تاريخ المغرب المعاصر شاهدا و حجة للمطالبين. و لأجل ذلك انضمت للمطالبة بالاستقلال كل الأطياف، سياسية كانت أو مهنية، بغض النظر عن تلك التوجهات الحقوقية الصرفة التي أسست لمطالبها من المبادئ العالمية لاستقلال القضاء، كما عرفتها كل الهيآت الدولية الفاعلة في المجال. اليوم، يمكن القول إن الوطن قد حقق تقدما سريعا في باب استقلال القضاء عن وزارة العدل، وما تحصل عنه من استقلال للنيابة العامة، التي صارت المشرف الأول عن تدبير السياسة الجنائية، لكن غاب السهر على تحقيق المبدأ الأصيل، و هو الأمن القانوني و القضائي للمواطن، إذ افتقدنا الرقيب على سلامة المساطر و حماية الحقوق و تغول بعض المؤسسات حتى مما تترأسه النيابات العامة ذاتها، وأصبح المواطن يعاني تعسف بعض الإدارات العمومية، قبل و بعد أن تحال الملفات على المحاكمة، التي نكاد نتنبأ بقراراتها مسبقا، انطلاقا من فصول لا تفك ألغازها لا قرينة البراءة و مقتضيات الدستور ولا المبادئ الكونية لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، حتى صار الإحساس السائد لدى أغلب المواطنين - حتى لا نبالغ في التشاؤم و نقول حتى المهنيين- أنه لا يستفيد من المؤسسة القضائية إلا من يتوفر على امكانيات مالية تؤهله للصبر على طول إجراءاتها و قساوتها. ما من شك أن هناك من نساء ورجال القضاء أكفاء، لهم من الشجاعة ما يكفي لإصدار أحكام جريئة رائدة، غير أنها سرعان ما تنكسر تحت مطرقة قضاء الاستئناف لنعود إلى الصفر من جديد. صحيح أن النظام الأساسي للقضاء قد حدد عددا من المقتضيات لمراجعة مؤسسته العليا، حين الوقوف على مخالفات جسيمة من قبيل الخرق الجسيم لحق الدفاع والتأويل الفاضح لمقتضيات القانون، لكنها - بنظري- غثاء كزبد البحر، و إلا ما حكم عدد من المراسلات والشكايات الموجهة إلى المؤسسات المعنية بشأن اجتهادات اعتمدتها عدد من الهيآت القضائية وشكايات بشأن تأخر مضن في اتخاذ الإجراءات اللازمة للوصول إلى الحقيقة، أو الكيل بمكيالين في قضيتين ذاتي بعد و أساس واحد، والتي تنتهي بجواب حزين من جملة في سطرين لا تتغير أبدا، بشأن أحقية المتقاضي في سلوك مساطر الطعن المخولة له قانونا، حتى أن الهاجس اليوم صار هو إنتاج الأحكام على حساب الجودة، دون رقيب على إيجاد منزلة وسطى بين التأخر في تحقيق العدل، والتسرع في إتخاذ قرارات غير مؤسسة. وكمثال عن عجز مؤسسات دستورية عن المساهمة في تطوير النظام القضائي، أن هناك مؤسسة الوسيط التي لا تعدو توصياتها مجرد حبر على ورق في شأن امتناع الإدارة العمومية عن تنفيذ أحكام قضائية منذ سنوات خلت، و الحال أنها مؤسسة ممثلة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، أضف إلى ذلك تلكم التقارير والتوصيات التي تصدرها مؤسسات من قبيل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي والتي تجد أذنا صماء، اللهم بعض المبادرات التي تتخذها رئاسة النيابة العامة في مجال تدبير بعض الظواهر و التصدي لها. استقلال القضاء أيضا - و إن كان لا يعني بالضرورة قطع أي رابط بين المسؤولية والمحاسبة- لا ينبغي أن تصير معه مؤسسات المراقبة والتفتيش - و لو في حالات محدودة- أسيرة ممارسات تعسفية وتشهير وهوس مبالغ في تقديره، بما يهدد القاضي المسؤول في أمنه النفسي ومستقبله المهني، حتى صار عدد من المسؤولين القضائيين يفضل التأخر في اتخاذ التدابير ألف مرة، عوض أن يجتهد في كل مرة، ولذلك لا يمكن القبول بتحرك هذه الأجهزة فقط حين تناول قضية بعينها - كانت لأصحابها الفرصة والإمكانيات لإثارتها- على منابر صحافية أو جمعيات حقوقية. حقا يتضمن القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وكذا القانون التنظيمي المتعلق بالقانون الأساسي للقضاة، عددا من المقتضيات التي من شأنها مراقبة أعمال القضاة إن بحسن الجزاء من ترقية و مسؤولية و ضمان ممارسة مهنية مستقلة أو بالمتابعة والتأديب، لكن تفعيل تلك المقتضيات بآليات واضحة و نزيهة فيه نظر إن إيجابا أو سلبا، و إن تعززت بصدور مدونة الأخلاقيات القضائية. أعتقد أن المحاميات و المحامين بصفتهم حماة الحق و فرسان العدالة إلى جانب الصحافة الخلاقة، أكانت صحافة تحقيق أو غيرها، ومنظمات المجتمع المدني المشهود لها بالمصداقية، هم المؤهلون فوق العادة لمراقبة أعمال القضاء وتتبعه، و ما من شك أن النقد البناء و الانتقاد الإيجابي باقتراح البدائل التي تسهم بها هيآت المحامين بالمغرب، من شأنه تحقيق ذلك التوازن الذي ينشده كل التواقين لوطن، كما يحمي قضاته المواطنون البسطاء الذين تشرئب أعناقهم لنور حرية و عدالة حقيقية، غير تلك التي لا طعم لها ولا رائحة، منمقة في عبارات لا تتجاوز دفتي الكتاب الذي وردت به، ويحمون أيضا تلك الاستثمارات وطنية كانت أو أجنبية التي استفزت المشرع لتعديل و إخراج مقتضيات بكاملها لتنظيمها في سبيل تشجيعها، لكنها اصطدمت واقعيا مع آلية القضائية عجزت عن مسايرتها سواء بسبب انعدام امكانيات مادية أو بشرية، أو بسبب تخوف من اجتهاد، قد يعتبره البعض خروجا من الشرنقة. * رئيس جمعية حقوق وعدالة محامي بهيأة الدار البيضاء

نضال الأمس للاستقلال تحول إلى هموم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الجباري ينتهي من "الماضي لا يموت 3"

تغييرات بطاقم الفتح بعد تعيين ديمبا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات