كدروري: الرعاية الصحية الشاملة في المغرب … في الحاجة إلى تصميم استراتيجية صحية أوسع نطاقا

أثار موضوع تحسين صحّة المجموعات السّكانية جدلاً كبيرا في جميع الاوساط والمنتديات التي تهتم بالرّعاية الصّحية، ويندرج ذلك في إطار مجهود المجتمع الدّولي، بإشراف من المنظمة العالمية للصّحة (who)، لدفع الحكومات إلى تصميم أنظمة رعاية صحية شاملة، تتجاوز المنظور الضّيّق للتطبيب، بمساهمة و بتنسيق جميع صنّاع السّياسات العمومية و ليس مسؤولي القطاع الصّحي فقط. يرصد المقال الحالي حاجة بلادنا إلى الانخراط في هذه الدينامية لتحقيق صحّة أفضل للمغاربة، وبالنتيجة، بلوغ أهداف التنمية المستدامة للعام 2030. 1. بعد التأكيد الرسمي على استنفاذ نموذجنا التنموي لكلّ المقوّمات المتطلّبة للنهوض بالتنمية المستدامة، هل أصبح لازما علينا إعادة النّظر في الدّعائم التي انبنى عليها -حتى الآن- نظام الرّعاية الصّحية ببلادنا ؟ هذا النّظام الذي لم يحفل، وكما هو الشأن في العديد من جهات العالم، إلاّ بجانب طفيف من العوامل التي تُحدّد النتائج الصّحية الشّاملة للسّكان (و التي قدّرتها بعض الدراسات في نسبة تأثير لا تتجاوز 15%)على الرّغم من وجود عوامل أخرى عديدة مؤثّرة (تحظى بحصّة الأسد) ترتبط بأنماط حياتنا وبيئتنا المحلية، كظروف العيش والتعليم والنّقل والابتكارات التكنلوجية، إضافة إلى سلوكيات الأفراد، إلاّ أنها محدّدات ظلّت موجودة –للحقيقة –خارج نطاق سيطرة صنّاع سياسة الرّعاية الصّحية عندنا. فبغرض تخفيف الضّغط الذي يتعرّض إليه نظام الرّعاية الصّحية، بمفهومها التقليدي، والذي لم يعد قادراً على تحمّل إجراءات تحسين الصّحة من خلال تشخيص الأمراض والمشاكل الصّحية وعلاجها والوقاية منها، وبهدف إحداث أكبر قدر من التأثير على الصّحة العامّة، ومن أجل بلوغ أهداف خطّة التنمية المستدامة للعام 2030، بات ضرورياً اتّباع نهج جديد في العمل وتسخير أوجه التّعاون والتآزر لتحقيق أوضاع مُرضية للجميع بشأن الحالة الصّحية ككلّ، وذلك عبر تصميم استراتيجية صحية شاملة/مندمجة تتجاوز النّظرة التقليدية للرّعاية الصّحية المُقترنة حصرياَ بالخدمات الطّبية والتّمريضية، لتُعطي اهتماماً مطّرداً لباقي المُحدّدات الاجتماعية للصّحة التي لا تشكّل البرامج ذات المرامي والأهداف العلاجية إلاّ إحداها، بصورتها المعهودة التي تجسّدها رُزنامة المشاريع المندرجة في البرامج الميزانياتية لوزارة الصّحّة مستهدفة، في الأقصى، "تعزيز العرض الصّحي" و"تعزيز البرامج الصّحية الوطنية" و"تحسين الولوج إلى الأدوية والمستلزمات الطّبية" و"التكفّل بالفئات الاجتماعية ذات الاحتياجات الخاصّة" و"صون البنيات والتجهيزات الأساسية" و"تعزيز الإطار التشريعي والتنظيمي للقطاع الصّحي " تتخلّلها – بشكل مُحتشم- بعض التّدخلات ذات الطّابع الوقائي والاحترازي كـ"الرصد الوبائي واليقظة والأمن الصّحيين" و"برامج محاربة الأمراض السّارية وغير السّارية". لذلك، فقد كان مشروعاً التساؤل عن الأفق الزّمني لديمومة سريان هذه البرامج التي تُؤثث كلّ مخططاتنا الاستراتيجية للرّعاية الصّحية المنصبّة أساساً على فترة المرض، بمؤشّراتها ذات التّطّورات المحدودة والبطيئة، والتي تنقصها الرؤية الأوسع نطاقاً التي تُفيد في تحديد مدى حاجتنا أصلا إلى هذا النّوع من الخدمات الطّبية والتمريضية من عدمها. 2. لقد تزايدت معدلات الأمراض المزمنة، وأخذت فجوة التفاوتات الصّحية في الاتّساع، وأدى انتشار الأمراض غير السّارية إلى استنزاف الموارد الصّحية، إذ تكفي الإشارة فقط إلى حجم الاستثمارات الضّخمة الموظّفة خلال السنة المنصرمة في عمليات اقتناء الأدوية للتكفّل ببعض الأمراض كالسكّري ( 172 مليون درهم) والسّرطان (150 مليون درهم) إضافة إلى الاعتمادات المالية التي خُصّصت للتكفّل بأكثر من 10 آلاف مريض بالقصور الكلوي والتي بلغت حوالي 500 مليون درهم، فيما بلغ مجموع الاعتمادات المرصدة للحساب الخاص بالصّيدلية المركزية برسم سنة 2017 بغرض تمويل المشتريات المجمّعة من المواد التّفاعلية والكيميائية والبيولوجية والصيدلية والمستهلكات الطّبية لفائدة المؤسّسات الصحية 3.330,61 مليون درهم. وفي مقابل كلّ هذه المجهودات، مازالت مساهمة الأسر في نفقات العلاج جدّ مرتفعة، إذ تجاوزت سنة 2013 نسبة 50,7 % في الوقت الذي توصي فيه منظمة الصّحة العالمية بنسبة لا تتجاوز 25% فقط. و في هذا الإطار، فقد كشف تقرير الرّصد للمنظّمة برسم سنة 2019 في ما يخص الرّعاية الصحية الأولية معطيات صادمة بخصوص النّفقات الباهظة لتغطية الأفراد وعائلاتهم للخدمات الصحية (تدخل ضمن المؤشر 2-8-3 من مؤشّرات أهداف التنمية المستدامة). فما بين عامي 2000 و 2015 ارتفعت نسبة السّكان الذين تتجاوز نفقاتهم الخاصة 10% من ميزانية أسرهم من 9,4% إلى 12,7%. في حين ارتفعت نسبة السّكان الذين تتجاوز نفقاتهم الخاصة 25% من ميزانية أسرهم من 1,7 % إلى 2,9 % ، ممّا يعني أن ما يقرب من 930 مليون شخص أنفقوا أكثر من 10% من دخل أسرهم على الرّعاية الصحية في عام 2015، وأنفق 210 مليون شخص أكثر من 25% من هذا الدخل. و أدى، بذلك، هذا الإنفاق إلى ارتفاع النسبة المئوية للسّكان الفقراء من 1,8% في عام 2000 إلى 2,5% في عام 2015، مما يعني أنّ الحماية المالية للأفراد لا زالت تشهد تدهورا متزايدا. هذه الإكراهات لن تترك لنا خياراً آخر سوى منحى فتح قنوات التنسيق والتعاون بين قطاع الصحّة الذي ما زال يُنظر إليه - تقليدياً - كالمسؤول الأوّل عن توفير خدمات الرّعاية والعلاج الصّحيين بكلّ الجودة المطلوبة، والجهات المعنية في القطاعات غير الصّحية – التي لا تندرج الصّحة ضمن أولويات برامجها التنموية- (كالهيئات الوزارية المكلفة بالزّراعة والتغذية والتعليم والبيئة والتجهيز والتشغيل والجماعات التّرابية وأرباب العمل ومبادرات المجتمع المدني)، وهو أمر لا محيص عنه لبلوغ النتائج الصّحية الشاملة. بل حتّى على مستوى قطاع الصّحة، فقد ركّزت تقرير الرّصد للمنظمة المشار إليه سابقا على أهمية الاستثمار، أولا وقبل كلّ شيء، في تعزيز الرّعاية الصحية الأولية والتركيز أكثر على تعزيز الصّحة والوقاية من الأمراض لتحاشي الاضطرار إلى الاستعانة بخدمات ذات تكلفة عالية أو تأخير الاضطرار إلى الاستعانة بها لتزيد بذلك فعالية الانفاق الصّحي وانقاذ الارواح و رفع متوسّط عمر السكّان. لهذا وجهت التقارير دعوة صريحة إلى جميع الحكومات بالعمل على زيادة ما تستثمره من ناتجها المحلّي الإجمالي بنسبة 1% لتخصّصه لمجال الرّعاية الصّحية الأولية لأنها أقرب طريق لإقامة مجتمع يستفيد فيه الجميع من الحقّ بالصحة كحقّ من حقوق الانسان و تحقيق التغطية الصّحية الشّاملة. فمنذ نونبر1989 أبرز ميثاق أوتاوا لتعزيز الصّحة أنّ العدالة الاجتماعية والإنصاف من الأسس الجوهرية للتمتّع بالصّحة، كما أجمع على أن جهود تحسين الصّحة لا تقع على كاهل قطاع الصّحة. فاتخاذ خيارات قانونية للمساعدة في وقاية النّاس من الإصابة بالأمراض غير السّارية ومكافحتها(كتنظيم كمية الملح والسّكر في الأطعمة والمشروبات المصنعة والتي تحفّز أوبئة الأمراض القلبية والسّكري من النّمط 4 ) عادة ما تكون أرخص وأجدى من خيارات الرّعاية الصحية للمصابين بهاذين المرضين (المصنفين ضمن خانة الأسباب العشرة الرئيسية للوفاة في العالم). كما أن سنّ قوانين تُشدّد على حظر تسويق التّبغ والاعلان عنه و التّرويج له وجعل الأماكن العامّة المغلقة وأماكن العمل خالية من الدّخان سوف تحدّ حتما من استهلاك الأفراد لمنتجات غير صحية. وربّما يُسهم كذلك الاستثمار في فكّ العزلة أو إنشاء مضخّة مياه أو إنجاز شبكة مجاري، في تحسين الصحّة بالمناطق المحرومة والهامشية أكثر من ضخّ اعتمادات مالية اضافية لاقتناء مضادات حيوية أو إنشاء تجهيزات صحية جديدة. ففي سنة 2016، أكّد المؤتمر العالمي التّاسع لمنظّمة الصّحة العالمية بشأن تحسين الصّحة المنعقد بشنغاي تحت شعار" تحسين الصّحة في أهداف التنمية المستدامة" أنه لا يوجد في الوقت الحالي سوى 12 % من مدن العالم القادرة على بلوغ الغايات المتعلّقة بمحاربة التّلوث، مما حدا بالمنظمة، وهي تضع نصب عينيها نسبة الــ70 % من سكّان العالم الذي سيعيشون في المدن بحلول 2050، إلى تحديد موضوع "التّحضّر" بوصفه واحداَ من التّحديات الرئيسية الماثلة أمام الصّحة العمومية في القرن الواحد والعشرين. وفي ماي 2017 أقرت الحكومات إبان مؤتمر الصّحة السبعين لمنظّمة الصحة العالمية مجموعة "أفضل الخيارات" بحسبها أفضل "التّدخّلات الصحية" للوقاية من الأمراض غير السّارية ومكافحتها والتي يمكن، حال تنفيذها، أن تساعد الدول على بلوغ الغاية 3-4 من أهداف التنمية المستدامة التي تروم الحدّ من الوفيات المبكّرة النّاجمة عن الأمراض غير السّارية بمقدار الربع بحلول عام 2025 و بمقدار الثّلث بحلول عام 2030. فبدل اقتصار النّظر على مجهودات علاج السّكري (الذي يُعدّ هو كذلك واحد من الأسباب العشرة الرئيسية للوفاة في العالم) تم تحديد قائمة العوامل/السّلوكيات غير الصّحية (الموصوفة بـ"أسباب الأسباب") التي يمكن أن تزيد من نسبة الإصابة به، منها خاصة السّمنة وقلّة النشاط البدني... إلى جانب عامل الوراثة. 3. إنّ تركيز صنّاع السّياسات الصّحية في العالم أصبح منصبّاَ، أكثر فأكثر، على جميع محدّدات الصّحة و ليس على الرّعاية الصّحية وحدها لتحسين المساواة الصّحية في الأماكن الحضرية، سيما في الأحياء الهامشية المحرومة من الخدمات باعتماد قاعدة بيانات تفيد في حصر المحدّدات الأوْلى بتوجيه التدخّلات التي تؤدي إلى نتيجة موفّقة ودائمة. والمؤكّد اليوم أنّ ليس هناك علاقة بين تقديم مزيد من الرّعاية الصّحية وتحقيق صحّة أفضل للتجمعات السكانية، فربّما يكون الأمر مرهونا أكثر بنظام غذائي مأمون و صحّي و/أو تحسين نوعية الهواء و/أو مستوى النّظافة الصّحية... وجهة النّظر هذه عبّر عنها الدّكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظّمة الصّحة العالمية في خطاب ألحّ فيه على ضرورة "تغيير نموذج الأمراض"، بحيث لا يجوز من الآن اعتبار الأمراض (أو الصّحّة بشكل عام) كـ"مسألة تكديس للأدوية في المستشفيات وتدريب العاملين في مجال الرّعاية الصّحية". فالشأن الصّحي هو شأن عام يهمّ الجميع، والانخراط في اتخاذ التّدابير الصّحية أمر يعني كلّ القطاعات. فكلّ السياسات المالية، يمكن توجيهها تحت قيادة الوزارة المكلّفة بالمالية، وبإمكان الاتفاقات التّجارية المبرمة أن توجّه عملية تصدير واستيراد المواد الغذائية والمشروبات غير الصّحية، كما يقع على كاهل الوزارة المكلّفة بالبيئة مسؤولية اتخاذ التدابير الكفيلة بتنقية الهواء الذي يتنفّسه كلّ الأفراد، و يُحمَّل التعليم الأولي مسؤولية تربية أطفالنا وتعليمهم قيم ومبادئ الحفاظ على صحتهم من الاعتلال... 4. في هذا السّياق الشّامل، يندرج برنامج "المدن الصّحية" الذي تمّ الشّروع في تنفيذه منذ تّسعينيات القرن الماضي برعاية من أجهزة منظّمة الصّحة العالمية، وهو البرنامج الذي تمّ اعتباره جزءا من الحملة الخاصّة بالتحضّر و الصّحة التي أُطلقت (في أبريل 2010) بمناسبة يوم الصّحة العالمي، بوصفه أداة فعّالة لتحسين المساواة الصّحية في المناطق الحضرية، ولا سيما في الأحياء المنخفضة الدّخل والمحرومة من التجهيزات والخدمات وذلك بهدف "المحافظة على صحّة ورفاهية سكان المدن بالتّصدي للقصور في المساواة في خدمات الرعاية الصحية، الوقائية والعلاجية، والآثار السّلبية للمحدّدات الاجتماعية الخاصّة بالصّحة و معالجتها" واضعا بذلك الصّحة على رأس قائمة الأولويات الإدارية والتّنموية وتخصيص الموارد المالية اللازمة للبدء في الأنشطة الخاصّة بحشد وتعبئة سائر القطاعات والجهات الفاعلة. ولبلوغ هذا المبتغى، فقد ارتكز البرنامج على مؤشّرات رصد مستخلصة من 80 معياراً من معايير تصنيف المدن على أنها مدن صحية، لا يرتبط منها سوى 33 معيارا بالرعاية الصّحية بمفهومها العلاجي/ الطبي و التمريضي. وقد شمل البرنامج، منذ انطلاقته، دولا عديدة في كلّ جهات العالم، بما فيها شرق المتوسط، كإيران و أفغانستان وباكستان و البحرين و العراق وعمان والمملكة العربية السّعودية.. ولايزال يشهد التزاما كبيرا من مدن أخرى حول العالم في كلّ مناسبة للاحتفال بيوم الصّحة العالمي. وقد صمّم المكتب الإقليمي لمنظمة الصّحة العالمية لشرق المتوسط دليلا موجزا لتنفيذ برنامج المدينة الصحية بناء على ما اكتسبه من خبرات سابقة من أجل توحيد جميع عمليات تنفيذ البرنامج المذكور، ومن تم بلوغ مرامي تحسين الصّحة والمساواة الصّحية ونوعية الحياة في التّجمعات الفقيرة في المناطق الحضرية. وفي نفس الإطار، تندرج كذلك مخرجات المناظرة الوطنية الثانية للصّحة، المنظمة (في يوليوز 2013) بمراكش تحت شعار "من أجل حكامة جديدة لقطاع الصحة" التي توجت بإصدار مجموعة من التوصيات يمكن اعتبارها أرضية لإعداد مشروع ميثاق وطني للصّحة كإطار استراتيجي سيُحدد الأولويات الكبرى للعمل في مجال الصّحة على المدى الطويل بتشديده على ضرورة استحضار إدماج البعد الصحي في مختلف السّياسات العمومية في إطار من النّجاعة والالتقائية عبر إعادة توزيع الأدوار مجاليا وقطاعيا، ضمن مقاربة ترابية جديدة وذلك بالنظر إلى متطلبات الصّحة الجهوية (في أفق الجهوية المتقدّمة) والأدوار التكميلية بين القطاعين العام والخاص. لذلك، فقد جُدّدت الدّعوة على هامش هذه المناظرة إلى السّلطات العمومية والجماعات الترابية قصد العمل على ضمان التّمتع الفعلي للمواطنات والمواطنين بحقوقهم الدّستورية في الرّعاية الصّحية والحماية الاجتماعية، وتعبئة كلّ الوسائل المتاحة وتجنيد كافة أجهزتها لرفع تحديات تحقيق الإنصاف والحق في الصّحة في أفق التّغطية الصّحية الشّاملة. 5. وعليه، وإضافة إلى كلّ المنظومات العلاجية التي تشرف عليها، فمن الضّروري أن تلعب وزارة الصحة أيضا - في إطار لجنة توجيهية أو مجلس تنسيق- دوراَ محورياَ أيضاَ لتأطير مختلف السياسات العمومية المرتبطة بالخدمات والقطاعات الأخرى المتدخلة بهدف اتساق مخطّطات الوقاية من الأمراض ومواءمة البرامج وربط أنظمة الرعاية الصّحية بغيرها بُغية تجاوُز برامج العمل الظّرفية و/أو الاستعجالية وللمساهمة أكثر في انسجام مجهودات الدّولة في هذا الشّأن. فعليها، والحالة هذه، أن تستفيد من الفرصة الكبيرة التي تُتيحها خطة التنمية المستدامة لعام 2030 للضغط من أجل تحقيق هذا النّوع من التنسيق بين كلّ السّياسات العمومية حتّى يترسّخ الاعتقاد لدى الجميع بتعدّي موضوع التّحسين والإنصاف في الصّحة القطاع الصّحي، فتتعزّز بذلك مجهودات رصد وتطوير الأنشطة الوقائية ضد المخاطر الصّحية التي تنتج عن تدهور البيئة وظروف العيش داخل المدن والتي تتسبّب في الأوبئة والعلل التعفنية المتنقلة والأمراض المزمنة وحوادث الطّرق. فالإقرار بعدم قدرة أي طرف على مجابهة هذه التأثيرات المختلفة على الصّحة العامة بمفرده أمر في غاية الأهمية، وهو لم يعد يهمّ فقط تحسين خدمات الرّعاية الصّحية الموجّهة إلى فئات مختلفة من المرضى، بل يشمل نطاقا أرحب يهمّ جميع السّكان الذين يعيشون في حيّز جغرافي محدّد بشمول تلك المحدّدات الأخرى ذات التأثيرات المعقّدة و المتعدّدة على الصّحة كالإسكان و التنمية الاقتصادية و الشروط البيئية.. ثمّ إن ذلك يستلزم أيضا فهماً كبيرا لكلّ التّهديدات الصّحية مع إعداد خرائط للأوبئة ووضع مؤشّرات لقياس و تقييم آثار أنشطة التنمية على تحسين الصّحة والإنصاف في مجال الصّحة، مع العمل بشكل منسّق و منظّم حتى لا تخفق الجهود وتضيع المسؤوليات بتحوّل موضوع الرّعاية الصّحية الشّاملة إلى شأن مشاع، يهمّ الجميع و لا يهم أحدا في نفس الوقت، بالإضافة إلى اتخاذ كلّ الخطوات الاحترازية لتأمين الحماية من تدخّل محتمل لدوائر الصّناعة في رسم وتوجيه السّياسات الصحية الشّاملة و التنمية المستدامة (خاصّة صنّاع المواد الغذائية، التّبغ، الكحول..). 6. فإذا كانت الكثير من الدّراسات قد أثبت أنّ ما يحدث في مرحلة الطّفولة بالذّات له تأثير مستمرّ مدى الحياة على صحّتنا، فإنّه من المؤكّد كذلك أنّ التّدابير الصّحية التي تهمّ الفرد يُفترض ان تُتّخذ حتى قبل وجوده (إذ تهم رصد الحمل والتغذية السّليمة و المتوازنة للأم...) و تستمرّ، مع تقدّم الإنسان في السّنّ، في تفاعل مع العديد من المحدّدات لتحديد مدى تمتّعنا بالصّحة. من هنا، فإنّ تصميم أي استراتيجية في شأن تحسن الصّحة والانصاف في الصّحة ينبغي لها أن تعكس هذا الأمر بهدف مواجهة العوامل المؤثّرة على صحّتنا وكافّة الرّوابط التي تجمع بينها. فقد حدّد تقرير صادر سنة 2016 عن مؤتمر القمّة العالمي للابتكار في الرّعاية الصحية، المعروف اختصاراً بمنتدى (ويتش – WISH) بشأن المجتمعات السكّانية الصّحية، (حدّد) مجموعة من التّدابير كإطار عمل لتصميم استراتيجية مندمجة لتعزيز الجوانب المختلفة لصحّة المجتمعات السّكانية تتجاوز حدود المفاهيم الطبية وذلك انطلاقا من 05 دراسات عيانية ناجحة حول نُهج تحسين الصّحّة انصبت على مجتمعات محلية ومبادرات لبعض المنظّمات والحكومات (كوبا نموذجا). البداية، كانت بتحديده لثلاث مجالات ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند وضع هذا النوع من الاستراتيجية، مع التركيز كثيراً على العنصر المحلّي، باستخدام البيانات المتوفّرة لتوزيع المجتمعات السّكانية إلى فئات اعتمادا على الخصائص المشتركة فيما بينها كالفئة العمرية أو الحالة الصّحية أو المخاطر الصّحية. وتهمّ هذه المجالات الثّلاث: -تأثير المحدّدات المتعدّدة للصّحة: وهي المؤثّرات المختلفة التي تتفاعل لتؤثّر في الصحة بما فيها البيئات الاجتماعية والاقتصادية (كالتعليم والدّخل..) والبيئات الطبيعية (كالمنزل والحدائق والطّرق..) والسّلوكيات الفردية (كالنّظام الغذائي والأنشطة الرياضية المحتملة..) والرّعاية الصّحية وباقي الخدمات ( كالولوج للصّحة ومستوى جودتها) ثم العمر والنّوع و الاجتماعي والعوامل الوراثية)؛ -المستويات المحتملة للعمل: والتي تعني الكيفية التي يمكن بها التّصدي للمحددّات المختلفة للصّحّة انطلاقا من السيّاسات العمومية والتشريعات ثم الأفراد والأسر، مع استخدام الموارد والأساليب المناسبة لكلّ مستوى من هذه المستويات و وضع مؤشّرات للرّصد والتقييم بينها جميعاً؛ -وحدة التّركيز على السّياسات والتّدخّلات: والمقصود بها أن تركّز الاستراتيجية الهادفة إلى تحسين الصّحة على مجموع السّكان الذين يعيشون في منطقة جغرافية محدّدة دون أن يعني ذلك أخذ الجميع بعين الاعتبار في وضع السّياسات الصّحية. فيمكن تصميم التّدخلات لتستهدف مجموع السّكان في حال التركيز –مثلا- على الرعاية الصحية أو الإجراءات الشّاملة التي ترمي إلى تحسين البيئة الطّبيعية لمجمع محلّي بأكمله. ويمكن أن توجّه هذه التّدخلات لفئات أو شرائح سكّانية محدّدة كأن تركّز على الخدمات الرّامية لتحسين صحّة الأطفال أو المراهقين أو ذوي الاحتياجات الخاصّة. كما يمكن أن تركّز هذه التّدخّلات على الأفراد بحيث يمكن تصميمها لتستهدف بصفة خاصّة احتياجات محدّدة للفرد. فاحتياجات فئة الأطفال الذين يعانون من صعوبات التّعلّم لا تحتاج إلى نفس الخدمات التي يمكن تقديمها لكبار السّن في إطار محاربة الحالات الصحية الطويلة الأمد ضمن برنامج خاص بالشيخوخة. ويمكن استلهام هذه التّدابير الموجّهة لجميع صنّاع السّياسات العمومية بغرض تصميم استراتيجية شاملة لتحسين صحة المجتمع والتي جاءت على شكل خمس توصيات تروم تحديد المبادئ التي ينبغي أن تقوم عليها هذه الاستراتيجية وكيفية تحقيق ذلك: أولا) فهم المشكلة ووضع أهداف واضحة من أجل التحسين وذلك عبر استخدام البيانات لدراسة وفهم صحة المجتمعات السّكانية و تحديدها إلى شرائح بناء على احتياجاتها ثم وضع أهداف واضحة (التي يجب ان تكون طويلة الأمد) للتحسين انطلاقا من التدابير العملية المشتركة مع استخدام أدوات للقياس و التقارير بشأن التّقدم المحرز؛ ثانيا) التّركيز على جميع العوامل المحدّدة للصّحة لا على الرّعاية الصّحية فقط بحيث يجب أن تشمل الإجراءات المتخذة (خاصة جهود الاستثمار المتوازنة بناء على أدلة وبيانات محددة) البيئات الاجتماعية والاقتصادية و سلوكيات الأفراد والعوامل الوراثية إلى جانب خدمات الرّعاية الصّحية بكلّ تأكيد وكذا باقي الخدمات الأخرى؛ ثالثا) اتّباع نموذج المساءلة المشتركة لتحسين صحة المجتمعات السّكانية، إذ يُلزم أن يُتّخذ قرار تحديد أهداف تحسين الصّحة على أعلى المستويات الحكومية مع وضع آليات لإخضاع الإدارات المختلفة للمساءلة بغرض تحسين المؤشّرات جنبا إلى جنب مع تعزيز دور المجتمع المحلّي من خلال خدمات الجهات غير الحكومية والشّركات والجماعات المحلية؛ رابعا) تمكين الأفراد والمجتمعات المحلية وتطوير قدراتها عبر وضعهم في صميم استراتيجية صحّة المجتمع السّكاني بفهم أهدافهم الصحية وتطوير قدراتهم على إدارة صحتهم وضمان اشراكهم في صنع القرار، كما يستلزم ذلك أيضاً تكوين وتدريب مهنيي الصّحة على كيفية اتخاذ القرارات المشتركة وتقييم الأداء وغيرها..؛ خامسا) إدراج العدالة الصّحية كمكوّن أساسي من مكوّنات استراتيجية تحسين صحة المجتمعات السّكانية، بحيث يجب التركيز على أولوية تحسين العدالة الصحية في جميع السياسات العمومية والبرامج عبر الانصات للفئات المهمّشة والمحرومة وأخذ مقترحاتها بعين الاعتبار في أي تدبير للتحسين والانصاف في الصّحة مع قياس ورصد العدالة الصحية على المستويين، الوطني والمحلّي كمقياس لمدى تمتّع المجتمع بصحّة جيّدة. سعيـد كدروري: باحث في المجال الصحي

كدروري: الرعاية الصحية الشاملة في المغرب … في الحاجة إلى تصميم استراتيجية صحية أوسع نطاقا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الأجرومي: دور الأحزاب السياسية في اختيار المرشحين مقاربة نظرية

الشارف: احذروا المرض الجديد القديم ... "مرض التدخل العائلي"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات