حقـول ״الكيـف״ … فقـر ورعـب

الصباح زارت جبال الريف واستمعت إلى مزارعين سعداء بالتقنين والمهربون غاضبون الفقر والرعب... خلاصة رحلة «الصباح» إلى قلب جبال الريف، بحثا عن مزارعي القنب الهندي، ووجهة نظرهم بخصوص تقنين «الكيف»، الذي صادقت عليه الحكومة. يتحدثون بعفوية، ويفضلون العيش في «الظلام»، ويواجهون، يوميا، أرق اعتقالهم، فالآلاف منهم مبحوث عنهم، وقلما يغادرون الجبال للتبضع في الأسواق، أو التوجه إلى المستشفى، كما ترهبهم شبكات التهريب الدولية، فيرضخون لمطالبها ببيع المنتوج بأقل الأسعار. يعيشون فقرا، أحيانا، مدقعا، ولا يطالبون الحكومة بأي شيء، نخوتهم تمنعهم من التشكي، لكنهم يكابدون للحصول على قوت أطفالهم، فالأرباح التي تجنيها شبكات التهريب تقدر بالملايير، ولا يحصلون منها، إلا على دراهم قليلة. خالد العطاوي (موفد الصباح إلى كتامة) وتصوير (تطوان ميديا) يواجهون قسوة الطبيعة بما ورثوه عن أجدادهم من صبر، وأياديهم الخشنة، بسبب حرث الحقول، تكشف عن معاناة طويلة، وأمل أن يسهم القانون الجديد في التخلص من أعباء تنأى الجبال عن حملها... هذه صفات مزارعي كتامة، كما عاينتها «الصباح» وأكدها شاب يملك حقلا للقنب الهندي، لكنه تخلى عنه لأفراد أسرته، وتوجه إلى شفشاون لقضاء ما تبقى من حياته، بعيدا عن أرق «الكيف». ״صندوق باندورا״ تشبه كتامة «صندوق باندورا»، الذي تشير الميثولوجيا الإغريقية إلى أنه يتضمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ووقاحة ورجاء، فالمزارعون البسطاء يتحدثون عن جشع ووقاحة بارونات التهريب الدولي، ورجاؤهم أن يجلي القانون الجديد عن حقيقة يتجاهلها الجميع، بأنهم بؤساء. تنطلق الرحلة من تطوان، انطلاقا من طريق «واد لاو»، في اتجاه الجبهة، وتنعطف السيارة في اتجاه «تاسيفت»، ثم تظهر الحقول المخصصة لزراعة القنب الهندي في الأفق، بعيدا عن الطريق الرئيسية. وحين الوصول إلى «دردارة»، أولى المحطات في اتجاه المنطقة الشهيرة كتامة، يختلف المشهد كليا، فالمرور من عدة دواوير ومراكز قروية، مثل «بني دركول»، و»بني منصور»، و»أمطراس»، و»خميس المضيق»، يميط اللثام عن واقع زراعة الكيف التي انتشرت بشكل كثيف في السنين الأخيرة. الطريق إلى كتامة، مثل أفعى تخترق جبال الريف، كأنها تصد الفضوليين عن سبر أغوارها، ورجال الدرك الملكي في كل المدارات وأمام مداخل المراكز القروية، يستفسرون عن وجهة السائقين، ويدققون في ملامح الركاب، ولا يسمحون بالمرور إلا بمشقة أنفس، أحيانا تفوق الحراسة المفروضة على المعابر الحدودية. تتراءى حقول القنب الهندي على امتداد البصر، وأغلبها، كما يقول مرافق «الصباح»، لم تشرع بعد في غرس المشاتل، مشيرا، في الوقت نفسه، إلى أن المزارعين لايكتفون بالبذور المحلية، بل دخلت أصناف جديدة تضمن مردودية أكبر، مثل صنف «خردالة»، المسؤول عن «استهلاك» كمية كبيرة من الماء، علما أن سعره يزيد عن البذور العادية بأزيد من الضعفين، بالنظر إلى أن كمية الشيرا «الحشيش» المستخرجة تكون أعلى من كمية نبتة البذور العادية، وقنطار القنب الهندي من «خردالة» يستخلص منه ما بين أربعة كيلوغرامات وخمسة من «الحشيش»، في حين أن البذور العادية يتراوح إنتاجها بين كيلوغرامين وثلاثة. يقف المتحدث نفسه في هضبة تشرف على حقول فسيحة من القنب الهندي، ويؤكد أن مداخيل المزارعين تتراوح، خلافا لما يعتقد البعض، ما بين 30 ألف درهم و50 ألفا، في حين أن الوسطاء هم الذين يستفيدون من النسبة الكبرى من المداخيل، لأنهم يتوفرون على الإمكانيات اللوجستيكية وشبكات العلاقات التي تمكنهم من نقل المنتوج إلى خارج مناطق الإنتاج، إذ كلما كانت المسافة أبعد يسوق المنتوج بسعر أعلى، ما يجعل هامش الربح أكبر، وتتضاعف الأرباح بالنسبة إلى الشبكات ذات الارتباط الدولي، التي تصدر الحشيش إلى الخارج. تساقطت زخات الأمطار، فانتبه المتحدث نفسه، إلى ما يعانيه سكان هذه المناطق في الجفاف، إذ يؤكد أن أباطرة المخدرات متهمون بتجفيف منابع المياه من أجل سقي المساحات الشاسعة من نبتة الكيف، حتى أن مسارات بعض الينابيع تحولت عبر قنوات مخفية بعناية تحت الأرض. ״سدود״ كبار المزارعين يغري مشهد الحقول في منطقة تابعة ل»أمطراس» بالتقاط صور فوتوغرافية، لكن ليس الأمر بهذه البساطة، فالمكان مراقب، وشباب مفتولو العضلات داخل سيارات يحرسونه، قال عنهم مرافق «الصباح»، إنهم تابعون لإحدى الشبكات، ومهمتهم الإبلاغ عن كل حركة مشبوهة، ولا يتوانون في التقاط صور فوتوغرافية للسيارة المشبوهة. لم يعر المزارع نفسه اهتماما بالحراس، وأشار بيديه إلى سد مائي صغير ، في ملكية أحد المزارعين الكبار شيد لتزويد حقول القنب الهندي بالماء، مشيرا إلى أنابيب ضخمة مربوطة إلى مضخات قال إنها مستوردة من إسبانيا، وتعمل بمحركات قوية يمكنها امتصاص كميات كبيرة من المياه، ما ينعكس على البيئة في المنطقة، ويتسبب في إفساد النبات ونفوق الحيوان على حد سواء. وما إن تشق السيارة طريقها، حتى يصبح منظر السدود عاديا، لكثرتها، وتنوع حجمها. ورغم التساقطات المطرية، إلا أن المتحدث نفسه يؤكد أن الشهور المقبلة تكفي لعودة شبح الجفاف، فنبتة الكيف تستهلك كميات كبيرة من الماء، لذلك عمد بعض فلاحي القنب الهندي، إلى حفر ثقوب مائية، فتنافسوا في جلب يد عاملة متخصصة، حتى بدت جل المناطق، مثل ورش كبير من كثرة الحفر وتلال الأتربة المتراكمة، دون حصولهم على الرخص القانونية، ومنها رخصة الحوض المائي، فوصل عدد الثقوب المائية بالمنطقة إلى حوالي 50 ثقبا بعمق 120 مترا. بادرت السلطات المحلية، أمام الانتشار الكثيف لزراعة القنب الهندي إلى شن حملات تطهيرية لاجتثاثه من مناطق عديدة، وتمكنت الحملات من تقليص المساحات المزروعة، لكن لفترة وجيزة، إذ سرعان ما عاد هذا النشاط إلى الانتشار. أقبل سكان المنطقة على التعاطي لزراعة القنب الهندي، خاصة أن النشاطات الفلاحية الأخرى لا تكفي سوى لسد الاحتياجات الضرورية للسكان، أي زراعة معيشية، ما يدفع السكان إلى ممارسة أنشطة أخرى للحصول على مداخيل إضافية من أجل تغطية نفقاتهم الأخرى. وهكذا بدأ السكان يزرعون القنب الهندي بالمساحات الخلفية المجاورة لمساكنهم، قبل أن تنتشر هذه الزراعة لتصبح نشاطهم الرئيسي للسكان، وتشمل مختلف المساحات الزراعية. وحسب أحد المزارعين، فإن المساحات المزروعة تنقسم، على غرار المناطق الفلاحية الأخرى، إلى مناطق سقوية تستخدم مياه النهر أو المياه الجوفية أو حتى مياه المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، وأخرى بورية وهي الأراضي التي توجد بعيدة عن مصادر المياه. باب برد... بؤس الطبيعة تستقبل باب برد، زوارها بمظاهر البؤس، فأشجار ميتة تحف جانبي الطريق ترهب الزوار، فتبدو مثل طرق أفلام الرعب، ثم تزداد وعورة الطريق، قبل أن تظهر شوارع القرية وسكانها المسرعون لاقتناء البضائع. في المقاهي يجتمع المزارعون والشباب، ولا يبوحون بأحلامهم وأمانيهم، إلا لأبناء المنطقة، فهم ممنوعون من الكلام، خوفا من السلطات والدرك وبارونات التهريب، إلا أن أحدهم تجرأ بالحديث بسخرية عن قانون تقنين زراعة القنب الهندي، وقال إنه اعتاد على «الكيف» منذ ولادته، و»القانون يخص أهل المدينة، ولا علاقة له بالفلاحين»، مستدركا:»نحن ندخن الكيف متى نشاء وأينما نشاء، ومستعدون لتقديم النصيحة للحكومة إن فكرت في نقل التجربة الهولندية إلى المغرب». يسود الترقب جل المزارعين، الذين التقتهم «الصباح» في المنطقة، ويوافق باقي أصدقاء الشاب المتحدث على أن القانون الجديد سيمكنهم من التخلص من قبضة بارونات التهريب، فالمزارعون بسطاء، يبدون استعدادهم للانخراط في العملية، شريطة ضمان مبدأ الشفافية، وقال أحدهم بطريقة غاضبة :»أنا نبيع للدولة الكيف أحسن ما نبقا تابع لكبار المهربين». لكن كيف ستتعامل الدولة مع المزارعين؟ إنه السؤال الذي يردده سكان المنطقة، ويجمعون على ضرورة تأسيس تعاونيات، تحت إشراف السلطات، وتحديد ثمن بيع المحصول، مشيرين إلى أن الخاسر الأكبر في هذا القانون هم كبار المهربين الذين سيضطرون للزيادة في الثمن، وربما زرع حقول جديدة ل»الكيف». يشتد تساقط الأمطار، في «باب برد»، وتدور عجلة السيارة في اتجاه كتامة، بعد اجتياز حاجز للدرك أشد مراقبة لكل العابرين، ثم تفتح مناطق شاسعة تتشابه في الاستعداد لغرس المشاتل، كما تتشابه أحلام المزارعين في التخلص من عبء لا ذنب لهم فيه... كتامة هي الأرض التاريخية للقنب الهندي، تنتظر من ينصفها ويحمي أبناءها. شرامطي : التقنين يقطع الطريق على المهربين يرى سعيد شرامطي، رئيس جمعية الريف الكبير لحقوق الإنسان، أن تقنين زراعة القنب الهندي سيعود بالنفع الكبير، في مجموعة من المجالات، خصوصا أن دراسة للحكومة الهولندية أظهرت أن 58 في المائة من السياح الأجانب الذين يزورون أمستردام فقط، هدفهم استهلاك الحشيش، رغم أن القنب الهندي غير قانوني، لكن مرونة القانون جعلت حيازة أقل من خمسة غرامات منه غير مجرمة منذ 1976، بموجب سياسة يطلق عليها «التسامح»، ويسمح لأكثر من 650 مقهى ببيعه. كما تجمع الدارسات أن تقنين زراعة وتجارة الحشيش ستحاصر العصابات الإجرامية التي تستغل القاصرين، وتقنينه سيمكن الحكومة من التحكم في تجارته، ويحد من نشاط المافيا العالمية للتهريب الدولي للمخدرات التي أبانت التقارير أنها تستغل أرباحها في أغراض سياسية أو دعم الجماعات و المنظمات المتطرفة. وفي المجال الحقوقي، اعتبر أن تقنين زراعة القنب الهندي سيكون فرصة للإعلان عن عفو قانوني عن فلاحي هذه النبتة، الذين يعيشون أوضاعا مزرية.

حقـول ״الكيـف״ … فقـر ورعـب

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

هل ستحشر المحكمة الدستورية في قضية سياسية؟

يقتل زوجته بـ"حديدة" بالبيضاء

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات