يأتون فرادى، أو جماعات.. مثنى وثلاثا، أو رباعا.. على متن حافلات مهترئة، أو سيارات تتعطل في الطريق، أو عبر "أوطوسطوب". أو على الأقدام... المهم أنهم يصلون في الموعد، وقبله، في بعض الأحيان، ولا يرحلون إلا بعد أن يتأكدوا من إغلاق آخر رواق في الركن القصي، وصوت "الشيخة" يؤذي مسامعهم: "ونا تهدمو لخزاين.. أش بقيت نتساين".هم مجانين كتب وقراءة بالفطرة، يأكلون الأوراق أكلا جما.. ولا يشبعون، تراهم في كل مكتبة ورف وخزانة يهيمون، ويسألون دائما "هل من مزيد؟"، لأجل ذلك، يمثل لهم معرض دولي للكتاب والنشر، يعقد على مدى أسبوعين، فرصة عمر يعضون عليها بالـــــــــــــنواجذ.يحمل مجاذيب الكتب الكثير من ملامحنا، يتأبطون الحقائب نفسها، أو يعلقونها عشوائية على الأكتاف، يرتدون المعاطف نفسها وربطات العنق، لكن لا يتكلمون إلا نزرا ويبتسمون بفرح.. يمشون ولا يلتفتون، أو لا يأهبون "لنا" في أغــــــــــــلب الأحيان.يعرفون المواعد، ويضبطون ساعاتهم اليدوية على دقات المعرض، ويحفظون تواريخه وبرامجه وندواته وجداوله، و"يقنون" لتحضيراته مثل قناصين مهرة، كما يحفظون دوراته وضيوفه وأروقته ودور نشره وعناوينه الجديدة والقديمة، مثل أسماء أبنائهم، وسحنات تلاميذهم في القسم، أو زملائهم في العمل.لا تخطئهم العين وسط آلاف الزوار، وبالعادة أصبحوا جزءا أساسيا في دورات المعرض، يلفتون النظر إليهم بأكياس الكتب الكثيرة التي تثقل سواعدهم، وبعيونهم الحادة، التي تمشط "العناوين" من على الرفوف، وتلتقط الأساسي منها، أو حين ينزوون كثيرا وسط الأروقة، يغرسون وجوههم وسط المؤلفات والمراجع وأمهات الكتب وآبائها، ويأخذون وقتهم الكافي لقراءة الفهارس وأسماء دور النشر وعدد الطبعات وسنواتها، والتوطئات ومقدمات المترجمين.بعضهم يحل بالبيضاء أياما قبل الافتتاح، ويرابط في المقاهي الشعبية لوضع برنامج دقيق للزيارة والتجوال، وتدقيق ميزانية شراء الكتب. كثير منهم يأتون من مدن وقرى بعيدة، و"يتشطرون" في أسعار الفنادق غير المصنفة، ويأكلون "الطون والحرور" والأكلات السريعة الباردة، لكن كرماء حد الجنون في اقتناء الكتب والمؤلفات، وأسخياء من أجل استكمال مشروع مكتبة منزلية، كلما امتلأت رفوفها حتى الفوضى، كلما بدت لهم فارغة وفقيرة وسارعوا إلى ضخ المزيد فيها.أعرف عددا منهم. يرتمون في أحضانك كلما التقيت بهم في ممر، دون أن يعتقوا أكياس الكتب من أياديهم. يسألونك عن أحوال القراءة والطقس، ثم يستأذنون في الذهاب، لأن رواقا في أقصى القلب مازال ينتظر زيارة مؤجلة.يوسف الساكت