جودة التشريع ودقته تعبدان الطريق أمام القضاء لتحقيق العدالة والمساواة (2/1) بقلم: مراد علوي * إن صناعة التشريع هي عملية دقيقة، ولا تخلو من صعوبات وتعقيدات، بالنظر إلى تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي تتم وفق منهجية، وفي إطار من التدرج والشمولية والاستشراف. تحيل صناعة التشريع إلى الإعداد والتحضير، تبعاً لإجراءات معينة، على سبيل تحقيق أهداف والاستجابة لحاجات محدّدة، ترتبط بتنظيم سلوك الأفراد والهيآت داخل المجتمع، مع استحضار الجانب الزجري والإلزامي في هذا الخصوص. يقتضي سن تشريعات، الانفتاح على تطور المجتمع وخصوصياته، وبقدر من الثبات الكفيل بضمان استقرار المعاملات، وتحقيق العدالة، والاستئناس بآراء الهيآت المعنية، وفتح نقاشات عمومية، إضافة إلى احترام التدابير القانونية، والإدارية ذات الصلة، مع الانفتاح أيضا على تجارب وتشريعات مقارنة، واستحضار الالتزامات الدولية، في ما يتعلق بالاتفاقيات المصادق عليها في مختلف المجالات (حماية البيئة وحقوق الإنسان)، كما تتطلب أيضا قدرة فائقة على استيعاب المتغيرات الاجتماعية وتطوراتها، ومعرفة شاملة بالقانون وتفرّعاته، وإشكالاته المختلفة، والوعي بانتظارات المجتمع في هذا الصدد. تسهم جودة القوانين في بلورة عدد من المداخل والحلول الكفيلة بالتعاطي بنجاعة مع الإشكالات والنزاعات التي يطرحها الواقع الاجتماعي المتغير، والمساهمة في تطوير النصوص القانونية، وجعلها مواكبة للتطورات الحاصلة داخل المجتمع، وتعزيز الحماية اللازمة للحقوق والحريات، كما تدعم أيضا استقرار وتجويد القاعدة القانونية. تمر التشريعات قبل صياغتها النهائية بمجموعة من المراحل، التي تبدأ بتحديد الموضوع أو دواعي ودوافع الصياغة وأهدافها الكبرى، ثم تخصيص إمكانيات تقنية ومالية وبشرية لإنجاح هذه المهمة، قبل فتح نقاشات عمومية في هذا الصدد، والوقوف على آراء الخبراء والفقهاء والمختصين والمواطنين. ويمكن إجمال الضوابط التي ينبغي التقيّد بها عند الصياغة النهائية، في تدقيق الهدف من التشريع، وسياقه، ومبرراته، ودواعيه، والاطلاع على النصوص ذات الصلة، لتجاوز أي تناقض أو تداخل قد يحدث في هذا الخصوص، وتعزيز الانسجام والتكامل مع باقي هذه التشريعات، ثم تصنيف القانون الجديد تبعا للفرع الذي يندرج ضمنه، وتحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بتشريع جديد، أو مجرد تعديل لنصوص سابقة، ويفترض في اللغة القانونية المستعملة أن تكون دقيقة وواضحة ومجردة ومختصرة، ولا تحتمل معاني كثيرة أو غموضا، رغم أن هذا الأخير قد يكون مقصودا في بعض الأحيان، يتيح هامشاً أمام سلطة القاضي التقديرية، كما ينبغي أن يكون النص التشريعي متماسكا، من حيث تطابق الألفاظ المستخدمة مع المعنى المقصود. وعندما يتم إعداد مسودة أولية للتشريع المطلوب، يتم تكليف كفاءات تحظى بقدر من الاستقلالية والنزاهة، ومختصة في مجال الصياغة القانونية، لوضع مشروع دقيق، ثم عرضه على الهيأة التشريعية المختصة التي قد تتشكّل من غرفة واحدة أو أكثر، قبل المصادقة عليه من قبل رئيس الدولة وإصداره في الجريدة الرسمية. انطلاقا من سمو الدستور، ثمة قاعدة قانونية معروفة تقضي بأن التشريعات العادية لا ينبغي أن تكون متناقضة مع بنود القانون الدستوري.. ومن هنا تأتي الرقابة الدستورية مدخلا للتأكد من مطابقة التشريعات المختلفة لهذا الدستور، وإضفاء طابع المشروعية على مقتضياتها. وتتخذ الرقابة على دستورية القوانين منحيين، الأول، سياسي ووقائي (قبلي)، يتم من خلال هيأة سياسية يحدّدها الدستور، والثاني قضائي (بعدي)، ينحو إلى التحقق من مدى مطابقة التشريع لمقتضيات الدستور. وعادة ما توكل مهمة النظر في دستورية القوانين إلى هيآت تحددها الدساتير نفسها (مثلا المحكمة الدستورية في المغرب بموجب دستور 2011)، ومخالفة النص للدستور تفرض إلغاءه أو مراجعته من جديد. الجدير بالذكر أن هذه الرقابة تدعم دولة الحق والقانون، وترسخ سمو الدستور، والممارسة الديمقراطية واحترام المؤسسات. إن كسب رهان تحقيق الجودة في صناعة التشريع بما يدعم استقرار هذا الأخير، هو مدخل يضمن الفعالية والنجاعة، وتحقيق الأهداف الكبرى المتوخاة من إصدار القوانين بشكل عام. أضحت اليوم الكثير من التشريعات في عدد من الدول المتقدمة، تمثل في جودتها ودقتها وتجردها، مرجعا رائدا يتم الاستئناس به في صياغة وصناعة القوانين في مختلف دول العالم، وتستأثر جودة القوانين بأهمية كبيرة، فعلاوة على مساهمتها في توفير شروط التنمية المستدامة، فهي تعبد الطريق أمام مؤسسة القضاء لتحقيق العدالة والمساواة والإنصاف، في إطار من المرونة والنجاعة. عملية التشريع بالغرفة الأولى (مجلس النواب) إن تحرير هذا المقال المبسط عن مسطرة التشريع بالمغرب، يعود إلى بعض المحاضرات، التي ألقاها عبد الرحيم خالص في مادة القضاء الدستوري والرقابة على التشريع بماستر الصياغة القانونية وتقنيات التشريع بالمغرب، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأيت ملول (جامعة ابن زهر بأكادير). ولذلك، عمدت إلى محاولة تلخيصها وتقديمها للمتلقي والباحث المهتم، بهدف بسط بعض خطواتها وإجراءاتها الرئيسية، كما تتم لدى مجلس النواب، مع العلم بأن المسطرة نفسها، والخطوات تتم على مستوى مجلس المستشارين بالبرلمان المغربي (لكن مع اختلافات جوهرية يمكن الإشارة إليها في مقال مقبل عما قريب. تبعا لما سبق، تمر مسطرة التشريع بالمغرب، تقريبا، من أربع مراحل محددة ومتكاملة في ما بينها، لكل مرحلة تسميتها وخطواتها الرئيسية، كما لها إجراءات دقيقة ومضبوطة. المرحلة الأولى يمكن تسميتها بمرحلة الاستقبال لدى مكتب مجلس النواب، تتحدد خطواتها الرئيسية في سبع خطوات: تكون البداية بالإيداع ويقصد به إيداع الحكومة مشاريع قوانينها لدى مكتب مجلس النواب (الفصل 78 من الدستور المغربي لسنة 2011) وكذا إيداع النائبات والنواب مقترحات القوانين (المادة 172 من النظام الداخلي لمجلس النواب) والمواطنات والمواطنين لملتمسات التشريع (الفصل 14 من الدستور المغربي لسنة 2011)، تليها خطوة الإحالة الخارجية وتعني أن مكتب مجلس المستشارين يحيل مشاريع ومقترحات القوانين على مكتب مجلس النواب، (نظمت هذه العملية المادة 172 من النظام الداخلي لمجلس النواب). * باحث في القانون الإداري والمالي - كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال بالرباط