رجال ركراكة… الحكاية من السطر الأول

تقدم حنان ركراكي، حفيدة "سيدي واسمين"، سلطان ركراكة الأحرار، في هذا الكتاب، واحدة من تحف السرد الأنيق لقصص رجال شرفاء نسجت حولهم الأسرار والأساطير وأحاطت بهم الألغاز، وتحولت سيرهم إلى حكايات في أفواه الجدات للأحفاد. إعداد: يوسف الساكت (الحلقة العاشرة) الرحيل في السفينة كانت إشارة من السماء بنهاية حياة مظلمة تعد بولادة جديدة شرطها الوحيد صدق الإيمان صبغ الحزن العيون خلال لحظة التوديع وأحس الجميع بلوعة الفراق قبل أن يتحرك الركب نحو وجهتهم والشمس في كبد السماء. كانوا قد أخذوا طريقهم وسط الحقول حيث يزدان أديمها بنبات شتى من إكليل الجبل وغيرهما، كان هبوب الريح يشتد في بعض الأحيان لكن الرفقة استطاعوا التخلص من العواصف الرملية بالسير بمحاذاة الشاطئ إلى أن وصلوا إلى مكان إبحارهم. كانت هناك سفينة راسية، أسرع بعض ركابها إلى مساعدة الرفقة على الصعود واتخاذ أماكنهم فيها، فيما أخذت تافوكت تشد من أزر زوجة وارزيز وتقوّي عزيمتها. انتظر الرفقة عدة ساعات قبل أن يلتحق ركاب آخرون بالسفينة ويُنصبَ شراعها للإبحار. صاح إدريس: الحمد لله، بعد أن شقت السفينة طريقها في عرض البحر. تدثر الرجال والنساء بما يستطيعون من الألبسة والأغطية، بينما استعاض البعض عن دوار البحر بالغطّ في النوم العميق. كان النسيم يتهادى بيسر وسط البحر، والسماء صاحية الأرجاء، وكان الوقت ينبض بحركاته على وقع هبات الريح موحدا بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبالتالي خلق لحظة خالدة تتعالى عن الزمن. كانت العوالم تزدان يوما بعد يوم، مزهوة بسحر الحياة ودَفقِ الروح الذي يسري في الوجود. أخذ البحر يأخذ بالألباب ويؤثر في النفوس، وكانت آفاقه الواسعة المشرعة على كل سَمت صورةً للقول الإلهي " فأينما تولوا وجوهكم فتمّ وجه الله " كان البحر أيضا مثالا لتجلي الكون حال سكونه وسموّه، حال انكشافه وبساطته. مرت أيام عديدة قبل أن تترك نسائم البحر العليلة مكانها لرياح باردة تندفع بشآبيبها على السفينة، صارت الحيوانات المحمولة فيها أكثر اضطرابا والركاب أشد خوفا وهلعا، وكان الربان يحاول جاهدا أن يهدئ من روعهم ويطمئنهم على نفوسهم، كان ربانا خبيرا بمثل هذه الظروف، خبيرا بدروب البحر وأهواله، وقد صاح بصوته الأجش: - أثبتوا! هنا موضع الكبريت، حيث الماء مختلف عن غيره في سائر اليمّ، تمسكوا، سيكون الجميع بخير عن قريب. كان الماء يغلي تحت السفينة، ولم يشأ الربان إخبار الركاب بأن الكثير من السفن غرقت هنا وأن الكثير من النفوس أزهقت.كانت عيون واسمين ورفاقه تنضح بالحيرة وهم يرون الربان يعمد إلى عَنَاق فيذبحها ثم يلقي بلحمها في الموج الهادر وهو يردد تعاويذ وأدعية، كانت هذه عادة أولئك البحارة الأشداء حين يتعاظم خطر البحر من حولهم، وقد فهم واسمين مما رآه أن مصير السفينة هو بين النجاة أو الغرق. كان القائد ينظر إلى واسمين ورفاقه بإعجاب وإكبار متسائلا إن لم يكن وجودهم على السفينة إشارة ذات دلالة، ربما كانت للأمر علاقة بما يختزنه في قلبه منذ مدة دون أن يستطيع الإفصاح عنه ومشاركته مع أحد، هل هي مجرد صدفة عابرة أن يكون هذا اللقاء مع هؤلاء القوم الذين تظهر أقوالهم وأفعالهم أنهم يعرفون الكثير مما يجهله سائر الناس؟ كانوا ملء عينه وفؤاده فهم شجعان صارمون، ومتواضعون مُخبتون في تفويضهم الأمر إلى المشيئة، كان إيمانهم مصدر هَديهم، وحياتُهم بحثا عن سبل الخير وطرق الإحسان والبرّ بالناس، يقاسمون المحتاجَ ما لديهم مهما يكن نزرا قليلا. إنها الإسكندرية كانت إشارة من السماء بنهاية حياة مظلمة، إشارة صامتة تعد بولادة جديدة، شرطها الوحيد صدق الإيمان، وفي ليلة ساكنة حيث صوت التموجات الخافت يصل إلى الأسماع فيتهادى ركاب السفينة على وقع الأمواج. تعالى صوت القائد الأجش مغالبا صمت اللحظة معلنا بحماس: - مرحبا! إنها الإسكندرية، بيضاء كاللؤلؤة، مُضاءة بأشعة الشمس المشرقة، كانت تمتد أمام عيون المسافرين قريبة من نظرات إعجابهم.كان هناك قصر ماثل محاط بأسوار عالية تتكسر عليها أمواج البحر الهادر، وبجانبه بنايات. كان المنظر الجميل للإسكندرية يبهج ركاب السفينة ويفرحهم أكثر من فرحتهم بمعانقة اليابسة. - الحمد لله! صاح واسمين. وهم يغادرون السفينة حيى واسمين ورفاقه القائد بحرارة، طالبين من الله أن يمد في عمره، ثم انطلقوا إلى أمتعتهم يجمعونها وإلى عبارة تنقلهم إلى الشاطئ. وحين دخلوا المدينة كانت دهشتهم عظيمة لما وجدوها غير مأهولة، لم يكن هناك أثر لبشر،ثم تقدموا باتجاه أحد الأبواب للخروج، حيث صادفوا بعض التجار الأجانب وعلى وجوههم المتوترة ملامح الخوف والارتياع، كانوا يفرون من خطر داهم، وقد علمت الرفقة بعد ذلك أن مدينة الإسكندرية حل بها وباء قاتل، إذ أخبرهم أحد التجار وهو يهرول في جزع أن ملكة البلاد أمرت جميع السكان بالبقاء في منازلهم، فيما تولى جنودها تأمين حاجياتهم.

رجال ركراكة… الحكاية من السطر الأول

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اعتقال‭ ‬قاتلي‭ ‬ستيني‭ ‬بأولاد‭ ‬افرج

مقربون من وزير ينهبون الرمال

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات