معلمة تاريخية ودينية قاومت عوادي الزمن والبشر وصمدت أمام الزحف الإسمنتي إيقاع الحياة المتسارع في الدار البيضاء إلى حد انخراط سكانها أو العابرين منها في "جذبة" جماعية تجعلهم غارقين في الجري اليومي والسباق المتواصل مع الزمن، وانتقال المدينة إلى السرعة القصوى في انفتاحها على مظاهر الحداثة والعصرنة التي انتفت معها ملامح الهدوء والسكينة التي صارت عملة مفتقدة في "كازابلانكا". كل هذا لم يكن ليشفع للعاصمة الاقتصادية في أن تتخلى عن وجه من وجوه اتصالها بالماضي، واجتثاث ذاكرتها الموشومة برمزية روحانية تشكل استعادتها نوعا من التعويض النفسي لفئة من البيضاويين، الذين ما زال الكثير منهم يحرص على ربط الصلة مع فضاءات ظلت محتفظة بمكانتها في نفوسهم، ومن هذه الفضاءات ضريح سيدي بليوط الذي يشكل معلمة تاريخية ودينية قاومت عوادي الزمن والبشر، وصمدت أمام الزحف الإسمنتي وعنجهية العمارات التي أحاطت بهذه المعلمة من كل جانب، لتقتطع لنفسها مجالها الخاص الذي يفصل كل داخل إليه عن صخب وضجيج العالم الخارجي. إنجاز: عزيز المجدوب - تصوير: ( عبد الحق خليفة) في زاوية من شارع "هوفويت بوانيي" تفضي إلى محطة القطار الميناء، تنتصب بناية ضريح سيدي بليوط ببياضها المشع، الذي تنعكس عليه أشعة شمس الأصيل التي بدأت تميل نحو التستر خلف أسوار محلات "البازار" المقابلة له. وتحيط بالضريح بضع نخلات صارت تشكل جزءا من هويته البصرية، التي ترسخت في أذهان الكثير من العابرين أمام الضريح، وأغلبهم يسيرون في عجلة من أمرهم في اتجاه محطة القطار أو قادمين منها. التحرش الإسمنتيلا تخدش هذه الهوية البصرية سوى اصطفاف مجموعة من الطاكسيات الكبيرة البيضاء، إضافة إلى بناية ملحقة بالضريح خضعت لتغييرات جذرية بلمسة عصرية، وأضيفت إليها واجهة زجاجية لتصير مخفرا "للشرطة السياحية"، في نوع من التحرش الإسمنتي الحديث، بالبناية العتيقة التي يسيل لها لعاب "ذئاب العقار" الذين يتحينون فرصة الانقضاض عليها، بحكم موقعها الإستراتيجي وسط العاصمة الاقتصادية.منظر الضريح وهو يتوسط ضجيج حركة السير المحيطة به من زاويتين تطلان على شارعي "هوفويت بوانيي" و"الموحدين" ، يبدو مثيرا للفضول، خاصة أنه في الجهة المقابلة الأخرى انتصبت ثلاث بنايات لفنادق فخمة احتلت الفضاء المجاور له، وأطلقت عنانها للسماء، ممعنة في جعل وضع الضريح أكثر اغترابا وهو محاصر وسط مظاهر العصرنة القاسية التي لم يعد يفصلها عن الإجهاز التام على موقعه سوى بضعة أمتار.باب الضريح ما زال كما حفظته لنا الصور القديمة بهندسته المعمارية المغربية الأصيلة، والزخارف البسيطة التي تزينه، والأشكال الهندسية المدرّجة التي تشبه شواهد القبور التي تعتلي جدرانه البيضاء وتمتد إلى غاية السور الذي يستند عليه الضريح بكامله، وهو من بقايا السور الكبير الذي كان يحيط بالمدينة القديمة للدار البيضاء، والذي تمت إزالته مطلع القرن العشرين، ولم يتبق منه سوى برج يتيم يعتلي الواجهة التي تطل على محطة ميناء البيضاء من خلف الضريح. هدوء يلف المكانبمجرد ما تطأ عتبة باب الضريح وتتجاوزها قليلا إلى الداخل، تطالعك باحة مفتوحة على العراء في وجه السماء، تزين جدرانها قطع زليج باللونين الأخضر والأبيض المحببين في جل الأضرحة المغربية. أما أرضية الضريح فغطيت بـ"موزاييك" حديث توحي نظافتها بعناية متواصلة بالمكان.الباحة الأولى تتوسطها أربع شجرات لم تتبق منها إلا جذوعها السميكة، بعد أن قُلّمت أغصانها، ما يدل على قدم عمرها. وفي يسار الباحة انتصبت نخلتان تتنافسان على معانقة الفراغ بطولهما الفارع، فيما توسطت الباحة، على اليمين، سقاية قديمة مزينة بزليج مغربي الطابع، جلست بالقرب منها امرأتان متوسطتا العمر كانتا تتبادلان حديثا هامسا لا يكاد يسمع رغم الهدوء الذي يلف المكان، وفي ركن آخر من الباحة الفسيحة وضعت طاولة خشبية قديمة ومهترئة عليها قراطيس شمع وضعت رهن إشارة الزائرين.ما إن تنعطف يمينا إلى داخل باحة ثانية مفضية إلى باطن الضريح، حتى تطالعك بوابته الخشبية التقليدية المفتوحة على مصراعيها تفضي هي الأخرى إلى سياج حديدي عبارة عن باب ثان، كان مفتوحا، ويؤدي إلى قاعة صلاة بسطت على أرضها زرابي حمراء، وعلى يمين الباب وضع صندوق خشبي بني اللون مغلق بقفلين، وفوقه فتحة ترمى من خلالها القطع النقدية التي يجود بها الزائرون، وخلفه مباشرة سياج حديدي مفتوح على اليمين يؤدي إلى مرقد الولي سيدي بليوط المفصول عن قاعة الصلاة فقط بالسياج، ونبتت بالقرب منه نخلة امتدت إلى أعلى حتى شقت سقف الضريح من خلال فتحة أعدت لها خصيصا، أو بالأحرى لم يشأ بانوه إزالتها لتحافظ على مكانها وتشكل جزءا من هويته.فجأة دلفت إحدى المرأتان الضريح، لتسألني عن حاجتي، فلما أخبرتها أنني بصدد جمع معلومات عن ضريح سيدي بليوط، أشارت بيدها بحركة دائرية إلى أعلى كأنها تفسح المجال، قبل أن تردف بنبرة هادئة، كما لو كانت تخشى أن تفيق الولي من رقاده، وهي تقول "ها انت شفتي أولدي قليل اللي باقي يجي لهنا.. الوقت تبدلات".واستطردت المرأة التي تبين أنها واحدة من المحافظين على الضريح، "كانت الدنيا عامرة منين كانوا الناس كايقدرو هاذ الولي، ومنين كانت النية، أما دابا تا واحد ما بقا كايسالي حتى من العيالات اللي كانوا كايجيو هنا ما بقاش عندهم الوقت ولا الخاطر". زوار يستعيدون ذكريات الطفولة تتحدث المحافظة التي قالت إنها ولدت بالضريح، قبل ستين عاما وكان والدها وجدها من محافظي الضريح، وعايشت أيام عزه، لما كان البيضاويون يتقاسمون مع هذا الفضاء أفراحهم وأٌقراحهم، فلا عرس بالمدينة القديمة إلا ويأتي العرسان للزيارة، ولا ختان إلا ويمر موكبه من هنا، بل أكدت أن جانبا من الضريح كانت به غرف مخصصة لعابري السبيل والفقراء والمعوزين الذين كانوا يستفيدون من الصدقات والأموال الموقوفة على الضريح. أما الآن، تقول المحافظة، فجل المترددين على الضريح من الزوار يستعيدون ذكريات الطفولة، وقليل منهم من يعتقد في بركة هذا الولي، أو يختار بعضهم أن يطلب الله في حضرته عله ينال مراده ومقصوده.وبينما كانت المرأة تتحدث، دخل الضريح رجل مسن قصير القامة، ألقى التحية بهدوء ودون أن يلقي بالا لما يدور حوله ولا إلى حديثنا، قبل أن ينزع نعليه ويتجاوز عتبة الضريح قبل أن يرفع صوته بالأذان معلنا موعد صلاة العصر.وما هي إلا لحظات قليلة حتى سرت في الضريح حركة دؤوبة، بعد توافد المصلين الذين بدت على بعضهم مخايل السفر خاصة العابرين إلى محطة القطار أو منها، كما تدل على ذلك حقائبهم التي يتركونها عند مدخل الضريح إلى جانب النعال. كما دخلت بضع نساء مسنات، يبدو أنهن اعتدن التردد على الضريح وبدا ذلك من خلال التحية التي تبادلنها مع المحافظة، قبل أن يأخذن مكانهن خلف المصلين.وبعد الانتهاء من الصلاة وانصراف المصلين إلى حال سبيلهم، لبثت بعض النساء جالسات على أرضية الضريح، باسطات أكفهن بالدعاء الهامس، وهن ينظرن إلى السقف، قبل أن يمسحن على وجوههن، ويستندن على جدار الضريح في استكانة ودعة مستسلمات لهدوء اللحظة، ولخدر الصمت الذي يجلل المكان. بركة الماء والأسود في كتابه "مراكش.. قبائل الشاوية ودكالة والرحامنة" يتحدث الرحالة والسوسيولوجي الفرنسي إدموند دوتي في رحلته ما بين 1901 و1902، عن ضريح سيدي بليوط قائلا "يعتبرون الدار البيضاء مدينة سيدي بليوط، فلكل المدن والقبائل والقرى في المغرب كما في باقي شمال إفريقيا ولي تتبرك به، ونعلم بالتالي أصل تلك المجموعة من خلال معرفة اسم الولي الذي تتردد عليه. فأهل فاس يتبركون بمولاي إدريس، وأهل مراكش يتبركون بسيدي بلعباس السبتي وسكان سوس يحلفون بسيدي احماد وموسى إلى غير ذلك...".ويضيف دوتي في كتابه (ترجمة محمد ناجي بن عمر)"...إن ولي الدار البيضاء حاليا كان شبه مجهول في أواسط القرن الماضي (يقصد القرن 19) وكان ضريحه عبارة عن منزل صغير يحرسه شخص يسمى بلمكناسي سيصبح في ما بعد مقدما. ولم يتم بناء قبة الضريح الحالية إلا سنة 1851 بعدما جمعت لذلك أموال لا بأس بها، ويقال عن سيدي بليوط إنه ركراكي الأصل، وإن له بركة وإن الحجاج يأتون إليه للتبرك قبل الذهاب إلى الحج".ويردف الرحالة الفرنسي "كما كان للماء الذي ينزل إلى الدار البيضاء، خاصة من قبة سيدي بليوط مكانة خاصة في نفوس الأهالي، ويقولون إن من شربه سيعود حتما إلى الدار البيضاء، مهما فعلت به الأيام ويحكون أيضا أن لسيدي بليوط هذا بركة تدجين الحيوان، فقد كان يتنزه وسط الأسود ومن هنا جاء اسم سيدي بليوط وهو تحريف من العربية الفصحى ل"أبو الليوث". أبو الليوث المديوني الرجراجي جاء في كتاب "عبير الزهور" للمؤرخ هاشم المعروفي (توفي سنة 1987) عن سيدي بليوط "وأما كرامته واتصاله بالأسد ومسح ظهره بيده منقول عند سكان الدار البيضاء بسيدي بليوط وهذه الكرامة هي التي كني بها أبو الليوث، وأن اسمه هو أبو حفص عمر بن هارون وأنه مديوني الأصل وأن وفاته كانت سنة 595 هجرية، وفي هذا القرن كان معاصرا لمولاي بوشعيب المدفون بأزمور وسيدي أبي العباس السبتي بمراكش، ولمولاي عبد السلام بن مشيش بالجبل ولمولاي بوعزة بن عبد الرحمن المدفون بازعير قرب قبيلة أزمور، ولعل الأسود التي كان يتصل بها صاحب الترجمة ولقب من أجلها بأبي الليوث هي التي ذكرها الشريف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" عندما تعرض في رحلته من مراكش إلى إقليم تامسنا ووصف مرسى فضالة فذكر أنها توجد بعدها غابة مملوءة بالأسود، كما يمكن أن يكون اتصاله بهذه الأسود كان يحدث عندما يخلو بنفسه مبتعدا عن العمارة والسكنى حسب ما جاء في ترجمته".أما المؤرخ عبد الله بن محمد السعيدي الرجراجي فأورد في كتابه "السيف المسلول في من أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول" أن سيدي بليوط رجراجي الأصل من أحفاد أحد رجالاتها السبعة، وأن فئة من الرجراجيين كانت تتسلم فتوحات ضريحه. "فتوحات" رهن إشارة الفقراء لم يترك سيدي بليوط أولادا ولا أحفادا، لذا كانت الفتوحات والأوقاف المرصودة له توضع في صندوق خاص يسمى "ربيعة الشيخ" كان يخضع فتحها، خلال بدايات القرن الماضي، لإجراءات تنظيمية خاصة إذ لا تتم إلا بحضور أمناء المرسى، وقاضي المدينة وتحت إشراف ناظر معين من قبل المخزن.وأورد المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان في كتابه "الإتحاف" وجوه صرف هذه الفتوحات اعتمادا على ظهائر سلطانية على عهد السلطان عبد العزيز منها ظهير مؤرخ ب8 ربيع الثاني عام 1316هجرية جاء فيه "نأمر خديمنا الأرضى ناظر أحباس الولي الصالح سيدي أبي الليوث بمحروسة الدار البيضاء أن يكون دفع الأجرة المتعارفة للمعلمين الذين يختانون الصبيان اليتامى وأولاد الضعفاء بالزاوية القادرية هنالك، وأن يكسوهم بما يناسب حالهم كل عام وقت الاختتان من فتوحات الولي المذكور".وهناك ظهير ثان مؤرخ سنة 1318 جاء فيه "خديمنا الأرضى ناظر أبي الليوث بمحروسة ثغر الدار البيضاء وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبعد. فقد بلغ إلى علمنا الشريف أن المرضى من الأفاقين وأهل البلد الذين لا مأوى لهم يمرضون في الطرقات وينقلون لبيوت خارج المدينة ويبقون هناك حتى يموتوا جوعا وعطشا وقد اقتضى نظرنا الشريف جمعهم بالبيوت التي توجد قرب ضريح الشيخ المذكور. فنأمرك أن تجمعهم فيها وتخص الرجال ببيوت منها والنساء ببيوت منها كذلك بعد أن تصلح ما لا بد من إصلاحه منها وتزيد ما يتوقفون عليه من البيوت وتدفع لكل مريض خبزتين أو ثمنهما في كل يوم، ومن توفي منهم يقوم بتجهيزه ناظر المواريث، ومن حصلت له العافية يتوجه لحاله وتسقط مؤونته ومن زاد تزاد له مؤونة أمثاله وهكذا..."
