رواسب العنف تبدأ من الأسرة وتنتهي بالمجتمع

التنشئة الاجتماعية وتدهور المحيط الاجتماعي من أهم أسباب تطور الظاهرة في المغرب خلص علم الاجتماع إلى أن الطفل يستمد عبر تنشئته الاجتماعية جميع مقومات شخصيته حتى يصل إلى ما هو عليه من النضج والنمو . وتلعب الأسرة بصفتها المؤسسة الأولى التي يتلقى فيها الطفل أول دروسه، دورا أساسيا في اكتساب هذه المقومات، بل وكل الأساسيات التي تدخل في تكوين شخصيته في ما بعد. كما تلعب باقي الوسائط دورها عندما يلتحق بها لاستكمال تكوينه المعرفي والتربوي. ويبقى المجتمع بمختلف مؤسساته الأخرى عاملا أساسيا في تشكيل أول محددات ومعالم شخصية الطفل بكل المبادئ والقيم والعادات، التي قد تجعله عنيفا وعدوانيا في سلوكه مع الآخرين، أو متوازنا متأقلما مع أدوات الضبط الاجتماعي التي يلتقاها منذ الصغر.إن التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الطفل منذ بداية نشأته حتى استكمال درجة من النضج، حسب علم الاجتماع، تعتبر عاملا مهما في جعل الطفل كائنا بشريا مندمجا في مجتمعه ومتفاعلا مع محيطه بشكل إيجابي، كما تكون حاسمة في تحوله إلى كائن جانح عن القانون والأخلاق العامة. فهذه النتيجة هي بمثابة رد فعل للفرد تجاه مجتمعه، أو بعبارة أخرى، فإن كل ما يتلقاه الطفل خلال مسار نموه كفيل بانتاج شخصية قادرة على التفاعل والتكيف مع متطلبات مجتمعهما، أو تشكيل شخصية عدوانية ترى في المجتمع، بالمعنى الواسع، أي في أفراده ومؤسساته، أعداء تجب مقاومتهم والتصدي لهم، وهنا يلتقي علم الاجتماع وعلم الإجرام في النتائج والمسببات ذاتها.يمكن القول إذن إن الدور المنوط بالأسرة والمنظومة التعليمية والإعلام والشارع بشكل عام، أساسي في تشكيل أول بوادر الانحراف أو التأقلم مع المحيط لدى الفرد داخل المجتمع الذي ينتمي إليه.وتعد ظاهرة العنف وفقا لهذا الطرح بمثابة محصلة لطبيعة التنشئة التي يتلقاها الشخص منذ صغره، فمختلف الترسبات LES RESIDUS الناجمة عن فحوى هذه التنشئة تبقى كامنة في لاشعور الفرد ويصعب التخلص منها، كما تعبر عن نفسها في كل مناسبة وحين من خلال سلوكات الفرد اليومية وخطابه ورود أفعاله.الدراسات التي عالجت الظاهرة في المجتمع المغربي، تكاد تجمع كلها على أن العنف بمفهومه الزوجي والأسري وفي الشارع العام، هو نتيجة سيرورة اجتماعية تتحكم فيها التنشئة، بمعنى أن كل ما يتلقاه الفرد من عنف رمزي ولفظي ومادي منذ الصغر يعيد انتاجه نفسه عندما يكبر.إن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الباب أن شخصية الفرد تتحدد انطلاقا من وجود تكامل وتناسق بين مختلف المؤسسات التربوية التي تعنى بتنشئته. هذا التداخل الحاصل بين تلك المؤسسات هو الأجدر بفك ذلك اللغز المخيم على ظاهرة العنف بمختلف أشكاله .التنشئة الاجتماعيةتشير الدراسات العلمية إلى أن العنف إفراز طبيعي لتنشئة أسرية غير سوية، وأوضاع اقتصادية متدهورة، وعلاقات اجتماعية تشوبها الكراهية والحقد، واعتبارات ثقافية يحكمها الجهل والتخلف والعدوانية والفهم غير الصحيح لما يدور في محيط الفرد.هذا يعني أن ثمة مجموعة من العوامل تتضافر فيما بينها لإفراز العنف في المجتمع سواء كانت أسبابا اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو ثقافية، وهي كلها عوامل تهدد الأمن والسلم الاجتماعي، لأن العنف يمثل عدوى تنتقل بين الأفراد والجماعات والمناطق المختلفة، وتؤثر بالسلب على مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية في المجتمع. جرائم القتل والسرقة والاغتصاب التي أصبحت تفرض نفسها في المجتمع المغربي كلها سلوكات تعزز ثقافة العنف، وهي ظاهرة ليست منفصلة عن السلوك الإجرامي ككل. ويرجع البعض أسباب انتشار ظاهرة العنف إلى حالات الاختناق والازدحام والقلق التي أصبح المجتمع يعانيها، ولها تأثير سلبي على أسلوب حياة الأفراد، ما يجعلهم أكثر توترا وانفعالا وقابلية للتلفظ بالكلام النابي أو الدخول في مشاجرات لأسباب بسيطة، إضافة إلى أن القلق الذي يشعر به الفرد جراء تعرضه لضغوطات اجتماعية ونفسية شتى، يجعله أكثر هشاشة نفسيا، أو منغلقا على ذاته ومتعصبا لمواقفه ورافضا للآخر، وهو ما يجعل للعنف طريقا سهلا إلى سلوكاته سواء في علاقته بأفراد أسرته أو في مقر عمله أو في الشارع العام.عنف المحيطظاهرة العنف في المغرب أضحت متمركزة خصوصا في الوسط الحضري، حيث يكثر الازدحام وتتعدد صور الصراع الاجتماعي، والرغبة في الانتقام، فقد يتعرض الفرد في أي وقت لشتى أنواع العنف، ودون ترتيب مسبق، من سرقة أو قتل أو ضرب ...، ومن الممكن أن تتعرض المرأة للتحرش الجنسي والاغتصاب، والعنف موجود أيضا بين الآباء والأبناء، والتلاميذ والمعلمين، وفي المدارس والجامعات، وميادين العمل المختلفة. ويتفق أساتذة وخبراء العلوم الاجتماعية على أن وسائل الإعلام تتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية عن العنف المجتمعي الذي يتجسد في حوادث الانتحار والقتل والضرب، وقد لعبت القنوات الفضائية الخاصة دورا خطيرا في هذا الصدد، إذ أن عرضها لمشاهد العنف والانتقام، يساهم في تعاظم الظاهرة في المجتمع، بجعل العنف الوسيلة الأفضل للحصول على الحقوق المسلوبة. ويحيل ذلك على أن وسائل الإعلام تلعب دورا جوهريا في انتشار ظاهرة العنف في المجتمع، فقد أسهمت فيه إلى جانب الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك من خلال قيامها ببث مشاهد العنف المختلفة والتي تتضمن حوادث الضرب أو القتل أو الاغتصاب، الأمر الذي تنتج عنه محاكاة المواطنين لهذه المشاهد فتزداد معدلات ارتكاب الجرائم. وقد كشفت الدراسات العلمية أن أعمال القتل كثيرا ما تحدث في محيط الأسرة، كما أن تفاصيل بعض أعمال القتل التي حدثت داخل أسر وصلت إلى درجة من البشاعة قد يصعب تصورها. هذا يعني أن الأسرة فقدت الكثير من خصائصها ووظائفها التقليدية، وأصبح المرء يشاهد فيها الكثير من أنماط السلوك الغريبة والشاذة. وتفيد الدراسات التي تم إجراؤها في هذا الصدد بوجود علاقة عكسية بين التعليم والعنف، فكلما زاد تعليم الفرد كلما قلت درجة إقباله على القيام بأعمال العنف. كما أن الأسرة التي لم يحصل أبناؤها على مستوى مناسب من التعليم يرتفع فيها مستوى التوتر والعنف العائلي. وكشفت إحدى الدراسات عن وجود علاقة قوية بين مستوى التعليم واستخدام العنف مع الأطفال، حيث أكدت أن معدل استخدام العنف يرتفع كلما انخفض مستوى التعليم، وينخفض كلما ارتفع.وتربط نتائج الدراسات بين ظروف المعيشة ومعدلات التوتر والعنف العائلي، إذ ترتفع معدلات التوتر في حالات الأسر التي تعيش حياة صعبة والتي يعاني أفرادها من البطالة وتدني مستوى الدخل، و كلما ارتفع عدد أفراد الأسرة، وتدهورت حالة السكن الذي يقيمون فيه، وافتقاره إلى الحد الأدنى للعيش الكريم، إلا أن للعنف أسباب أخرى نفسية واجتماعية لا يمكن اختزالها فقط في المستوى الاجتماعي للأسر. يعتبر الفقر والجهل والمرض الخلفية المناسبة لزيادة الأعمال العدوانية في المجتمع، وقد أسهم فيها تراجع دور المدرسة والجامعة، ما يهدد المنظومة الأخلاقية، خاصة في الظروف الاقتصادية التي تجبر الأم والأب على ترك المنزل لفترات طويلة أثناء النهار من أجل العمل، فيتركان أبناءهما للفضائيات، وما تبثه من قيم سلبية في كثير من الأحيان، ما ينعكس على النسق القيمي لديهم، ويهدد بجيل أكثر عنفا من سلفه. وتفضح الأحداث الأخيرة التي يطرحها الإعلام هذا الواقع الأليم، فهناك جرائم جديدة أصبح المغاربة يعيشون على إيقاعها لم يعهدوها من قبل، إضافة إلى ارتفاع معدلات جنوح الأطفال والمراهقين في صفوف الجنسين معا، فضلا عن العنف اللفظي والرمزي بين المغاربة في الشارع العام والمدرسة، والذي قد يفضي إلى تولد نزعة الانتقام وانتزاع الحقوق بالقوة، في ما يشبه تمردا ضد مؤسسات الدولة ونزعا للمصداقية عنها. رشيد باحة

رواسب العنف تبدأ من الأسرة وتنتهي بالمجتمع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الرشوة وتأخر البت في القضايا تضطر المواطنين إلى العنف

العلم يُشرّح دوافع النزعة العدوانية لدى الطفل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات