تحولات مجتمعية رهيبة وراء تنامي جرائم الدم والبيضاء في المقدمة شهدت بلادنا في العشرية الأخيرة نموا متزايدا في معدل جرائم القتل بدوافع مختلفة، بوأتها الرتبة الثانية عربيا في جرائم الدم، وجعلت البيضاء وفق تقرير صادر في فبراير الماضي، ضمن خانة عشر مدن الأكثر إجراما في العالم، وترخي جرائم الدم بظلالها على مدن عديدة ببلادنا ضمنها دكالة التي أضحت تعيش على إيقاع ثلاث جرائم قتل في الشهر الواحد، وقس على ذلك مدنا عديدة ما جعل جرائم القتل ترقى إلى مستوى حرب صامتة تحصد مزيدا من الأرواح، مخلفة خسائر بشرية في تزايد مستمر لها آثارها الوخيمة على النسيج الاجتماعي وأيضا على سكينة وطمأنينة عموم المواطنين، حتى وإن كانت المحاكم المغربية أصدرت لحد الآن 81 حكما بالإعدام في حق قتلة عدا أحكام سالبة للحرية بمدد مختلفة، فإن ذلك يظهر الآليات الزجرية في صراع متواصل مع آلة القتل التي هي الأخرى، لا تتوقف عن حصد مزيد من الأرواح البريئة. إنجاز: عبد الله غيتومي (الجديدة) كانت جرائم القتل ببلادنا مرتبطة في السابق بالدفاع عن الأرض والملكية الخاصة وأيضا عن الشرف، تنزيلا لمثل مأثور ظل يردده الناس مرارا "الرجل يموت على أولادو وعلى بلادو"، لكن تحولات رهيبة مست المجتمع في منظومة قيمه، جعلت دوافع القتل متعددة وفي معظمها مرتبطة بتصفية حسابات شخصية وأيضا تحت تأثير مؤثرات عقلية. ولم تعد جرائم القتل حصرا على فصل الصيف، الذي عادة يصنف بأنه فصل الجرائم، بل أضحت تغطي جميع فصول السنة، كما أنها لم تعد قصرا على المدن الكبيرة الآهلة بالسكان، بل رجع صداها كرر نفسه في أخرى متوسطة وصغيرة.. في دكالة وبالضبط بسيدي بنور، اهتزت قبيلة العونات، على وقع جريمة قتل راح ضحيتها شاب ثلاثيني متأثرا بطعنات قاتلة، حيث عثر عليه جثة بأرض خلاء، وحامت بداية شكوك عديدة، قبل أن تسفر أبحاث دقيقة من المركز القضائي للدرك، عن الوصول إلى الفاعل الذي لم يكن من المنحرفين أو ذوي السوابق، ولكن كان هو "مقدم" الدوار المفروض فيه صون أمن الناس وسكينتهم، والذي باح للمحققين أنه استدرج الضحية إلى خارج الدوار ووجه له طعنات كانت كافية لإزهاق روحه، مبررا جرمه المشهود بدافع الانتقام منه، لأنه كان على علاقة غير شرعية مع إحدى قريباته. جرائم بشعة في جرائم مشابهة، قتل ملاكم لزميله بجماعة الحوزية دفاعا عن الشرف، وشخص لزوجته ورضيعتها قبل أن يقوم بقتل نفسه بسجن سيدي موسى، وأيضا تصفية تجار مخدرات لشاب من حي الغزوة، وعدة جرائم أخرى معروضة على القضاء . وفي تطوان وبالضبط في منطقة وادي أسل، قتل شخص زوجته وأطفاله الأربعة طعنا بالسلاح الأبيض في يوليوز الماضي، وتحصن بالغابة قبل إيقافه، وهو يهم بالفرار إلى مكان مجهول، في وقت راجت معلومات عن أنه يعاني اضطرابات عقلية، وهو ما يفتح فعلا الباب على مصراعيه للحديث عن " ظاهرة المرضى عقليا "الذين أضحوا قنبلة موقوتة تهدد سلامة الناس في أي وقت وحين، وتفجر نفسها في شكل جرائم مدوية، كما حدث في قضية سفاح القدامرة الذي أجهز على عشرة ضحايا في 2016 ضمنهم والده ووالدته، وذلك يفرض التعامل مع المرضى النفسيين بكل الجدية المطلوبة، قبل تحولهم إلى أدوات قتل رهيب. وفي البيضاء استفاق حي المسعودية على العثور على أشلاء امرأة تبلغ من العمر 37 سنة، مخزنة في ثلاجة منزلها، وكشف البحث أن القاتل مثل بجثتها وقد يكون الانتقام دافعا لارتكاب هذه الجريمة، وقاد تحقيق دقيق إلى الوصول إلى شخص يبلغ من العمر 47 سنة ، الذي اعترف بطعنها حد الموت والتمثيل بجثتها . وفي إيموزار كندر اهتز حي أمعراض في الأسبوع الأخير من يوليوز الماضي، على قيام طفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة بغرس سكين في صدر جدها ما أدى إلى وفاته للتو، وذلك ردة فعل منها غاضبة على دخوله في ملاسنات مع والدتها . أرقام صادمة دقت وزارة الداخلية في 2013، زمن الوزير محمد حصاد، ناقوس الخطر بصدد تنامي جرائم القتل ببلادنا بدوافع مختلفة، وكان الوزير ذاته أورد بقبة البرلمان رقما صادما، وهو وقوع 600 شخص ضحايا جرائم القتل في السنة ذاتها، ووصفه الرقم بالكبير جدا مقارنة بدول أخرى، وأن البيضاء وفاس ومراكش في المقدمة، مذكرا بأن مجموعة من الجرائم مرتبطة بالمؤثرات العقلية، خاصة حبوب الهلوسة، وأن هناك مراقبة مشددة على الحدود الشرقية لبلادنا . وكشفت إحصائيات أخرى أن29 في المائة من جرائم القتل ببلادنا يقوم بها شركاء حميميون أو أفراد من الأسرة، وأن 8 في المائة بدافع السرقة وأن 3 في المائة من فعل عصابات منظمة. فيما صنف تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، بلادنا في الرتبة الثانية عربيا في جرائم القتل، بمعدل 2،2 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة، وأن معظم جرائم القتل مرتكبة من قبل ذكور بمعدل 87،8 في المائة، بينما الإناث بمعدل 12،2 في المائة . مقابل ذلك كشفت المديرية العامة للأمن الوطني أن الإستراتيجية الأمنية برسم الفترة الممتدة بين 2022 و 2026، حققت انخفاضا ملحوظا في المظهر العام للجريمة بناقص 10 في المائة، وفي جرائم القتل والضرب والجرح المفضيين إلى الموت بنسبة 25 في المائة، وذلك جاء نتاج تطوير آليات البحث الجنائي وتكريس الدور المحوري للشرطة العلمية والتقنية في الأبحاث المنجزة ، فضلا عن التبليغ الفوري للضحايا والشهود والتعاطي الجدي مع الوشايات الافتراضية . تراجع منظومة القيم يرجع الكثير من الباحثين في علم الاجتماع أن المجتمع المغربي ، مجتمع تسامح وتعايش مع الآخر ونبذ العنف والكراهية، وأن الجرائم الوحشية هي دخيلة عليه، ومست قيمه الأساسية وأثرت بشكل واضح على القدرة على ضبط النفس. وفي هذا الصدد كان عبد المنعم الكزان، باحث في علم الاجتماع، أكد أن لكل جريمة أسبابها وأرجع معظم جرائم القتل إلى الأزمة الاقتصادية والتهميش، فضلا عما تعرض له مرتكبوها في الطفولة من عنف وتنكيل، إضافة إلى التفكك الأسري وما ارتبط كذلك بتراجع في وظيفة العائلة والمدرسة ، بفعل التنشئة الافتراضية التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي. بينما يجمع باحثون آخرون على أن التحولات الكبرى والعميقة، جعلت المجتمع المغربي وكباقي المجتمعات تحت رحمة دينامية مجتمعية متسارعة في سياق ظاهرة العولمة، التي ضاعفت بحسبهم نفوذ وسلطة الجناة ، حد انتقال المشهد الإجرامي من النزعة الفردية إلى الجماعية . وزاد الباحثون بأن متغيرات ملحوظة طرأت على المجتمع المغربي ، وخلخلت بنيته الاجتماعية وقيم تنشئته ، وجعلت العائلات والمدارس الحكومية، غير قادرة على التصدي للمد الجارف للمحتويات التافهة التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعد بشكل أو بآخر مسؤولة عن تخريج قتلة وسارقين . فيما يذهب باحثون آخرون إلى ربط تنامي جرائم القتل، باتساع دائرة المتعاطين للمخدرات بمختلف أنواعها والحبوب المهلوسة، والتي أظهرت خبرات طبية متعددة على قتلة أنهم ارتكبوا جرائمهم الدموية حتى في حق الأصول، وهم في أوضاع نقصان قدراتهم العقلية أو انعدام مسؤوليتهم الجزئية بفعل اضطرابات نفسية متفاوتة الدرجات، نتيجة تعاطيهم لما سبق ذكره. ويذهب جل الباحثين إلى أن الأحكام المشددة، وإن كانت تصل إلى الإعدام والمؤبد، تبقى غير كافية لتحقيق الردع العام وتحقيق المبتغى وهو تراجع نسبة القتل ببلادنا، ما لم تكن بحسبهم مرفوقة بمقاربة اجتماعية يساهم فيها الجميع ، في محاولة للتقليص من سطوة جميع المؤثرات التي تنتج لنا مجرمين وقتلة. ترند: ضرورة تشديد العقوبة تلتقي الكثير من ردود أفعال معبر عنها من قبل شرائح مختلفة من المواطنين، في التعبير عن حالة " قلق مجتمعية"، أضحت تتسع باستمرار ولمناسبة كل جريمة قتل تعلن عن نفسها بمختلف ربوع البلاد، بمقابل المطالبة بتشديد العقوبات على القتلة، وعدم الرأفة بهم لبشاعة ما ارتكبوه. فقد غرد أحد قاطني الجديدة " رحم الله القاضي فايزي أبو الإعدام الذي أصدر 10 أحكام بالإعدام في حق مجرمين ارتكبوا جرائم دموية، وعلى من خلفوه على رأس غرفة الجنايات مواصلة التشدد اللازم والضروري حتى نردع كل من سولت له نفسه إزهاق أرواح الناس". فيما كتب آخر " ما كاين غير القتيلة الله يستر! حنا فين غادين، القتل لم يعد مقتصرا على ذوي السوابق ومنحرفين، هاهو عون سلطة بالعونات مفروض فيه الاستقامة، يصفي شابا بطريقة بشعة " الإنسان ولى يخاف من خيالو الله يستر وصافي". في جماعة أزلاف بميضار صاح والد طفلة عمرها خمس سنوات، اختطفها جاره وعرضها للجوع والعطش لمدة شهر إلى حد الموت" لا أستطيع أن أعبر لقد فقدت عقلي". تعليق آخر غاضب هذه المرة من مكناس، عقب العثور على طفل مقتول، عمره ثماني سنوات بعد اغتصابه من قبل منحرفين " هذا طفل ملائكة قتله منحرفون من شاربي الجانكة ومدمني مخدرات، هذه نتيجة التساهل مع هذه الشريحة المنحرفة والتي نراها بكل المدن المغربية، تتعاطى للممنوعات على مرأى ومسمع من الجميع، لقد حان الوقت لصون فلذات كبدنا من عدوانية هؤلاء والكرة في مربع الأجهزة الأمنية". بينما كتبت إحداهن على جدارها " لقد قتل أخي وتم التمثيل بجثته بطريقة بشعة وصلت حد قطع جهازه التناسلي، ولا مجال لأي حكم مخفف في حق الجناة، ولن نسكت طبعا عن انتزاع حكم رادع يشفي غليلنا من الجناة ". تغريدة أخرى قال فيها صاحبها" معظم الجرائم الدموية تتم تحت تأثير الحشيش و"الفنيد"، ولا أظن أن المؤبد والإعدام سيحدان منها ، يجب تجفيف القتل من منابعه، بحملات واسعة على تجار الحبوب المهلوسة والمخدرات وكافة أنواع المؤثرات العقلية". رأي محام: الردع مسؤولية الجميع أكد عبد الرحمان بناء، المحامي بهيأة الجديدة وسيدي بنور، بمجاليها الحضري والقروي، أن المنطقة باتت تحطم أرقاما قياسية في تنامي جرائم القتل وزاد"أضحت الجديدة من المدن الرائدة في القتل وتزداد الحدة في رمضان، بينما في البوادي فإننا نسجل الوتيرة المتصاعدة نفسها، وهي انعكاس لتزايد ظاهرة الضرب والجرح المفضيين إلى الموت دون نية إحداثه بالعديد من مناطق بلادنا، حد الوصول إلى أرقام مقلقة فعلا، وتستدعي أن نستوقفها والتعامل معها بالجدية المطلوبة، لأنها أضحت تهدد المجتمع في أمنه وسكينته". واستطرد المحامي "أسباب ارتفاع جرائم القتل كثيرة منها النفسية والاقتصادية وارتفاع نسبة الأمية وجهل الناس بالقانون، كما أننا في الآونة الأخيرة أصبحنا نسجل جرائم تصفية جسدية، بدافع الشرف والغيرة والانتقام، كما حدث بالنسبة لجريمة الحوزية التي عمد فيها مشعوذ إلى قتل امرأة وإحراق جثتها، دون الجرائم المرتبطة بالليالي الحمراء وتأثير الخمر والمخدرات". وأكد المحامي عبد الرحمان "الأحكام المشددة التي كان يصدرها المرحوم نورالدين فايزي لما كان رئيسا لغرفة الجنايات الابتدائية، حققت الكثير من الردعين العام والخاص، حيث لاحظنا تراجع منسوب القتل على عهده، لكن الأحكام القضائية وحدها لا يمكن أن تحقق الردع المنشود الذي يصون سكينة الناس ويحميهم في أرواحهم وأموالهم". وخلص بناء إلى القول "القتل لا يردع بالمقاربة الزجرية وحدها في ظل ارتفاع نسبة الأمية بالبوادي وجهل الناس بالقانون، وبالتالي فالتصدي له هو مسؤولية الجميع، من منطلق تحرك آليات المجتمع من قطاعات حكومية وفعاليات مجتمع مدني، لنشر توعية ضرورية في صفوف المواطنين، وخاصة الشباب منهم، كفيلة بتحصينهم من التأثير السلبي للمخدرات وأيضا تقوية مناعتهم حيال التفاهة التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي هي مسؤولة بنسبة كثيرة عن سلوكات منحرفة تنتهي بأموات وسجناء يقضون بقية أعمارهم وراء القضبان". عبد الرحمان بناء محام بهيأة الجديدة