أساليب تسويقية مبتكرة تمزج بين الذكاء التجاري والتدليس لتصريف مخزون عقاري متعثر لطالما كان التسويق ملح القطاع العقاري. فكل منعش يراهن قبل كل شيء على حسن تدبير مشروعه تجاريا، من أجل ضمان تحقيق الربح المرجو، بل ويبني توقعاته بخصوص الكلفة والربح، على طريقة التسويق التي سيسلكها، وهنا يبدع بعض المنعشين في الترويج لمنتوجاتهم، فيما يفشل البعض الآخر، علما أن عملية تسويق أو بيع شقة، أصبحت مهمة شبه مستحيلة في ظل ركود القطاع حاليا، نتيجة تدني الطلب على العقارات، خصوصا في فئات بعينها. عشرات المشاريع ما زالت متعثرة. شقق وفيلات وبقع أرضية مجهزة، تنتظر زبونا قد لا يأتي أبدا، إنه كابوس تجاري يجاهد المنعشون العقاريون لتجاوزه، ولا يدخرون في سبيل ذلك جهدا، عبر تبني المبتكر والجديد من أساليب التسويق والترويج. إنجاز: بدر عتيقي الساعة تشير إلى العاشرة صباحا. شوارع البيضاء تستقبل بداية الأسبوع بوتيرة بطيئة، وتعلن عن انطلاق "عطلة" قصيرة، يتلهف البعض لاقتناصها من أجل قضاء أغراضه الشخصية، التي لا يتيح جدول الأعمال المزدحم طيلة الأسبوع فرصة لمعالجتها، يتعلق الأمر بهم شخصي ما فتئ يؤرق بال الشباب، يتمثل في البحث عن سكن، أو بصيغة عملية البحث عن فرصة استثمارية طويلة الأمد، ذلك أن سلوك ونمط الاستهلاك تغيرا لدى المغاربة، حتى صار السكن اليوم مطلبا لا يرتبط بالزواج أو تأسيس أسرة، وإنما استثمار شخصي يوظف فيه الشاب أو الشابة مدخراتهما، في أفق تملك عقار، هو بمثابة رأس مال صلب يستندون إليه في مواجهة تحديات الحياة المادية.أحمد، شاب ثلاثيني، قرر الانخراط في مسلسل البحث عن سكن "اقتصادي" في البيضاء، الأمر للوهلة الأولى يبدو مستحيلا، ذلك أن موجة ارتفاع أسعار الأوعية العقارية هرب هذا النوع من المنتوجات من المدينة إلى الضواحي، ما أجبر الموظف الشاب على تحيين ميزانيته قليلا لمواكبة مستجدات السوق، وهو الأمر الذي يعلق عليه قائلا، إن "العرض العقاري في الدار البيضاء أصبح قاسيا على الطبقة المتوسطة، ذلك أن المنتوجات العقارية المتراوح سعرها بين 250 ألف درهم و450 ألفا، ندر وجودها في المشاريع العقارية الجديدة، الأمر الذي يفرض بالضرورة رفع الميزانية الخاصة بالشراء إلى مستويات تؤثر سلبا على مديونية الشخص".لجأ أحمد مثل غيره من الشباب إلى الأنترنت، الذي تحول إلى دليل عملي يرشد الباحثين عن سكن وسط متاهات المشاريع العقارية، ذلك أن هناك مواقع متخصصة مغربية وأجنبية تعنى بعرض أحدث المشاريع والفرص العقارية، مثل "مبوب" أو "لامودي" أو "ساروتي"، إلى جانب مواقع البيع الإلكتروني، التي توفر عرضا عقاريا من نوع آخر، يهم أساسا العقارات المستعملة أو القديمة، مثل موقع "أفيتو"، إلا أن هذه القناة التواصلية لم تشف ظمأ الشاب الذي يشق طريقه كل يوم سبت من الأسبوع، للانتقال إلى المشاريع العقارية ومعاينتها على أرض الواقع، إذ يعد لائحة صباح ذلك اليوم للانتقال إلى أماكن محددة، للتعرف عن قرب على المشاريع التي تلائم مبدئيا قدراته المالية. "ليس كل ما يلمع ذهبا" يلجأ عدد مهم من المنعشين العقاريين إلى تسويق منتوجاتهم قبل الشروع في عملية البناء وتنفيذ المشاريع، وذلك من أجل تحصيل تسبيقات مالية تصل في بعض الأحيان إلى ربع قيمة العقار، إذ يعمد مسؤولو التسويق في مكاتب البيع إلى الاستعانة بنماذج مصورة لشقق ومساكن افتراضية، حسب تصميم المشروع المراد تسويقه، من أجل إقناع الزبناء بالحجز وشراء العقار، إلا أن التجربة أثبتت صحة مقولة "ليس كل ما يلمع ذهبا" بالنسبة إلى المشاريع العقارية المسوقة بهذه الطريقة، ذلك أن الزبون يصطدم خلال تسلمه للسكن الذي اقتناه، بواقع مغاير للنموذج الذي استند عليه، خلال اتخاذه قرار الشراء، يتعلق الأمر بمواصفات هندسية مغايرة ومساحة مختلفة، فبلغة السوق يتم الاتفاق على مساحة الشقة مثلا "جفاف"، أي المساحة المسكونة، ليفاجأ الزبون بإدراج فضاءات الملكية المشتركة في المساحة المتفق عليها، إضافة إلى متغيرات أخرى تهم جودة البناء والمواد المستخدمة في تجهيز العقار.وخلال جولة شملت مجموعة من المشاريع والأوراش العقارية في البيضاء، عاينت "الصباح" أساليب مبتكرة في التسويق، تكشف عن صناعة قائمة بذاتها يحترفها أشخاص بمواصفات خاصة. الطريق قادتنا إلى مشروع عقاري متمركز في نهاية شارع تادارت. شقق سكنية في منطقة حديثة العهد بالعمران، بسعر مغر لا يتجاوز 360 ألف درهم، ليحيلنا المسؤول عن ورش البناء على مكتب للبيع تابع للشركة المالكة للمشروع، يقع في شارع محمد السادس. امرأة في نهاية الثلاثينات من عمرها، كثيرة الحركة ودائمة الانشغال، بشكل يربك مخاطبها. تشيح بنظرها نحو الباب بين الفينة والأخرى، وتلتقط سماعة الهاتف في الآن نفسه لتجرب رقن أرقام بتردد، مشهد "أكشن" لا يترك للزبون خيارا سوى الانتظار حتى تفرغ هذه الموظفة، وفي الانتظار يختمر استعداد الزبون لتلقي وقبول أهم رسائل التسويق.تصميم مكتب البيع ورقي تجهيزاته عاملان حاسمان في التأثير على نفسية الزبون، حتى ولو كان موقعه ضمن ورش البناء أو في مكان ناء، فالفخامة مطلوبة دائما. وبهذا الخصوص، يؤكد سعيد، مسؤول تسويق لدى إحدى الشركات العقارية الصغيرة، أن جزئيات بسيطة تتحكم في نجاح عملية إقناع الزبون باتخاذ قرار الشراء، أهمها مكتب البيع الذي يعتبر فضاء التسويق، والمفترض توفره على مجموعة من الشروط التي تعكس رقي المنعش العقاري وجودة منتوجه. سقطنا في فخ الانطباع الأول، ونجحت مسؤولة التسويق في إيهامنا بأهمية الشركة وتعدد مشاريعها، رغم صغر حجمها وتواضع أنشطتها على أرض الواقع. وجهت إلينا سؤالا بحزم، حول المنتوج الذي نطلبه وعدد المساكن التي نبحث عنها، فكانت الإجابة برغبة في الاستفادة من منتوج عقاري يندرج ضمن فئة السكن الاقتصادي، مساحته لا تتجاوز 56 مترا مربعا. لم تترد الموظفة في الرد علينا بجواب مقتضب، "للأسف لم تظل لدينا شقق من هذا الصنف"، قبل أن تبادر بعرض لائحة شقق أخرى علينا، مساحتها أكبر، مستعينة في الترويج لها بتصميم هندسي، لم نستطع فك طلاسمه أو مجاراة تنقلها من هذه الشقق إلى تلك. زبناء ضحية حيل تسويقية موقف الموظفة له ما يبره في شروط العرض والطلب الحالية بالسوق العقاري، الذي يعرف تراجعا في الطلب على العقارات ذات المساحة الكبيرة، مقابل ارتفاع في الطلب على نظيرتها صغيرة المساحة، لذا فمسؤولو التسويق في الشركات العقارية، يسارعون للتخلص من مخزون العقارات الكبيرة، قبل الشروع في تسويق العقارات الاقتصادية والمتوسطة، ذلك أن القدرات الشرائية للزبائن تراجعت، موازاة مع تشدد البنوك واحترازهم في منح قروض السكن، التي تباطأت وتيرتها خلال الأشهر الأخيرة. يقول نبيل مسؤول تسويق في إحدى الشركات العقارية الكبرى، إن "بعض المسؤولين التجاريين يعمدون إلى توجيه الزبناء نحو منتوجات عقارية معينة، ويخفون عنهم أخرى لغايات تسويقية، بل منهم أيضا من يزاول أعمالا تجارية لحسابه عبر أقارب له، من خلال حجز مساكن عن طريقهم، وتفويتها لزبائن بتسبيق مالي يتجاوز المبلغ العادي المدفوع لقاء حجز مسكن".هذه الممارسات عاينتها "الصباح"، من خلال زيارة أحد المشاريع العقارية في منطقة بنمسيك الشعبية، إذ ركزت مسؤولة التسويق على إقناعنا بنفاد الشقق السكنية في المشروع، خصوصا تلك التي أبدينا رغبة في شرائها، والتي تتميز بموقع إستراتيجي ومساحة معقولة، مؤكدة بنبرة من الجدية أن هناك زبونة تحاول التراجع عن حجز لمسكن، ولكن بمقابل مالي يتجاوز التسبيق الذي دفعته بحوالي 25 ألف درهم، قبل أن نستوضح حقيقة الأمر من أحد حراس ورش بناء المشروع، الذي كشف لنا توفر مجموعة من الشقق بالحجوزات والتسبيقات المالية المعلن عنها. "فياط 500" و"ميسي" ألهب فاعل رئيسي في القطاع العقاري قبل سنتين سوق التسويق، وذلك من خلال إطلاقه عروضا ترويجية مبتكرة، خصوصا في فئة السكن الراقي، حين ربط شراء فيلا بالحصول مجانا على سيارة رياضية صغيرة من طراز "فياط 500"، بل تجاوز كل التوقعات حين قرر الاستعانة بنجم كرة القدم العالمي "ليونيل ميسي" لتسويق أحد مشاريعه بمراكش.هذه الحيل التسويقية المبتكرة، شحذت همم الفاعلين الآخرين الذين لم يكونوا أقل كرما مع زبنائهم، فتنوعت العروض بين خصومات على قيمة الحجوزات، وكذا تجهيز مرافق المساكن، تحديدا المطابخ والصالونات، كما ترتبط بعض العروض التسويقية لمناسبات دينية، إذ يتم استغلال التجهيزات المنزلية وقسائم الشراء خلال رمضان مثلا، من أجل تسويق العقارات، فيما يوظف كبش عيد الأضحى أيضا في العملية التسويقية.وتخصص الشركات العقارية، خصوصا الكبرى منها، ميزانية مهمة للتسويق، من أجل تصريف منتوجاتها والحفاظ على مستوى ثابت من السيولة في خزائنها، بما يضمن سلاسة تمويل المشاريع واستمرار أنشطة الاستغلال، فيما تستعين بعض الشركات بمقاولات متخصصة في التسويق لأداء المهمة المذكورة، كما توظف أطرا عالية في هذا المجال، تتوفر أساسا على ميزة الخبرة والممارسة العملية، إذ يدرج مثل لدى مهنيي القطاع في هذا الشأن، يقول إن "الذي يبيع التراب بإمكانه بيع أي شيء"، في إشارة إلى أن كفاءة مسؤول التسويق عامل حاسم في نجاح أي مشروع عقاري.
.jpg)
