محمد خير الدين… الطائر الأزرق ينبعث من رماده

صدرت حديثا عن دار النشر "الفنك" مجموعة أدبية مكونة من سبع روايات للكاتب المغربي الراحل محمد خير الدين (1941 ـ 1995)، بدعم من أكاديمية المملكة المغربية ومجلس الجالية المغربية بالخارج. الإصدار الذي أعاد بعث سبع نصوص إبداعية لكاتب مغربي استثنائي، شكل حدثا ثقافيا مهما، إذ رغم القيمة الأدبية لخير الدين فإن الوصول إلى نصوصه لم يكن متاحا بشكل متيسر سيما، أن طبعاتها الصادرة عن دور نشر فرنسية في الغالب، قد نفدت وكاد يطويها النسيان، ليتاح للقارئ المغربي والأجيال الحالية الاقتراب من متن "الطائر الأزرق". في هذا الخاص تستعيد "الصباح" أههم ملامح شخصية الكاتب خير الدين ومحطات حياته الأدبية والشخصية. إعداد: عزيز المجدوب تضم المجموعة الصادرة حديثا عن دار النشر "الفنك" سبع نصوص لمحمد خير الدين، وهي نصوص منتقاة بعناية، وتشكل محطات تعكس تطور أسلوب "الطائر الأزرق" وتنوع مشاربه الأدبية، بدءا بنصه المؤسس والأول "أكادير" الصادر سنة 1967 عن دار النشر الفرنسية "سوي"، ونص "أنا الحاد الطباع" (1970) و"النباش" (1973) ثم "رائحة المانتيك" ( أو الشحمة الغاوية بالدارجة) (1976) ورواية "حياة وحلم شعب تائه على الدوام" (1978) إضافة إلى رائعته "أسطورة وحياة أغنشيش" (1984) ثم نصه "كان ياما كان عجوزان سعيدان". وتعكس هاته النصوص المزاج الخاص والشخصية الأدبية للكاتب محمد خير الدين، الذي يعد واحدا من أرفع الأقلام المغربية التي كتبت باللغة الفرنسية بروح مغربية خالصة، تنضح بعبق كاتبها المشبع بثقافة البيئة التي درج فيها، وقراءاته المبكرة التي ساهمت في سبك لغته، فضلا عن مزاجه المبثوث في نصوصه، وكأنه انعكاس لبيئة وتضاريس وجغرافيا سوس التي تجمع بين القساوة وجمالية المناظر الطبيعية. إنها النصوص التي جذبت رموز الأدب والثقافة والفكر الفرنسيين، الذين انتبهوا للموهبة المبكرة لخير الدين، منذ أول نص له وهو "أكادير" الذي فتح له أبواب دور النشر الفرنسية على مصراعيها، وجعل أسماء من العيار الثقيل من قبيل جان بول سارتر وأندري مالرو وصمويل بيكيت وليوبولد سنغور وجاك لاكان وإيف بونفوا وجاك بيرك وبيير برنارد وغيرهم، يؤمنون بموهبة "الفتى السوسي" في الكتابة وقدرته على ترويض اللغة الفرنسية وتسخيرها لنقل عالمه المحلي بمنطقة سوس بشخوصه وقصصه وهواجسه، ليدمجه في نسيج الأدب الإنساني الكوني، بلغة مارس فيها نوعا من الحفر والتركيب إلى حد الإرهاق الممزوج بالمتعة، فكانت المحصلة نصوصا تجمع بين الشاعرية والسرد المتواصل، بتراكيب لغوية حادة وصادمة. من سوس كانت البداية من قرية "أزرو واضو" بنواحي "تافراوت" كانت صرخة الميلاد الأولى لمحمد خير الدين في 1941، ومن ذلك الهواء الجاف المشبع بعبق أشجار اللوز والأركان والنباتات البرية، الذي دخل رئتي الطفل الرضيع أول ما واجه الحياة، تشكلت أولى ملامح العالم الذي أصر خير الدين على حمله إلى القراء عبر نصوصه الأدبية، وظل مسكونا به. بعد سنوات طفولة قليلة أمضاها خير الدين في قريته، هاجرت أسرته إلى الدار البيضاء، حيث كان والده يزاول التجارة، بعد أن تشبع الفتى من القرية بزاد هائل من الأخيلة والشخوص وقصص الجدات، والأهازيج والأنغام على إيقاعات أحواش والروايس، لتمتزج في ذهنه بدهشة الاكتشاف اللذيذ لنصوص الشعراء الكبار الذين وجد نفسه منجذبا إليهم مبكرا، ، منهم على وجه الخصوص الشاعر الفرنسي آرثر رامبو وشارل بودلير اللذان كان لهما بالغ الأثر في نقل خير الدين من عالمه المحلي الصغير إلى آفاق رحبة، بعد أن استهوته اللغة الفرنسية وكانت وسيلته لاكتشاف العالم عبر الإدمان على المطالعة، ثم التعبير بها عما يختلجه. بعد أن أنهى دراسته الثانوية التحق خير الدين بالضمان الاجتماعي موظفا وعمره لا يتجاوز العشرين، وقضى بها سنتين، ما بين أكادير والدار البيضاء، وفي تلك الفترة أصدر رفقة الشاعر عبد اللطيف اللعبي مجلة "أنفاس" التي كانت بمثابة ميلاد حركة أدبية متمردة، أفرزت بيانا عبّر عن مضمون توجهها بعنوان "الشعر كله" حرره خير الدين نفسه، وبشر فيه بحركة تغيير جذرية يجب أن تطرأ على كافة المجالات بدءا بالمشهد الثقافي والأدبي. احتضان سارتر بباريس في منتصف الستينات قرر خير الدين السفر إلى باريس، بعد أن شعر أن المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي بالمغرب كان خانقا، فضلا عن أن طباعه المتمردة لم تكن تتركه يثبت على حال، ويظل أسير وضع ما. في العاصمة الفرنسية أثار انتباه كاتب عظيم وفيلسوف مثل جان بول سارتر الذي نشر لخير الدين قصيدة بعنوان "الملك" بمجلة " لي طون موديرن" (الأزمنة الحديثة)، كانت بمثابة مقدمة للعديد من النصوص والمقالات التي دأب "الطائر الأزرق" على نشرها بواحد من أرفع المنابر الأدبية خلال القرن العشرين. ويحكي مقربون من خير الدين أن فوضويته، وعدم استقراره في مكان محدد، كانت تجعل سارتر يعاني الأمرين، عندما يريد أن يمنح تعويضات مالية عن مقالاته التي يكتبها، فيضطر الفيلسوف الوجودي إلى البحث عنه في مقاهي وحانات باريس إلى أن يعثر عليه، ويسلمه أمواله نقدا، لكنها سرعان ما تتبدد فوق الطاولة نفسها التي تسلمها فيها، بعد أن يتحول صاحب "أغنشيش" إلى شخص كريم يغدق الأموال ويؤدي عن كل الأشخاص الذين تصادف وجودهم في تلك اللحظة ما أكلوه وما شربوه، إلى أن يعود راجلا إلى غرفته بالفندق المتواضع الذي ينزل فيه، بعد أن خسر آخر فلس ولم يترك حتى أجرة الطاكسي. حكى عنه الروائي المغربي محمد شكري قائلا "لم يكن محمد خير الدين يتوفر على سكن قار إلا نادرا، كان يبدل ثيابه في منزل أحد أصدقائه ويترك الوسخة منها حيث يخلعها… لم يكن يتقيد بالمواعد، ينام في فندق أو أينما تيسر له أن ينام، إنه الطائر الأزرق، السماء كلها له، أحيانا كان يأتي ولا شيء في جيبه، كنت أستقبله، ولكنني لم أكن أستطيع أن أقيمه معي في المنزل، إنه الأرق بعينه، إذ هو كثير الحركة ليل نهار، لا يمكن معرفة متى ينام ومتى يستيقظ، لم يكن يعنى بصحته، نادرا ما رأيته يأكل بشهية… لم أكن أعرف متى يقرأ ومتى يكتب". ومع ذلك كان يكتب تقريبا كل سنة كتابا واحدا رغم حياته الصاخبة وغير المستقرة، فمن المعروف عنه أنّه يكتب دفعة واحدة وبوتيرة قوية دون توقف منقطعا عما حوله وخارج العالم المحيط به. لكن محمد خير الدين لم تفتنه باريس بمباهجها، فعاد إلى المغرب ليواصل حياة التيه بين مدنه لا يملك لنفسه مستقرا سوى الفنادق وبيوت الأصدقاء. بعد أن عاد إلى المغرب واصل خير الدين نمط حياته الفوضوي، ولم ينتظم سوى في الكتابة، إلى أن فاجأه المرض بطريقة عبثية إثر خطأ طبي بليد، بعد أن حاول أحد الأطباء خلع ضرس له بطريقة غير سليمة، فتسبب له في سرطان بالفك، عجّل برحيل "النباش" وسنه لا يتجاوز الرابعة والخمسين. حـزل: كتابـة خيـر الديـن امتحـان للترجمـة قال الكاتب والمترجم عبد الرحيم حزل، الذي سبق له أن ترجم العديد من نصوص خير الدين إلى اللغة العربية إن "كتابة محمد خير الدين من أصعب ما قد تحاول الترجمة نقله إلى العربية. لماذا؟ لأنها كتابة غير مهادنة لنفسها أولا؛ فتكون بالتالي غير مهادنة للقارئ، وللمترجم معاً. فمن المعلوم أن خير الدين ظل كل انشغاله باجتراح لغة تكون توازي الثوران الذي كان صفة دائمة لعوالمه. ولعل شيئاً من ذلك الثوران يدلك عليه، في صورة ظاهرة، ابتكارُه كلمات وتعابير لم تكن معهودة للناطقين بلغة موليير، ولا للكاتبين بها. والكتابة اللصيقة بعوالمها الأصلية، والمعبرة عنها من خلال لغة غير لغتها الأم، مآلها عند كاتب متنبه الحواس دوماً إلى فضائه الأمومي، كخير الدين، إلى ما آلت إليه الكتابة عنده. لقد ظل خير الدين مُعاركاً لغة أجنبية عنه، ولكنه لم يكن يملك سواها، ليطوعها للتعبير عما هو مسكون به : الحكايات المغربية، والفضاءات المغربية، الجنوبية خاصة، نبيتِها، ووحيشها، وحجرها؛ وفي المقام الأول إنسانها الجامع في كيميائه بين الواقع الحاد كسكين، والأسطورة والخرافة اللتين لا تنفصلان عن ذلك الواقع، واللتين صيَّرتاه إلى واقع حلمي، عجائبي، ظل خير الدين متأرجح الكتابة بين استذكاره، وتصويره، وتوليده، من خلال صبه في العوالم الأخرى التي تشبع بها من خلال تشبعه باللغة والثقافة الفرنسيتين. لهذه الاعتبارات كان عندي الاشتغال على ترجمة نصوص محمد خير الدين، ولا يزال، مغامرة جميلة، وذلك أنها نصوص تواجه الترجمة بامتحان صعب، لأنها تستدرجها إلى إعادة اكتشاف نفسها، بما هي عملية تفكير خلاق، دائم، في اللغتين المنقول منها المنقول إليها، وتستدرجها بالتالي إلى تثوير نفسها على الدوام. فكتابة خير الدين تشرع أمام عملية الترجمة من رحيب الآفاق ما تضن به عليها الكتابات السكونية، المهادنة لنفسها، ولما تكتب من عوالم. فتكون كتابة خير الدين تؤكد حقيقة ترجمية قد لا يوافقني إليها الكثيرون. وهي أن الكتابات ذات اللغة المضاعفة الاشتغال، أي اللغة التي تشتغل على نفسها وعلى ما تروم التعبير عنه معاً، فتكون أكثر من أداة توصيلية، إجرائية، هي التي تحقق للترجمة رحيب الآفاق. في حين تنكمش تلك الفضاءات في وجه الترجمة التي تروم النصوص المسطحة".

محمد خير الدين… الطائر الأزرق ينبعث من رماده

"الفنك" تعيد نشر سبعة نصوص للكاتب الذي روّض اللغة الفرنسية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الجنائـز... "بزنـس" الـموت

تقرير أسود حول "انطلاقة"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات