مقتل أيت الجيد … المحاكمة العادلة بين المتهم والضحية

قراءة في الجدال القانوني في قضية بنعيسى وحامي الدين تعيش قضية حامي الدين المشتبه في مساهمته في مقتل الطالب أيت الجيد فصلا جديدا وحاسما من أجل إماطة اللثام عن أحد أعقد القضايا التي تفرق فيها دم الضحية بين المساهمين والمشاركين في الجريمة، والتي حان أمد حجب الحقيقة عنها. مرد هذا الكلام هو صدور قرار قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس القاضي بمتابعة حامي الدين العضو السياسي البارز والمستشار البرلماني والمنتخب المحلي أمام غرفة الجنايات. بقلم: إسماعيل إسماعيل كرونولوجيا الأحداث خلال فبراير من 1993 شهدت فاس أحداثا دامية راح ضحيتها الطالب محمد أيت الجيد المعروف ببنعيسى متأثرا بجراحه، وعندئذ تم إلقاء القبض على مجموعة من الأشخاص منهم المشتبه فيه عبد العالي حامي الدين الذي وجهت له تهمة الضرب والجرح المفضيين الى الموت بدون نية إحداثه، وإلحاق خسائر مادية بملك الغير. وبعد المحاكمة أصدر القضاء حكمه في القضية بإدانة المتهم من أجل جنحة المساهمة في مشاجرة أدت إلى وفاة طبقا للفصل 405 من ق ج بعد إعادة التكييف بدل الضرب والجرح المفضي الى الموت بدون نية إحداثه ومعاقبته بسنتين حبسا نافدا، وأصبح الحكم حائزا لقوة الشيء المقضي به. في حين ظل مجموعة من المشتبه فيهم في حالة فرار وصدرت أحكام أخرى في نفس القضية منها عشر سنوات حبسا للمساهم في القتل العمد، فيما نقضت محكمة النقض حكما واحدا. خلال سنة 2012 تقدم ذوو بنعيسى أيت الجيد بشكاية أمام النيابة العامة المختصة قضت بحفظها لسبقية البت. في 2013 قدمت شكاية أمام اضي التحقيق قرر بشأنها عدم فتح تحقيق. 2015 تم إلقاء القبض على أشخاص آخرين مشتبه فيهم في عملية القتل، أحيلوا على المحاكمة. وأثناء المحاكمة وتحديدا سنة 2016 أدلى شاهد بشهادة تفيد أنه في غمرة الأحداث انقسم الفصيل في عملية مقتل الطالب أيت الجيد، ويستشف منها أن عبد العالي حامي الدين كان من بين الطلاب الدين ساهموا في عملية القتل بصفة مباشرة. وفي 2017 تقدم ذوو ايت الجيد بشكاية مباشرة أمام قاضي التحقيق في مواجهة حامي الدين من أجل المساهمة في القتل مع سبق الإصرار والترصد على أساس وقائع جديدة فتقرر على إثرها فتح تحقيق طبقا للمادة 95 من ق م ج والذي انتهي بإحالة المتهم على غرفة الجنايات. تدوينة وزير الدولة مباشرة بعد ذلك خرج مصطفى الرميد وزير العدل والحريات سابقا ووزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان حاليا بتدوينة على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، معلنا تلقيه باندهاش كبير إحالة عبد العالي حامي الدين على الغرفة الجنائية من أجل المساهمة في القتل العمد من قبل قاضي التحقيق وتابع قائلا " العجيب هنا هو أن هذه التهمة سبق أن حوكم من اجلها سنة 1993 في قضية بنعيسى ايت الجيد، وقد برأته غرفة الجنايات منها وأعادت التكييف على أساس أنها مساهمة في مشاجرة أدت إلى القتل ". ثم استطرد بكيل مجموعة من النعوت والاتهامات الكيدية والقدحية من قبيل قوله : " يبدو أن تكريس حقوق الإنسان في هذا البلد يحتاج إلى نضال مرير ومكابدة لا حدود لها ضد كل قوى الردة والنكوص التي تجر إلى الخلف والتي لن نسكت عليها أبدا " وأن هذا القرار "منحرف عن جادة القانون... وانقلاب في مسار العدالة في المغرب... وبأنه اجتهاد أخرق... والانحراف الجسيم الذي اشر عليه هذا القرار... يوجب المساءلة طبقا لمقتضيات القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة " وعقد حزب العدالة والتنمية إثر ذلك اجتماعا استثنائيا حول الموضوع أعلن بموجبه تضامنه الكامل مع عبد العالي حامي الدين. وتكليف السيد مصطفى الرميد برئاسة لجنة التتبع للدفاع عن عبد العالي حامي الدين. من المؤكد إذن، أن خرجة مصطفى الرميد على النحو الذي تم سرده أعلاه لم تكن لتمر مرور الكرام فقد أثارت العديد من ردود الأفعال الصادمة للفكر الحقوقي والسياسي بفعل الأخطاء التي سقط فيها من خلال استعماله لعبارات قوية تصل حد القذف والتجريح وكيل الاتهامات، بل وتعدت ذلك إلى الابتزاز السياسي للدولة. -وما يهمنا في هذا الإطار، هو التقييم الموضوعي القانوني لما تمسك به من دفوع - تجعل من وجهة نظره - قرار الإحالة باطلا. والتي أفردها في دفعين أساسيين يمكن إعادة صياغتهما على الشكل التالي : الدفع المتمثل في خرق المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. والدفع المتمثل في سبقية البت عندما قال : " العجيب هنا هو أن هذه التهمة سبق أن حوكم من أجلها في 1993 في قضية بنعيسى ايت الجيد وقد برأته غرفة الجنايات منها وأعادت التكييف على أساس أنها مساهمة في مشاجرة أدت إلى القتل ". ذلك ما سنناقشه من أجل توضيح الجانب القانوني في هذه الواقعة، والوقوف على حجم المغالطات القانونية التي تمسك بها مصطفى الرميد عن قصد، أو جهل بالقانون. وورط معه حزبا سياسيا الذي انبرى لرأيه دون تمحيص أو تدقيق في النصوص القانونية والأسس القضائية المسطرية المرتبطة بالمادة الزجرية. العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنص الفقرة الأخيرة من المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على انه " لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو برئ منها بحكم نهائي وفقا للقانون وللإجراءات الجنائية في كل بلد " إن القراءة المتأنية للمادة المذكورة أعلاه مشروطة بوضع الأصبع على عنصرين أساسيين ألا وهما الانتباه إلى ما استعملته المادة من مصطلحين أساسيين هما على التوالي: "الجريمة" ، و"وفقا للقانون والإجراءات الجنائية في كل بلد". ومعنى ذلك بكل تأكيد أن المحاكمة والمتابعة من جديد لا يمكن أن تتم في الجريمة نفسها التي سبق أن أدين من أجلها عبد العالي حامي الدين، ألا وهي جنحة المساهمة في مشاجرة أدت إلى وفاة طبقا للفصل 405 (من ق ج). أما الجرائم الأخرى الممكن أن يكون قد أتاها الفاعل ولم يظهر لها أثر آنذاك بسبب انعدام وسائل الإثبات، فلا يمكن أن تصمد أمام هذه المادة. والسبب في ذلك واضح وبسيط في أبجديات العلوم الجنائية بسبب وجود فرق واضح وصارخ بين الجريمة والوقائع المشكلة للجريمة. فالأولى هي جنس واحد من الجرائم في حين تحتوي الثانية على أجناس متعددة من الجرائم. وقد رأينا كيف أن الشاهد فصل في حديثه عن الوقائع على أن الفصيل الطلابي انقسم إلى مجموعتين من اجل إتيان الجريمة وقد يأتي أحدهم بأكثر من فعل إجرامي واحد، فنكون أمام حالة تعدد الجرائم التي تستوجب محاكمة وعقابا لكل واحد منها. وأما عبارة "وفقا للقانون والإجراءات الجنائية لكل بلد" فمعناها بكل وضوح ومن دون أي تأويل، إحالة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على القوانين الداخلية لكل دولة في موضوع سبقية البت. وبالرجوع إلى المنظومة الجنائية المغربية، لا نجد نصا قانونيا آخر ينظم هذه المسألة سوى المادة 369 من (ق م ج) والتي يتضح جليا أنها مفتاح الحل الحاسم بالنسبة إلى هذه الإشكالية. محتوى سبقية البت تنص الفقرة الأخيرة من المادة 369 من (ق م ج) على أن:"كل متهم حكم ببراءته أو بإعفائه لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من اجل نفس الوقائع ولو وصفت بوصف آخر ". من الواضح إذن أن المشرع المغربي كان أكثر شمولية من المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.، عندما تحدث في هده المادة عن الوقائع وليس عن الجريمة وجعل سبقية البت تشمل ليس فقط الجريمة، وإنما الوقائع المشكلة لها ولو اتصفت بوصف آخر. غير أنه واستنادا للمادة 14 من العهد الدولي اشترط من أجل القول بسبقية البت وعدم إمكانية المتابعة والمحاكمة توفر أحد الشرطين التاليين: أن يكون الحكم الأول صادرا بالبراءة، أو أن يحصل المتهم على الإعفاء من العقاب بأي صورة من صور الإعفاء. وبالرجوع إلى الحكم الأول الصادر سنة 1993 على المتهم عبد العالي حامي الدين، يتضح أنه لا يتضمن تبرئته من المنسوب إليه ولا هو حصل على عفو بشأنه، وإنما أدين من أجل ذلك وقضت المحكمة بمعاقبته بسنتين حبسا نافذا. يتضح إذن أنه على عكس ما جاء في تدوينة مصطفى الرميد الذي اعتبر من وجهة نظره أن "الأمر لا يتعلق بوقائع يمكن الاختلاف حولها.... ولا باجتهاد في تطبيق القانون يخضع للصواب والخطأ..."، أن الأمر يشكل قواعد قانونية لا تشكل أي اختلاف بين الممارسين القضائيين أمام وضوح النص القانوني والتي تثبت بدون أي تردد قانونية المتابعة. قواعد المحاكمة العادلة لعل من أبرز قواعد المحاكمة العادلة كما هي متعارف عليها عالميا ثنائية المساواة بين حق المتهم والضحية في ميزان العدالة الجنائية. ولهذا السبب نجد أن من بين مظاهر التوازن بين حق الضحية والمتهم في إطار المحاكمة العادلة، إمكانية المتهم المدان بعقوبة زجرية جنائية إعادة النظر في الحكم الذي أصبح باتا في حالة ما إذا ظهرت أدلة جديدة تثبت براءته، والحكم له تبعا لذلك بالتعويض عن الخطأ القضائي، ذلك ما قررته المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وكرسه الدستور المغربي والقوانين الداخلية للمملكة. فكيف يمكن القول بإمكانية ذلك بالنسبة إلى المتهم دون الضحية. أليس في ذلك خرق لقواعد المحاكمة العادلة وتفضيلا في المراكز القانونية بين الضحية والمتهم، وتشجيعا على الإفلات من العقاب، وإجهاضا للحقيقة التي تعتبر العنوان الأبرز في العدالة الجنائية؟ يتضح من خلال كل ما سبق أن خرجة الرميد بالشكل الحاد الذي هاجم فيه القضاء ونعته بأبشع الأوصاف والنعوت، تعتبر سابقة خطيرة في مسار تكريس دولة الحق والقانون. وأوجه الغرابة في ذلك أنها لصيقة بصفته الحكومية وزير دولة في حقوق الإنسان تفرض عليه على الأقل وضع المسافة نفسها بين حقوق الضحية والمتهم على حد سواء. صحيح أن الحقيقة مهما طال الزمن لا يمكن إخفاؤها، والشمس من الصعب أن تحجب بشبابيك مخرومة. * عضو الودادية الحسنية للقضاة

مقتل أيت الجيد … المحاكمة العادلة بين المتهم والضحية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بنشعبون يطلق المرحلة الثانية من إصلاح التقاعد

وصفات مزورة لبيع "أدوية" قاتلة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات