الدكالي وصفوان بهلوان… لقاء السحاب

حل الموسيقار السوري صفوان بهلوان، أخيرا، بالمغرب، حيث أحيى حفلا غنائيا في البيضاء رفقة الفرقة المغربية للموسيقى العربية بقيادة المايسترو صلاح المرسلي الشرقاوي. وفي اليوم الموالي للحفل خص «المتحف الصغير» للموسيقار عبد الوهاب الدكالي بزيارة. في هذا الخاص تنقل إليكم «الصباح» أجواء تلك الزيارة. إنجاز: عزيز المجدوب / تصوير (فدوى الناصر) لم تحل الأمطار الغزيرة التي كانت تهطل على وسط الدار البيضاء، دون تنفيذ الموسيقار السوري صفوان بهلوان لفكرة زيارته لفضاء "المتحف الصغير" للموسيقار عبد الوهاب الدكالي. ترجل صفوان، من السيارة التي كان يقودها المايسترو صلاح المرسلي الشرقاوي، وإلى جانبه زوجته وابنه "صفوان جينيور"، في اتجاه مدخل عمارة "الحرية"، وهو يسحب ياقة "جاكتته" نحو صدره، ليداري قطرات الأمطار التي كان تتساقط عن نفسه. في انتظار التحاق المايسترو الشرقاوي بنا، بعد أن يركن سيارته، أجال صفوان بصره في مدخل العمارة، بعد أن اجتازه، وهو يقول كأنني داخل إلى عمارة "الإيموبيليا" الشهيرة بالقاهرة، حيث كانت تضم مشاهير أهل الفن في مصر، من الموسيقار محمد عبد الوهاب ونجيب الريحاني وليلى مراد وأسمهان وأنور وجدي إلى محمود المليجي وتوفيق الحكيم وغيرهم. في المقابل كانت عمارة "الحرية" بحي بنجدية، قبلة أيضا لمشاهير قطنوا بها، أبرزهم الفرنسي لوميغر دوبروي الذي اغتيل أمام باب العمارة، منتصف الخمسينات، من قبل منظمة فرنسية، بسبب تعاطفه مع القضية المغربية، وحملت الساحة المقابلة للعمارة اسمه، كما مرت من هذه العمارة المستشرقة الفرنسية دنيز ماسون التي سبق أن ترجمت القرآن إلى اللغة الفرنسية، وأجاز ترجمتها الأزهر الشريف نهاية السبعينات، فضلا عن الملحن المصري الراحل توفيق حلمي وآخرين. كانت غادة زكري، محافظة المتحف، في استقبال الموسيقار صفوان بهلوان، عند المدخل في الطابق 17، باعتبارها مسؤولة عن إدارة الفضاء، وأيضا واحدة من مهندسي هذا اللقاء بين هرمين فنيين. كانت لحظة العناق الحارة بينهما تعكس حجم التقدير المتبادل بينهما. استقبلنا الموسيقار عبد الوهاب الدكالي في كامل أناقته المعهودة، ورشاقته الدائمة، وهو يلقي عبارات الترحيب بالموسيقار السوري، والمايسترو صلاح المرسلي الشرقاوي والآخرين. لم يستغرق الأمر سوى لحظات حتى انخرط الجميع في الجولة التفقدية للفضاء. رفع صفوان بصره إلى اللوحات المعلقة وبدأ يتعرف بسهولة على الشخصيات المرسومة عليها، وهو يلقي بأسماء بعضها إلى الدكالي، الذي أعجب بثقافة الموسيقار السوري الواسعة، في المجالات المتنوعة التي شملتها اللوحات. ينبسط في المتحف جزء من التذكارات والجوائز التي حصل عليها الدكالي في مناسبات مختلفة، وعلى الجدران لوحات لبورتريهات لشخصيات عالمية وتاريخية ممهورة بتوقيع الموسيقار نفسه رسمها بريشته، مثل الراحل الحسن الثاني وفان غوغ ومحمود درويش وموزار وبتهوفن وغاندي وجيمس دين وفاطمة المرنيسي وألبرت إنشتاين وشارلي شابلن، فضلا عن خزانة كتب تضم عناوين مختلفة معظمها مهدى إليه من قبل مؤلفيها. كما خصص الدكالي خزانة زجاجية وضع فيها تذكارات ملكية من الحسن الثاني والملك فيصل والملك فهد، فضلا عن ساعات متنوعة أقربها إلى قلبه ساعة والده التي ما زال يحتفظ بها، فضلا عن خزانة أخرى وضع فيها نسخا من جوازات سفره التي تضم تأشيرات زار بها مختلف أرجاء العالم. ويتوسط الباحة الفسيحة تمثال برونزي رأسي لعبد الوهاب الدكالي، وغير بعيد عنه كرسي تجاورت فوقه آلتا عود لشخصيتين فنيتين رفيعتين هما الموسيقار محمد القصبجي والموسيقار محمد عبد الوهاب يحتفظ صاحب "مرسول الحب" بتقدير خاص لهما. خلال اللحظة التي حمل فيها عبد الوهاب الدكالي عود محمد عبد الوهاب، قال صفوان بهلون إن العود سوري الصنع وصانعه هو الدمشقي محمود صافي، وهو الأمر الذي تأكدا منه بعد تفحص باطن العود حيث كان اسم صانعه منقوشا عليه بالفعل، كما اكتشف أن مزاج الموسيقار المغربي يميل إلى الأعواد المصنوعة في سوريا، وهو الأمر الذي أكده الدكالي وهو يعرض عليه عودا دمشقي الصنع. صور وحكايات تواصلت الجولة بأركان أخرى بالمتحف، منها غرف خصصها لمقتنيات خاصة، منها جناح وضع فيه ملابسه والأزياء التي غنى بها في أشهر سهراته، أو صور بها كليبات أغانيه، فضلا عن نماذج من أسطوانات كثيرة كانت تتصدر المبيعات في وقتها مع شركات إنتاج مغربية وعالمية. كما تعرف صفوان على صور للدكالي مع شخصيات مختلفة قابلها عبر مساره الممتد، وشرح للموسيقار السوري ظروف وملابسات كل صورة على حدة، منها صور توثق عبوره وإقامته في مصر لسنوات، خلال النصف الأول من ستينات القرن الماضي، خلال لقائه مع عمالقة الفن بالشرق منهم الموسيقار محمد عبد الوهاب والشاعر أحمد رامي والشاعر الغنائي حسين السيد والفنان يوسف وهبي وأم كلثوم وغيرهم. وقاد عبد الوهاب الدكالي صفوان إلى جناح آخر من المتحف كان عبارة عن غرفة نومه الخاصة، احتفظ به بسريره القديم، الذي تركه كما هو، وخصص جدران الغرفة لمختلف لوحات البورتريه الشخصية له التي أنجزت عنه وأهديت له. متحف لتخليد الأثر وفي كل محطة داخل أرجاء المتحف كان الحديث يتفرع بالموسيقارين نحو مواضيع شتى، أظهرت اهتماماتهما المشتركة والتي تجاوزت الموسيقى، لتتصل بالفن التشكيلي والسينما والأدب والنحت والتاريخ وغيرها، وهو ما سيتأكد خلال اللحظة التي سيتوجهان نحو باحة الجلوس التي تتوسط الفضاء، وبدورها كانت تضم كرسيين دمشقيي الصنع والزخرفة، اقتعد صفوان أحدهما، فيما جلس الدكالي على كنبة مقابلهما ويواصلان حديثهما، مرفوقا بكؤوس الشاي والحلويات المغربية. أبدى صفوان بهلوان إعجابه بفكرة المتحف خاصة أنه تخص شخصية فنية ما زالت على قيد الحياة، بل زاد إعجابه أكثر عندما علم أن هذا الفضاء يسير بالإمكانيات الذاتية للموسيقار المغربي، ولا دخل للجهات الرسمية به. وهنا يعلق عبد الوهاب الدكالي قائلا إن فكرة إعداد متحف خاص، جاءت من اقتناعه بضرورة اعتماد الفنان، على الأقل في العالم العربي، على نفسه وعدم انتظار شيء من الآخرين، خاصة أن المناخ العام في بلداننا معاد لشيء اسمه الذاكرة وتخليد مسارات المبدعين والفنانين وكأنهم يغارون منهم، عكس ما هو موجود في أوربا والدول الغربية من احتفاء بأثر العظماء الذين مروا منها، بل واستثماره في تهييئ سياحة ثقافية وفنية تجذب ملايين السياح عبر العالم. محمد عبد الوهاب.. الشخصية الملهمة وتواصل الحديث بين الفنانين عن الأعمال الموسيقية، والعلاقة بالموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، الذي ظل شخصية ملهمة لكليهما بدرجات متفاوتة، فعبد الوهاب الدكالي كانت انطلاقته الفنية في 1957 لأول مرة، بعد أن أبدع في أداء رائعة "النهر الخالد" لموسيقار الأجيال خلال مسابقة إذاعية، لفتت إليه الانتباه والأسماع، وأعلنت ميلاده الغنائي. أما صفوان بهلوان فكان أول ظهور له في دمشق في أحد برامج التلفزيون السوري، مطلع السبعينات، حين غنى رائعة "حسدوني وباين فعينيهم"، قبل أن يواصل تألقه ويغني في الإذاعة اللبنانية قصيدة "الهوى والشباب" بمرافقة عوده، لدرجة أن الإذاعي اللبناني رياض شرارة لجأ إلى إجراء "مونتاج" بين صوتي صفوان ومحمد عبد الوهاب، الذي كان قد سجل الأغنية إياها بدوره على آلة العود، وجعل من المسألة موضوع مسابقة إذاعية استعصى على أعتى "الوهابيين" التمييز بين مقطع كل واحد منهما. وشاءت الصدف أن يكون محمد عبد الوهاب نفسه أحد المستمعين إلى الحلقة الإذاعية، حيث كان يقضي عطلته بمصيف "اشتورة" بلبنان، فأصيب بالدهشة لتطابق الصوتين، فاتصل بمن يجلب له هذا الشاب بأية طريقة، وهو ما حدث، ليجد صفوان نفسه بعد أيام داخل الجناح الخاص لعبد الوهاب في "بارك أوتيل" وفي حضرة الموسيقار الذي ملك عليه كيانه، يغني أمامه شيئا من روائعه، لتخلص الجلسة بتنفيذ مشروع لإعادة بعض الروائع القديمة بصوت الفنان الشاب بتوزيع حديث تحت إشراف الموسيقي اللبناني رفيق حبيقة، فكانت البداية برائعة "مريت على بيت الحبايب". ومن الطرائف التي يحكيها صفوان عن هذا اللقاء قائلا "خلال الفترة التي كان يلقنني فيها أسلوب أداء أغنيته "مريت على بيت الحبايب" توقفنا عند مقطع "وقفت لحظة هنية.. من غير عزول أو رقيب" كان صوتي يتهدج ويتقطع، وأنا أحاول أن أجاري عبد الوهاب الذي كان حينها شيخا سبعينيا، في مدّ الصوت، رغم أنني كنت غواصا ماهرا في طفولتي وأتمتع بنفَس طويل بفضل هذه الرياضة، فقال لي عبد الوهاب ما الذي جرى لك يا صفوان، يا ابن جزيرة "أرواد"، فأنا العجوز أؤدي المقطع دون توقف... فقلت له إنني أغني أمام عبد الوهاب لو كنت أنت نفسك أمامه لوقع لك أكثر من ذلك". مساران عالميان استحضر الدكالي وصفوان جوانب من أعمالهما الفنية الكبرى، رغم اختلاف مساريهما، إذ واصل الموسيقار المغربي مساره الفني بتقديم أغانيه الخاصة التي طبقت شهرتها الآفاق، وجعلت منه اسما صعبا في معادلة الأغنية الطربية، بملامح عالمية، كما تشهد على ذلك الجوائز والتكريمات التي حظي بها في مختلف المحافل الدولية. في المقابل اختار الموسيقار صفوان بهلوان مواصلة مساره وهو يستعيد روائع محمد عبد الوهاب التي بعث فيها روحا أخرى، ووسع قاعدة جمهورها بين أجيال مختلفة، ما زالت حريصة على استعادة تلك الروائع بصوته المتمكن، وبالموازاة مع ذلك كرس اشتغاله الفني على الأعمال الموسيقية الكبرى بدءا بقصيدة "جبهة المجد" التي أعجزت كبار الملحنين على تطويعها، منهم الموسيقار بليغ حمدي الذي اعتبر قصيدة الشاعر محمد مهدي الجواهري "مثل الحجارة لا يمكن تلحينها"، انبرى لها صفوان وأكمل تلحينها لتظهر بصوت المطربة ميادة الحناوي مطلع الثمانينات، ثم قصيدة "يا شام" للشاعر سعيد مانع العتيبة. كما واصل صفوان تحديه بتأليف عمل سمفوني ضخم بعنوان "الربان والعاصفة"، مدفوعا بشغفه بالموسيقار المجري "فرانز ليست" وتأثره بأسلوبه في "الكروماتيك"، ليظهر هذا العمل في 1987 بعزف فرقة "برلين" السمفونية في ألمانيا، تحت إشراف المايسترو السوري نوري الرحيباني، وما زال هذا العمل، إلى يومنا هذا، يقدم في أوبرا فيينا، إلى جانب أعمال كبار الموسيقيين في العالم. وحاليا انتهى صفوان بهلوان من إنجاز قصيده السمفوني الجديد بعنوان "أذان النبي إبراهيم" الذي استغرق حوالي ثلاثين عاما من الاشتغال، في ما يزيد عن 175 صفحة بمعدل 2100 سطر موسيقي و8400 مازورة موسيقية، و25200 نوتة موسيقية موزعة للأركسترا الفيلارمونية. كلمات على "الدفتر الذهبي" بعد لحظات من الحديث الشيق والمتفرع في مواضيع مختلفة، قدم عبد الوهاب الدكالي لصفوان بهلوان الكتاب الذهبي الخاص بالمتحف، ليخط عليه الموسيقار السوري كلمات بخطه البديع جاء فيها "كم هي لحظات جميلة ومليئة بعبق الجمال والسحر أن تجول في أجواء الفن والإبداع اللذين ترك فيهما الفنان العبقري أثره التاريخي الذي يؤرخ لحقبة تاريخية من الفن المغربي الذي أضحى بفضله فنا عالميا، انبثق من غياهب المحلية.. لن أزيد عن هذا إنه شمس ويكفي أنها شمس". وكان مسك الختام تقاسيم على آلة عود الدكالي، من توقيع صفوان بهلوان، سبحت بالجميع في عوالم النغم الراقية، التي عكست روح الفنانين اللذين وحدهما عشق الإبداع فطرقا باب العالمية، من بوابة الالتزام بروح الفن والوفاء له. مساران عالميان استحضر الدكالي وصفوان جوانب من أعمالهما الفنية الكبرى، رغم اختلاف مساريهما، إذ واصل الموسيقار المغربي مساره الفني بتقديم أغانيه الخاصة التي طبقت شهرتها الآفاق، وجعلت منه اسما صعبا في معادلة الأغنية الطربية، بملامح عالمية، كما تشهد على ذلك الجوائز والتكريمات التي حظي بها في مختلف المحافل الدولية. في المقابل اختار الموسيقار صفوان بهلوان مواصلة مساره وهو يستعيد روائع محمد عبد الوهاب التي بعث فيها روحا أخرى، ووسع قاعدة جمهورها بين أجيال مختلفة، ما زالت حريصة على استعادة تلك الروائع بصوته المتمكن، وبالموازاة مع ذلك كرس اشتغاله الفني على الأعمال الموسيقية الكبرى بدءا بقصيدة "جبهة المجد" التي أعجزت كبار الملحنين على تطويعها، منهم الموسيقار بليغ حمدي الذي اعتبر قصيدة الشاعر محمد مهدي الجواهري "مثل الحجارة لا يمكن تلحينها"، انبرى لها صفوان وأكمل تلحينها لتظهر بصوت المطربة ميادة الحناوي مطلع الثمانينات، ثم قصيدة "يا شام" للشاعر سعيد مانع العتيبة. كما واصل صفوان تحديه بتأليف عمل سمفوني ضخم بعنوان "الربان والعاصفة"، مدفوعا بشغفه بالموسيقار المجري "فرانز ليست" وتأثره بأسلوبه في "الكروماتيك"، ليظهر هذا العمل في 1987 بعزف فرقة "برلين" السمفونية في ألمانيا، تحت إشراف المايسترو السوري نوري الرحيباني، وما زال هذا العمل، إلى يومنا هذا، يقدم في أوبرا فيينا، إلى جانب أعمال كبار الموسيقيين في العالم. وحاليا انتهى صفوان بهلوان من إنجاز قصيده السمفوني الجديد بعنوان "أذان النبي إبراهيم" الذي استغرق حوالي ثلاثين عاما من الاشتغال، في ما يزيد عن 175 صفحة بمعدل 2100 سطر موسيقي و8400 مازورة موسيقية، و25200 نوتة موسيقية موزعة للأركسترا الفيلارمونية. كلمات على "الدفتر الذهبي" بعد لحظات من الحديث الشيق والمتفرع في مواضيع مختلفة، قدم عبد الوهاب الدكالي لصفوان بهلوان الكتاب الذهبي الخاص بالمتحف، ليخط عليه الموسيقار السوري كلمات بخطه البديع جاء فيها "كم هي لحظات جميلة ومليئة بعبق الجمال والسحر أن تجول في أجواء الفن والإبداع، اللذين ترك فيهما الفنان العبقري أثره التاريخي، الذي يؤرخ لحقبة تاريخية من الفن المغربي الذي أضحى بفضله فنا عالميا، انبثق من غياهب المحلية.. لن أزيد عن هذا إنه شمس ويكفي أنها شمس". وكان مسك الختام تقاسيم على آلة عود الدكالي، من توقيع صفوان بهلوان، سبحت بالجميع في عوالم النغم الراقية، التي عكست روح الفنانين اللذين وحدهما عشق الإبداع فطرقا باب العالمية، من بوابة الالتزام بروح الفن والوفاء له.

الدكالي وصفوان بهلوان… لقاء السحاب

الموسيقار السوري يزور المتحف الخاص للموسيقار المغربي في أجواء تنضح بالفن

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

لقجع يرتب بيت الجامعة

إعفاء من تكاليف انخراط تعاضدية الفنانين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات