“عوينة وحدة”

دهاء متقاضين هم متقاضون ليسوا مثل الآخرين، استطاعوا أن يبصموا جلسات محاكماتهم بنكهة خاصة اختلط فيها المكر والذكاء، لأجل الدفاع عن حقوقهم بشتى الوسائل، كما تمكنوا من شد الانتباه إليهم، رغم أنهم لم يسبق لهم أن ولجوا المدرسة أو تعلموا أبجديات القراءة أو الكتابة، إلا أن ذكاءهم الفطري تفوق في حالات عدة ، وظلت قاعات المحاكم وذاكرة قضاة ومحامين وباقي ممتهني العدالة شاهدة عليها. في هذه الحلقات نسرد بعضا من تلك النماذج. دخل رجل في الأربعينات من عمره على نائب وكيل الملك، لتقديم شكاية في موضوع الضرب والجرح الذي تعرض له، والذي كانت آثاره واضحة ولا تحتاج حتى لشهادة طبية، فرجله اليمنى مكسورة وجروح في رأسه، إضافة إلى إصابات أخرى، ما يعني أنه تعرض لضرب مبرح.بعد أن جلس على الكرسي أخذ النائب في استفساره عن الحادث، فكان أول ما نطق به الضحية أن عليه اعتقال الجاني، وإلا اشتكاه إلى الرباط. لم يستسغ النائب تلك العبارات وخاطبه بلهجة صارمة أنه يطبق القانون، ولا يحابي أحدا ولا يخاف التهديدات، ثم شرع في الاستماع إليه فأخبره أن قريبا له يسكن بجانب في الدوار اعتدى عليه وزوجته وأولاده بالضرب، مستعملا عصا خشبية، ما تسبب في كسور متعددة، إضافة إلى إصابة زوجته برضوض في الرأس، وأشار إلى أن نزاعا بسيطا كان وراء ذلك إذ طلب منه الجار منع دجاجه من الاقتراب من أرضه، على اعتبار أن الوقت موسم حرث ودخول الدجاج إلى الحقول يفسد المزروعات. وهو ما استجاب له، لكن في غفلة منه خرج الدجاج من الخم وتوجه نحو أرض قريبه، فما كان من هذا الأخير إلا أن يصيب بعضا منها بحجارة، كانت سببا في موت ثلاث منها، ما أثار غضب الضحية الذي توجه نحوه وطلب منه أن يعوضه عن الدجاج النافق، فما كان من الجار إلا أن انهال عليه بالضرب. خلال سرده لواقعة الاعتداء كان نائب وكيل الملك يتفحص وثائق الملف ومحاضر الاستماع إلى المشتكى به من قبل عناصر الدرك الملكي التي أقر فيها بواقعة الضرب المتبادل بينه وبين الضحية، كما تضمن الملف شهادة طبية تثبت نسبة العجز في 60 يوما، وهي مدة كافية في أن يوضع المشتكى به رهن الاعتقال الاحتياطي.بعد أن أنهى القاضي الاستماع إلى الضحية طلب منه المغادرة، وأدخل المشتكى به الذي أقر بواقعة الضرب، وبعدها اتخذ النائب قرار متابعته في حالة اعتقال، وتمت إحالته على المؤسسة السجنية في انتظار الشروع في محاكمته. ومباشرة بعد أن أنهى القاضي النظر في الملفات التي كانت محالة عليه في ذلك اليوم، هم بمغادرة باب المحكمة فوجد الضحية في انتظاره ومعه عدد كبير من الأشخاص. استغرب للأمر إلا أنه واصل السير غير أن الضحية قطع عليه الطريق، وخاطبه بلهجة مغايرة عن تلك التي كان يتحدث بها من قبل، وشرع في البكاء بحرقة، وقال له "دعيتك لله عوينة وحدة لي عندي شديتيها لي"، في تلك اللحظة تدخل مرافقوه لإسكاته وإبعاده عن باب المحكمة. استغرب القاضي كثيرا من موقف الضحية، وظن أنه ربما تأثر باعتقال جاره.في اليوم الموالي حضر الضحية مرة أخرى إلى المحكمة وطلب لقاء نائب وكيل الملك، وما إن رآى القاضي، حتى طلب منه السماح عما تفوه به أمام باب المحكمة، فخاطبه القاضي أنه كان سيعتقله هو الآخر بسبب تلك الحماقات إلا أنه راعى وضعه، وأكد له أنه يمكنه التنازل لجاره خلال المحاكمة لتخفيف الحكم عليه، إن كان فعلا قد ندم على تقديم الشكاية، لكن جواب الضحية جاء مغايرا، إذ أكد للقاضي أن ما قام به أمام باب المحكمة لا يعدو أن يكون مجرد جبر خاطر سكان الدوار الذين طلبوا منه التنازل، فأكد لهم أنه بالفعل قام بذلك، لكن القاضي رفض بعدما عاين حالته، ولكي يصدقوه قام بتلك المسرحية أمام باب المحكمة.كريمة مصلي

“عوينة وحدة”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الراشيدي… شوكة في حلق الحكومات

في وداع هيلين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات