سجن تاوريرت… جيل جديد بمعايير دولية

افتتح قبل شهر ويراهن عليه نموذجا لتطوير أداء المؤسسات السجنية ورفع جودة خدماتها يعتبر سجن تاوريرت واحدا من مؤسسات سجنية أنشئت حديثا بعدة مدن، وفق معايير دولية للتخفيف من حدة الاكتظاظ وتوفير ظروف الرعاية الصحية وتحسين شروط الإيواء بما يضمن صون كرامة النزلاء وتهييء سبل إدماجهم بعد الإفراج عنهم، فيما يشبه خطوة جريئة لإبادة سجون حالية مغضوب عليها حقوقيا والقطع مع كل أشكال النوم الجماعي، حيث يحشر النزلاء بممرات لا تسع حتى عابريها. حميد الأبيض (موفد الصباح إلى تاوريرت) تصوير: أحمد العلوي المراني بين فاس وتاوريرت، طريق شائكة تلوي جبالا وهضابا وسهولا، رسمت لوحتين طبيعيتين متناقضتين. خضرة وآثار حياة من عاصمة العلم إلى قرية مسون، حيث ينفتح الفضاء على الشيح والريح والقفر الموحش. الإيقاع يزداد رتابة كلما توغل الزائر في عمق تلك البقعة من المغرب غير النافع، حيث الأثر البشري شبه غائب إلا من رعاة تتراءى ظلالهم من بعيد، وقد لفوا قطعان أغنامهم الدافنة وجوهها في أرض قاحلة بحثا عن كلأ مفقود. في الطريق إلى الزكايأوحلو، زيرك، أغروز، سهب لغريق، وركاز، لخضر، بوشيخ، أغبال، العابد، ويزر، خط تغزرين، مويه اطيور.. بعض من أودية لا تحمل إلا الاسم وقد تناثرت على طول رحلة شاقة ومتعبة إلى الشرق عبر طريق سيار إلا من منعرجاته المتراصة في تحد للمهووسين بالسرعة. أودية جف صبيبها كما جف أمل مناطقها، في تنمية حقيقية. علامات انعدام التنمية ظاهرة على «باب الدار»، إلا ما ينع من حقول فلاحية بمحيط نهر ملوية، القلب النابض بالحياة.بؤس الطبيعة و»حكرة» أهلها لا يمنعان متشبثا برغبة اكتشاف الفضاء، من مواصلة التوغل إلى حيث سجن نموذجي بقرية موغلة في التهميش، على إيقاع «دقة، دقة يلا بغيتي توصل» التي صدحت بها حنجرة الفنان سعيد موسكير، لأن السرعة مراقبة برادارات مخفي حاملها بأركان غير مرئية، لاصطياد «المخالفات» وغنيمة الغرامات إن لم ترأف أفئدة دركيين لحال زوار «حاركين» في اتجاه الشرق حيث لطعم «كران» شأن عظيم. إيقاع الركادة أنسى الزائرين مخالفة أمر من تكاليف عيد «نطح» كبشه فقراء لا حيلة لهم غير البكاء على الأطلال. عبثا حاولت الداودية تضميد جراح «حكرة» موتى في حياتهم، على لسان عشيق جمال «تلف» دون أن يتعلم «لغة القلوب» أو يعي إشارة «ردوا بالكم يا البنات». إنها لغة الإشارات، لكنها قد لا تنفع مع الجاهرين بحق وحقيقة رقعة، السجن أرحم لسكان مأسورين في واقع التهميش، منذ ميلادهم وإلى مماتهم. «إمارة الدار على بابها»استقبلت تاوريرت ضيوفها في ذاك اليوم الحار، برائحة نتنة انبعثت من وادي حمو الواقع عند مشارفها في الطريق إلى وجدة، سيما قرب مصحة والمعهد المتخصص في مهن النقل الطرقي واللوجستيك، لما كانت الداودية تصدح بأغنيتها «وانت غير حيط راشي ما عندو أساس» و»لهلا يذيلها بيك» كما لو كانت تناجي هذه المدينة الجميلة المحتاجة إلى تكثيف مبادرات التنمية والقطع مع مظاهر فساد تؤرق أهلها منذ سنوات. الوصول إلى السجن فرض استفسارات أمنيين ومواطنين بعضهم نصب قارورات «المازوط» بحثا عن زبناء يدفئون جيوبهم بدراهم معدودة على رؤوس الأصابع، قبل يومين فقط من عيد الأضحى، فيما غابت علامات التشوير إن داخل المدينة أو في الطريق إلى دوار الزكاي البعيد بنحو خمسة كيلومترات عن وسط المدينة، لتضيع بوصلة اتجاه زوار غرباء لا معرفة مسبقة لهم بتاوريرت إلا ما سمعوه من إعفاء عاملها. هذا الإعفاء و»حولي العيد» ونتائج الانتخابات وظروف مأساوية مرت فيها، حديث مشترك بين الأهالي سيما نخبة إعلاميين تحلقوا حول مقهى ربطت ذكريات الماضي بسوداوية الحاضر. لكن ذلك لم يمنع استمرار البحث عن طريق مفضية إلى دوار الزكاي من حيث تتراءى بناية واحد من ثلاثة سجون جديدة بتاوريرت وكرسيف وبويزكارن، بنيت بمواصفات خاصة في انتظار افتتاح 7 أخرى، اثنان منها بالعرجات وأخرى بميدلت ومدن أخرى. الطريق إلى تلك البناية الشامخة وحيدة بين الجبال المقفرة، ينطلق من ملتقى الطريق الوطنية وتلك المؤدية إلى منطقتي مستكمر وتنشرفي. وبدت في زوال الثلاثاء فارغة من عابريها، إلا دراجات ثلاثية العجلات، حاملة أثقالها من أضحية العيد، فيما ظهر 3 موظفين مترجلين مغادرين السجن الذي بدت الحركة أمامه شبه مشلولة إلا من سيارات مركونة تحت أشعة الشمس الحارقة، وعائلات قليلة كانت في انتظار موعد زيارة أقاربها المعتقلين. باب تحجب شمس الحريةافتتحت هذه المؤسسة في 30 غشت الماضي بعد سنتين بنيت فيهما، لكن بنايتها لم تكشف عن هويتها بعد. ويبقى الدخول إلى داخلها غير ممكن إلا بعد وضع بطاقة التعريف رهن إشارة الحراس ببابها الرئيسي، حتى لو كان الزائر غير معني بالزيارة وذا موعد قبلي. الدق على الباب الحديدية الضخمة الحاجبة شمس حرية المشحونين داخلها، ضروري حتى بالنسبة إلى الموظفين، كي تنفتح نافذة صغيرة للتأكد من هوية الوافد، وتشرع في وجهه. داخل البناية الواقعة بمنطقة أهل واد زا، بدت الأمور غير عادية. الجميع في استقبال الضيوف، والحركة دؤوبة داخل كل المرافق من الباب الداخلية إلى الطابق الأول وبرج المراقبة في سطحها حيث بدت 29 لوحة شمسية متلاحمة في تراصها لتوليد طاقة لتسخين حمامات مجهزة في الجناح نفسه، حيث يوجد المطبخ ومراقد السجناء بحي الرشداء بهذا السجن الذي يؤوي 54 سجينا ليس بينهم أي سجينة، فالسجينات احتفظ بهن في سجن وجدة. الزيارة تزامنت مع إجراءات الإفراج عن عامل مهاجر متعته النيابة العامة بابتدائية تاوريرت، التي يرأسها عبد الصمد الإدريسي الأزمي، شقيق الوزير في الميزانية وعمدة فاس الجديد، بالسراح المؤقت، مقابل كفالة مالية قدرها مليون سنتيم، بعد اعتقاله بتهمة السياقة في حالة سكر وبدون رخصة. ملامح الفرح بدت واضحة على وجه الشاب الذي فصلته دقائق فقط عن معانقة حريته التي حجبتها أسوار السجن الشامخة. بباب رئيس مكتب الضبط القضائي، أدار الشاب ظهره لبناية حمله تهوره إليها، لتتواصل رحلة اكتشاف مرافق سجن بني في إطار توجه إدارة السجون للاستغناء عن السجون الكبرى بأخرى وبطاقة إيواء أصغر بضواحي المدن، تسهيلا لضبط غرفها والتحكم فيها أمنيا، إذ شبهها مصدر بالإدارة بـ “سجون السويد” لتوفرها على معايير دولية، وحجته متران و80 سنتمترا مربعا، معدلا لكل معتقل بهذا السجن البالغة قدرته الاستيعابية 230 سجينا. من بوركايز إلى واد زافي قاعة الزيارة الملتصقة بنظيرتها للمحامين، جلست عائلة سجين حدث مدان بـخمس سنوات حبسا نافذة قضى منها سنتين، بموجب حكم صادر عن غرفة الجنايات الاستئنافية باستئنافية فاس بتهمة “الضرب والجرح المؤدي إلى عاهة مستديمة”، بعدما بتر يد غريمه في نزاع دام بمحل للأنترنيت بحي الدكارات بفاس. تلك أول زيارة لعائلته بعد نقله إلى هذه المؤسسة السجنية، من سجن بوركايز، قبل نحو أسبوع من ذلك.بدا الحدث خائفا ومنفعلا في إجابته عن أسئلة ضيوف عكروا عليه خلوة لقائه بأهله، قبل أن ينسحبوا مكملين جولتهم. أمه ومن معها، منين النفس في مصاب لم يتوقعنه، وتمنين أن يكون طريقا “باش يدير العقل”، على غرار كل المحكومين والمسجونين على ذمة التحقيق، في هذا السجن الممتد على نحو 642 مترا مربعا، المتورطين في مسك وحيازة والاتجار في المخدرات والخمور واستهلاكها والضرب والجرح وغيرها من الجنح. 61 موظفا بينهم موظفتان بالإدارة، وطبيبة وتقنية في التمريض وممرض مساعد، يؤمنون علاج وتتبع الحالة الصحية للسجناء الذين بينهم مريضان بالسكري و3 يعانون اضطرابات نفسية، والموزعين على 11 غرفة في جناح الراشدين، من 16 سريرا إسمنتيا في كل واحدة، مجهزة بخزانات بمعدل خزانتين لكل سجين، وغرفتين في جناح الأحداث، من 12 سريرا في كل واحدة، وعدد مماثل من الغرف والأسرة بحي النساء غير المأهول.وتضاف إلى تلك الغرف، غرفة تسمى “غرفة الكلف”، من 6 أسرة مخصصة للنزلاء العاملين بالمطبخ، المعزولين عن باقي السجناء ممن تتوفر فيهم شروط معينة، ويستفيدون من تعويضات تقدر بـ 15 درهما يوميا، نظير الأشغال التي يباشرونها، في انتظار تعميم تجربة الاعتماد على ممونين من خارج المؤسسة السجنية على غرار 30 مؤسسة سجنية ستستفيد من هذا البرنامج في غضون الأشهر القليلة المقبلة. تجهيزات وتموين نصف سنوييتوفر السجن الذي عوض السجن المحلي السابق الواقع وسط تاوريرت، على 16 غرفة جماعية بأجنحته الثلاثة بما فيها تلك المخصصة للنساء الواقعة على يسار مدخله الرئيسي. ويسع ل230 سريرا إسمنتيا من طابقين بجوارها خزانات بغرف مجهزة بمراحيض في أقصاها، وبعدد محدود من النزلاء يمكن من السيطرة على الوضع بها، بموقع قريب من ساحة الفسحة المفتوحة يوميا بدءا من التاسعة صباحا والثالثة عصرا لمدة ساعتين. وقال عبد الوهاب حيدة، مدير السجن، الذي سبق أن تولى إدارة السجن المحلي بتاوريرت بالنيابة واشتغل بسجن بوعرفة منذ تخرجه في 2005، إن السجن بني وفق معايير هندسية عالمية وليس كباقي السجون، ويتوفر على تجهيزات مهمة، بما فيها قاعة للغسيل والتصبين وتسخين الوجبات الغذائية ومكان خاص بالأمهات المرافقات بأطفال رضع الذين يحتفظ بهم إلى سن الثالثة ربيعها قبل تمديد ذلك بعامين بعد تقديم طلب بذلك.ويحتضن جناح النساء، فضاء خاصا بهؤلاء الأطفال المعزولين عن السجينات، فيما أكد مدير المؤسسة أن برنامج تموين السجناء نصف سنوي وتشرف عليه الإدارة وأطباء متخصصون في التغذية، مشيرا إلى تجهيز المطبخ بغرف للتبريد ومستودع للتموين، فيما لم يشغل المركز البيداغوجي عكس المكتبات الست التي شرع في تجهيزها بـ 120 مصحفا وكتبا، هبة من محسنين والمجلس العلمي المحلي بتاوريرت. وتحدث مسؤول السجن الحاصل على الإجازة في القانون الخاص تخصص علم الإجرام والعقاب من جامعة محمد الأول بوجدة، عن إحداث قسم لمحو الأمية وتكلف عضو من المجلس العلمي المحلي بإعطاء دروس في الوعظ والإرشاد، أسبوعيا، لفائدة النزلاء الذين يرفق ملفهم الجنائي بملف اجتماعي منذ أن تطأ أقدامهم مكتب الاستقبال والتوجيه وطيلة المدة التي يقضونها رهن الاعتقال. صون كرامة النزيل رغم أن غالبية نزلاء المؤسسة، متابعين أو مدانين في ملفات للاتجار في المخدرات والخمور، فإن محاولات إدخالها إليها، شبه منعدمة إلا حالة واحدة لشقيقتين اعتقلتا قبل سنة، بعد العثور على كمية من مخدر الشيرا بـ “قفة” بها بعض حاجيات شقيقهما المعتقل قبل يوم من إيقافهما، ليتضح أنه لم يكن لهما علم بوجود الكمية في جيب أخيهما المعتقل بتهمة مسك وترويج المخدرات، قبل إحالته على النيابة العامة بابتدائية تاوريرت.الحديث عن تسريب المخدرات إلى السجون، كشف عن طرق احتيالية كبيرة يلجأ إليها أقارب نزلاء، إذ ذكر مصدر حشوها في “سفيفة” الفوطة بعد برمها بطريقة احترافية وبشكل استحال اكتشافه، إلا بإرشاد سجين في الغرفة نفسها، لينضاف ذلك إلى وسائل أخرى لتسريبها داخل خضر وفواكه، فيما قال مدير السجن إنه سيتم تجهيزه بسكانيرات خاصة لمراقبة القفف وتثبيت كاميرات لمراقبة كل الأجنحة والممرات ومداخل السجن.وأوضح أن السجن تجربة نموذجية سيتم تعميمها ببناء وافتتاح مؤسسات مماثلة، بهدف تقليص والتخفيف من حدة الاكتظاظ التي تعرفها عدة سجون، وتحسين ظروف الإيواء وتحقيق الشروط الضرورية بما يضمن صون كرامة النزيل وحقوقه والحفاظ على أمنه وسلامته، مع تطوير أداء هذه المؤسسات والرفع من جودة خدماتها في مجال الرعاية الصحية والتطبيب والتغذية، وتحريك دواليب الخطة الإصلاحية وتحقيق الأهداف المسطرة.وفي انتظار ذلك تعيش بناية هذا السجن، وحشتها في انتظار التفاتة ذوي الأمر والنهي بالمنطقة، لانتظارات أهل النزلاء، بتوفير وسائل نقل إلى دوار معزول ومجهول من قبل غرباء يتيهون بحثا عن طريق تسهل عبورهم إليه، في غياب التشوير، قبل أن يعودوا أدراجهم في انتظار تدارك الأمر وتعميم تجربة سجون من فئة “خمسة نجوم” تصون جزءا من كرامة سجناء قادتهم الظروف إليها، لتهور منهم وعدم تقديرهم عواقب الأمور.

سجن تاوريرت… جيل جديد بمعايير دولية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الشوبي يشارك في المسيرة الخضراء

وفد حزبي لمنع اعتراف السويد ببوليساريو

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات