ضـبـاط غيـر مرئيـين

الشرطة الجنائية الولائية تعتمد ضباط أبحاث وتدخلات ينصهرون وسط الجموع الساعة الواحدة ليلا، أمام البناية التي تضم أربعة ملاه ليلية ذائعة الصيت، منها "بونجاب"، تقترب متسولة تسدل على ملامحها خمارا من رجل ذي بنية رياضية، فتلاحقه مسافة 10 أمتار، تستعطف أن ينفحها بدريهمات، لكن قبل أن يلتفت، تفر فجأة وبسرعة إلى الاتجاه المعاكس، وهي تقول: "ويلي ويلي! هذا الشاف... سمح ليا... سمح ليا". "آنفيلتراسيون" لم يكن الرجل ذو البنية الرياضية الضخمة، الذي ضايقته المتسولة قبل أن تفر فجأة، غير، حميد نفر، لاعب وطني سابق للكرة الطائرة في فرق معروفة، ويعمل ضابطا في فرقة الأبحاث والتدخلات التابعة لمصلحة الشرطة الجنائية الولائية في البيضاء. ولما رأته المتسولة، اعتقدته زبون إحدى الملاهي فضايقته، قبل أن يتسرب إلى سمعها صوت "الراديو" (جهاز اللاسلكي) الذي يخفيه في ثيابه، لتستنتج أنه رجل أمن، ففرت بجلدها وهي تعتذر. وكان طبيعيا جدا، ألا تتعرف المتسولة على حميد نفر، فهو موجود هنا، من أجل القيام بمهامه الأمنية دون أن يعرف أحد أنه شرطي، تطبيقا لخطة أمنية اسمها "آنفيلتراسيون"، أو الانصهار وسط الجموع. وليس الضابط حميد، الوحيد الذي ينصهر بين مرتادي الشريط الساحلي عين الذئاب وأزقته التي تعج بزبناء الملاهي، والمشتبه فيهم، والمبحوث عنهم من أجل جرائم عدة، ومحترفي سرقة ونشل السكارى، ومروجي المخدرات وغيرهم من الكائنات الليلية. ذلك أن فرقة الأبحاث والتدخلات، تتكون من عشرات العناصر، كلهم ضباط شرطة، ولهم حرية إجراء الأبحاث والتدخلات في نفوذ ولاية أمن البيضاء بكاملها، وبغض النظر عن انقسامها إلى مناطق أمنية، لها شرطتها القضائية المحلية، وفرقها المحلية للأبحاث والتدخلات. ومادامت عين الذئاب، القلب النابض لحياة الليل بالبيضاء، مركز جذب بديهي للمبحوث عنهم والمطلوبين للعدالة، فمصلحة الشرطة القضائية الجنائية الولائية، توفد إليها، حسب الحاجة وحجم الكثافة، ضباطها للأبحاث والتدخلات. وبسبب خصوصية مهام الاستخبار وإجراء الأبحاث في القضايا المفتوحة والتدخل عند الحاجة وإبان أي طارئ، يرتدي الضباط أزياء مدنية، ويحاولون قدر الإمكان ألا يتعرف عليهم أحد، فينصهرون وسط الجموع بالمحيط الخارجي للملاهي وأزقة عين الذئاب. وفي بعض الأحيان، حتى باقي التشكيلات الأمنية لا تتعرف على هذا النوع من الضباط، وهذا ما كانت "الصباح" شاهدة عليه، ليلة الجمعة الماضي، حينما لم تتردد فرقة من الأمن العمومي، في إيقاف ضابطي أبحاث وتدخلات في زقاق بعين الذئاب، لم تتوقع عناصر الأمن العمومي بزيها النظامي، أنهما من الزملاء، وأكثر من ذلك أعلى منها رتبة! تكامل وفعالية لا يلغي تعدد التشكيلات الأمنية التي تمارس مهامها في الشريط الساحلي، الذي يقع تحت نفوذ منطقة أمن آنفا، الانسجام التام والتكامل، فإذا كان نشر عناصر الأمن العمومي بزيها النظامي، يدخل ضمن خطة وقائية لتعزيز الإحساس بالأمن، يكون دور هدف العناصر المدنية، ترصد الشبهات التي تختفي بحضور الأمن العمومي. وبشهادة ضباط، يبقى إنجاز الهدف الأسمى الذي من أجله يوجد الجميع هنا، هو المحدد للعلاقة، إلى درجة أنه يلغي طبيعة الفرقة التي ينتمي إليها كل عنصر، فيتعاونون في ما بينهم ويتبادلون المعلومات في الحين، فحدث مثلا، أن صادف ضابط أبحاث تابع للفرقة المحلية لمنطقة أنفا زميلا له في الفرقة الجنائية الولائية، وتبادلا صورا جديدة لهدف جديد مبحوث عنه. ولعل أبرز حدث ليلة الجمعة الماضي، يكشف انتفاء أي حدود ويعكس التكامل، هو قضية سائق سيارة الأجرة، الذي تورط في سرقة مبلغ 400 درهم وهاتف محمول، من زبونته في شارع الحسن الثاني، بمركز المدينة. فبمجرد تبليغ الضحية عن الحادث، ورقم لوحة سيارة الأجرة، قامت العناصر المداومة في غرفة المواصلات بولاية أمن البيضاء، بتعميم المعلومة وأوصاف السائق وسيارته على كافة الفرق الأمنية عبر جهاز اللاسلكي، فتضافرت الجهود، وتم إيقافه بعد مدة قصيرة. وفي عين الذئاب، توجد عدد من النقط السوداء، يوليها ضباط الأبحاث والتدخلات، اهتماما خاصا، من قبيل ملاه وعلب ليلية، يعرف أنها تستقبل الجميع ولا تحدد عينة الزبناء التي تريدها، لذلك تحولت إلى أوكار، يتوجه إليها المبحوث عنهم من أجل جرائم، أو مروجو المخدرات والأقراص. ولكن تفاديا لبث الهلع في صفوف باقي المرتادين، يحرص الضباط على عدم التدخل وإلقاء القبض على أهدافهم من داخل الملاهي، إذ يكفي أن يتعرفوا عليهم أو يتوصلوا عبر معاونيهم ومخبريهم، أنهم موجودون، فينتظرونهم، أحيانا، إلى أن يظهروا في الأزقة ليتم إيقافهم. قدرات شخصية يعتمد ضباط الأبحاث والتدخلات، على قدرات فردية فائقة، منها الحدس وقوة الملاحظة، إذ يكفي النظر إلى الشخص وتصرفاته، ليستنجوا إن كان مشتبها فيه ويستوجب إخضاعه لمراقبة الهوية والجس الوقائي وأحيانا تنقيطه لمعرفة إن كان مبحوثا عنه أو ذا سوابق. وتستدعي مهام ضباط الأبحاث والتدخلات، أيضا، قوة السمع ودراية بقاموس ومصطلحات المشتبه فيهم، إذ أثناء الانصهار وسط الجموع في عين الذئاب، يسترقون السمع إلى مرتادي الشريط الساحلي، فيهتمون مثلا، بكلمة مثل "مسطرة" حينما تنفلت من لسان أحدهم، فهي يمكن أن تقود إلى اكتشاف عملية ترويج للكوكايين. ويهتم ضباط الأبحاث والتدخلات، أيضا، بظواهر التحرش الجنسي والمناوشات التي تحدث بين ممتهنات الجنس وبعض الزبناء، سيما في الهزيع الأخير من الليل، عندما تلفظ الملاهي زبناءها وقت الإغلاق. وكلما حدث تشابك أو واقعة سوء تفاهم، وتؤدي إلى تجمهر الناس لا بد لواحد من الضباط أن ينصهر ويتجمهر مع الناس، لفهم ما حدث، وللترصد لأي لص، قد يستغل التجمهر لممارسة النشل. السمع يكشف "كوكايين" خلال ليلة الجمعة الماضي، كانت لقوة حاسة السمع والحدس لدى ضباط الـبحاث والتدخلات، دور حاسم في إيقاف شاب ثمل، تبين أن بحوزته غرامات من الكوكايين، ومن شأنه أن يقود إلى تفكيك عصابة أو معرفة مزوده الرئيسي. لقد خرج الشاب مخمورا من ملهى ليلي، وكان في كامل أناقته، فمر من قربه ضابط، فسمعه يتجادل مع حارس سيارات، متحديا وهو يلفظ بكلمات من قبيل "قاضي التحقيق"، و"وكيل الملك"، فلم يتردد الضابطان في مطالبته ببطاقته الوطنية للتعريف. حاول الشاب، الذي أخرج معه كأسا من "الويسكي" من الملهى وواصل ارتشافه بعد ساعة الإغلاق، أن يبعد عنه الشبهات، بإضفاء هالة المعرفة بالحقوق والواجبات والمساطر على نفسه. وهكذا، طالب الضابطين ببطاقتيهما المهنيتين، واستجابا له، غير أنه واصل عنجهيته، ورفض تسليمهما بطاقة الهوية، مدعيا أنه تلميذ ثانوية عسكرية، لكن بتصفيده وجسه وقائيا، تم اكتشاف كبسولات "كوكايين" لديه. مركز التنقيط المتنقل لا يمكن الانصهار وسط مختلف تشكيلات المديرية العامة للأمن الوطني بالشريط الساحلي عين الذئاب، دون إدراك الدور المركزي والرئيسي، والذي لا محيد عنه، لمركز التنقيط المتنقل. بفضل تلك السيارة التي تتوفر على وحدة مركزية للحاسوب مرتبطة بالنظام المعلوماتي للمعطيات الشخصية، يتم القيام بعمليات مراقبة هوية المشتبه فيهم، آنيا وفوريا. فإذا كانت عناصر مختلف التشكيلات المنتشرة، واعتمادا على التكوين الذي حصلت عليه وقدراتها الفردية، تستطيع فرز المشتبه فيهم بين الجموع، فإن نتيجة التنقيط هي التي تحسم الشكوك، فبات التنقيط، إجراء عاديا ومألوفا وروتينيا في الشارع العام. ويظهر أن التنقيط الفوري في المركز المتنقل، يوفر الجهد أيضا، ويساهم في عدم التضييق على الحريات وتقييد تحركات المواطنين، إذ بتنقيط مواطن مشتبه فيه في الشارع العام، وظهور نتيجة بأنه ليس مبحوثا عنه، يغادر على الفور متابعا ممارسة حقه وحريته في التجول. امحمد خيي

ضـبـاط غيـر مرئيـين

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

15 ألف درهم للاعبي آسفي مقابل التأهل للنصف

أمعنان: السكتيوي مثل أخينا الأكبر

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات