رقم معاملات بالملايير عمالقة

خصص الفيلسوف الكندي "آلان دونو" فصلا من كتابه "نظام التفاهة" للحديث عن الاقتصاد التافه أو الغبي من خلال تسليط الضوء على جيل جديد من احتياجات طبقة من الأغنياء فاحشي الثراء وكيف أن الشركات أصبحت تتنافس في ما بينها من أجل الاستجابة لهذه الحاجيات، التي ليس لها وقع حقيقي على فئات واسعة من سكان العالم. ويقدم الكاتب مجموعة من الأمثلة حول هذا التحول أو الزيغ الذي أصبح يميز الاقتصاد العالمي، بتخصيص موارد مهمة وموارد بشرية مؤهلة لإنتاج سلع وتقديم خدمات لفئة محدودة من الأغنياء. وكان هذا التحول منطلقا لبروز أنشطة تافهة متنوعة مدرة للدخل، ساهم في انتشارها عمالقة النت، مثل "فايسبوك" و"أنستغرام" و"يوتوب" و"تيك توك" وغيرها، التي أصبحت تمثل فرصة لأي تافه من أجل تحقيق مداخيل مهمة وبطريقة سهلة، وتحول هؤلاء، بدورهم إلى نماذج نجاح لآلاف من الشباب الراغبين في اختصار المسافة والوصول إلى الثراء بأسرع طريقة. وقاد البحث الحثيث عن عدد المتابعين والمعجبين أصحاب بعض القنوات إلى تقديم محتويات تافهة جدا على قنوات التواصل الاجتماعي، تصل في بعض الأحيان إلى الإيحاءات الجنسية، بهدف استقطاب آلاف المتابعين لضمان مداخيل متزايدة. ولا تولي المجموعات العالمية المتحكمة في الأنترنيت أهمية لجودة المحتوى القدم، بقدر ما يهمها عدد المتابعين، لأنها تتمكن، بدورها، من خلال عدد المتابعين، إلى تحصيل مداخيل إشهار بملايير الدولارات. وتحول أصحاب قنوات التفاهة بالمغرب إلى أشخاص مؤثرين لهم وزنهم في سوق الإشهار، إذ تلجأ إليهم كبريات الشركات للترويج لمنتوجاتها، ما يدر عليهم مداخيل مهمة، إضافة إلى ما يحصلونه من عمالقة النت على عدد المشاهدات والمعجبين وغيرها من المعايير الأخرى التي تحتسب على أساسها مداخيل أصحاب القنوات. ويتمكن أصحاب هذه القنوات من تحصيل مبالغ يمكن أن تصل إلى 300 ألف درهم على مقطع لا تتجاوز مدته عشرات الثواني أو بضع دقائق، ولم تعد هناك أي حدود أمام صناع التفاهة، من أجل كسب مزيد من المتابعين، فهناك من يتقاسم مع المشاهدين مشاهد حميمية بغرض كسب مشاهدات وتحصيل مداخيل إضافية. وهكذا تحولت صناعة التفاهة إلى قطاع قائم بذاته يحقق رقم معاملات بملايير الدولارات عبر العالم، وتحول أصحاب هذه القنوات من أشخاص تافهين يروجون إلى محتويات تافهة وسخيفة إلى مشاهير ونماذج يقتدى بها. ولا يقتصر الأمر على المغرب، بل إن التفاهة أصبحت منتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى نشاط اقتصادي يدر الملايير على صناع المحتويات السخيفة، التي تخدش الحياء في حالات عديدة بالمجتمعات المحافظة. ويواصل هؤلاء التافهون الترويج لسخافتهم، وتحولوا إلى نماذج ناجحة يسير على دربهم باحثون آخرون عن مداخيل بأسهل الطرق، ما ساهم في التطبيع مع هذه السلوكات الشاذة. عبد الواحد كنفاوي شهادات تتفيه المدرسة لم يكن استهداف دور المدرسة مجرد حالة عابرة تقتضيها التحولات المجتمعية، بل كان هدفا مدروسا منذ سنوات، إذ أصبح المعلم والأستاذ محل سخرية وتنكيت من قبل الجميع، ما كان يقود المجتمع منذ السبعينات نحو التغيير وبناء مجتمع ديمقراطي تحترم فيه كرامة المواطن. وتوالت الضربات على المدرسة، وتغيرت الأدوار، وتحول دور المدرس من فاعل وقائد إلى فاعل سلبي ومحل للسخرية، لم تعد الأسرة تحترمه بعدما كان مؤثرا حقيقيا، وأصبح يتعرض للاعتداءات اليومية في مقر عمله قبل أن تنهار صورته كليا. في المقابل، تحركت الآلة الإعلامية للتأثير على الأجيال الصاعدة، موهمة إياها أن المال أساس الحياة ولا يهم الطرائق التي يكتسب بها، المهم أن تكون مؤثرا بنشر محتويات سخيفة بتشجيع من مواقع تجندت لهذا الغرض، وتلقت الدعم الكلي من قبل ممولين، وضعوا نصب أعينهم استنبات قيم جديدة لا تعير للعمل والمثابرة أي اعتبار، بل تكرس قيم الكسب السريع ولا تهم الوسيلة التي يكتسب بها. نشأ جيل جديد يؤمن بقيم مغايرة لما كنا نؤمن به، أصبح الغش في الامتحان مثلا مفخرة وتبجيلا لمن ينجح في « النقلة»، بل تتسابق مواقع مشهورة مباشرة بعد خروج التلاميذ من الامتحانات الإشهادية (الباكلوريا) لمنح فرصة التباهي بالتفاهة والسخرية من المدرس الجاد الذي يؤدي عمله بإخلاص، وتشتم الأسر الحراس الذين منعوا أبناءهم من ممارسة « حقهم في النقلة» وتمجد الأستاذ والتلميذ الذي ساهم في الغش وأتقن دوره الهابط دون أن يخجل الجميع بأنهم كرسوا مظهرا من مظاهر التفاهة التي أصبحت قيمة للتباهي في المجتمع. عبد الحق أبو أيمن (مدرس متقاعد) أسباب الظاهرة من الصعب أن نتحدث عن مظاهر التفاهة، التي أصبحت مستشرية بشكل واضح وجلي وسط فئات عريضة من المجتمع المغربي، دون استحضار الأسباب التي ساهمت في تفشي الظاهرة في مجتمعنا المغربي، وبالتالي فإن تحديد أسباب الظاهرة وتداعياتها على المجتمع، خاصة الجيل الناشئ، أصبح ضروريا للبحث عن الحلول الإجرائية ليستعيد المجتمع دوره وتؤدي الأسر رسالتها بشكل إيجابي. انتشار التفاهة في المجتمع، يمكن أن يعزى إلى عدة عوامل في مقدمتها، تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت تشجع على انتشار المحتوى السريع والسطحي، الهادف إلى كسب مزيد من الثروة والمال عن طريق ‘الأدسنس» على حساب المحتوى العميق، والهادف الذي أصبح عملة نادرة في واقعنا الحالي. كما أن السعي وراء الشهرة السريعة وجلب الاهتمام يمكن أن يدفع الكثيرين، لتقديم محتوى تافه يحقق مشاهدات أعلى ما أصبحنا نطالعه بشكل يومي في مجال الصحافة والإعلام كمثال حي على ذلك، إذ يتم تخصيص حيز مهم من وسائل الإعلام لهذا الغرض،بنشر وتعميم أخبار الفضائح والجرائم والتفاهة،واستعمال مفردات لا تمت بصلة للعمل الصحفي المهني الرزين ما يؤثر في المتلقي، ويساهم في تعزيز ميوله نحو التفاهة بشكل لا إرادي في أحيان كثيرة. عادل المحبوبي (مدرس وإعلامي) استقاهما: سعيد فالق (بني ملال) تكريم التافهين أرى أن العالم يعيش اليوم عصر الجمود والانحطاط، بعد أن تحول التافهون إلى مشاهير ونجوم يحضون بمتابعة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال فعل جنوني، أو فضيحة اقترفوها، أو حتى عمل ساقط مكنهم من الاستحواذ على اهتمام الكثيرين، بعد أن صارت "السوشل ميديا" أبوابا مفتوحة لتسلل المغرمين بالتفاهة وقلة الوعي. فالانتشار السريع الذي وفرته وسائل التواصل الاجتماعي، التي تضج بها الهواتف من سناب شات، فيسبوك، انستغرام، تيكتوك... ساهم في ظهور شخصيات لا تملك أي موهبة ولا حتى تحصيل علمي، وأصبحوا يتصدرون قائمة الأعلى مشاهدة على منصة اليوتيوب، لما يقدمونه من تفاهة تنتشر في المجتمع كالنار في الهشيم، وحولتهم إلى "مشاهير" و"مؤثرين" و"رموزا" إعلامية في التواصل الاجتماعي. فالتفاهة باتت حاليا تلامس كل شيء في حياتنا، في الشارع والمنزل والجامعة والعمل، وتغلغلت في الفن والموسيقى والأدب حتى السياسة، حيث أصبح حضورها واضحا في مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أجهزة الإعلام الأخرى المسموعة منها والمقروءة والمرئية، وحتى في الأعمال المسرحية والموسيقية والسينمائية، التي أصبحت تسوق التفاهة أكثر من أن يكون هدفها الارتقاء بالمجتمع. مصطفى خيرون (مهندس معماري بطنجة) فوضى وابتذال بما أن التفاهة اختلطت بكل المهن، بما فيها مخصصة للمناصب الرفيعة التي يجب أن لا ينالها إلا من يتوفرون على دراسة وخبرة، فلا غريب حينما نرى ونسمع التفاهة تنتشر عبر الشبكة العنكبوتية، التي أصبحت مباحة للجميع بلا شروط أو قواعد، ويمكن للجاهل والمنحرف والمجرم والنصاب استخدامها واللجوء إليها دون شرط أو قيد، ما أفقد كل المعايير التي تحفظ مكانة المواهب وتعطيها حقها وقيمتها الحقيقية. فالتفاهة تحولت لتجارة مربحة بالنسبة لمستثمريها، وأصبحت مقبولة لدرجة يتم تكريم أهلها والتصفيق لمن يروجها، بعدما انعدمت القيمة الحقيقية وغاب الإبداع، إذ بإلقائك نظرة على العشرات من الحسابات التابعة لمن يتداولون هذه التجارة، والتمعن بما يتم طرحه، ستصل إلى قناعة بأنها هذه التجارة عبارة عن فوضى لا تخلو من الابتذال والسخرية. فخلال السنوات الأخيرة انتشرت على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة ما يعرف بـ "البوز" أو الشهرة الاجتماعية، إذ يسعى أشخاص تحت مسميات مختلفة إلى تحقيق نسب مشاهدة مرتفعة بغض النظر عما يقدمونه من محتوى، حتى أصبح لقب الشخصية المؤثرة يشار به الآن إلى الشخص صاحب الرقم الأكبر بالإعجاب والتفاعل، وتحول الأمر إلى ظاهرة مرضية سرعان ما تؤدي إلى العدوى السريعة والمباشرة. بالمقابل، هناك كثير من صناع المحتوى، الذين يقدمون أفكارا وطروحات وقراءات ويناقشون قضايا علمية وثقافية وسياسية واجتماعية وفلسفية بأسلوب جديد وسلس، لكن التفاعل معهم يكون ليس بمستوى المحتوى المعرفي والثقافي الذي يقدمونه، وهذه هي مشكلة العصر الرقمي، الذي أصبح فيه التفكير سطحيا والمعلومة بلا معنى. أنوار الكلافي (محام بهيأة طنجة) استقاهما: المختار الرمشي (طنجة) التقنين ضروري "في نظري فالمجتمع ليس تافها مطلقا، بل فرضت عليه التفاهة تدريجيا وعبر مراحل حتى استشرت وبدت كما لو أنها أساس والباقي استثناء. وهذا ما لا يمكن إسقاطه أو تعميمه أو القول بأنه أصبح تافها، فالمجتمع ناتج خام لسياسات عمومية ساهمت في ما نحن عليه، ونتمنى مراجعتها حتى لا يزيد الوضع قتامة والتفاهة استفحالا. صراحة علينا أن نؤمن بمجتمعنا العظيم لأنه نحن جميعا، ومسؤولية تخليصه من التفاهة مسؤوليتنا جميعا كما مراجعة الأسباب التي ساهمت عبر السنوات في استفحال مظاهرها، سيما بعدما أصبحت "السوشل ميديا" واقعا يفرض نفسه على العالم أجمع وليس علينا فقط، فكل العالم يستعملها، لكن لكل مجتمع رؤيته للواقع والمستقبل. يجب أن ننتبه لهذا الأمر قبل فوات الأوان، فمن يقبلون بالتفاهة ويقبلون عليها، هم جزء من مجتمعنا ويجب أن نبحث عن خارطة طريق لتخليصهم منها ببث الجاد مما يمكن أن نؤثث به السوشل ميديا طالما أن النشر حق مكفول بقوانين دستورية وللجميع ويعتبر حرية شخصية وعن التعبير ولو أن هذه الحرية يجب أن تضبط. فبدل تحميل المقبلين على التفاهة، مسؤولية هذا الوضع، يجب أن تتضافر جهودنا جميعا وأن نعمل على التحسيس والتوعية بخطورة نشرها خاصة أن رقعة المقبلين عليها والقابلين بها، هم فئة كبيرة ما فتئت تكبر تدريجيا، ما يجب أن نعي خطورته والدولة مطالبة بالتدخل على الأقل بتقنين استعمال السوشل ميديا". مراد زكي (فاعل جمعوي) التطبيع المستمر "انتشار التفاهة في مجتمعنا واقع مر لا أحد يقبل به ولو تعايشنا معه على مضض. يبدو أننا طبعنا مع التفاهة والتافهين، وأخشى ما أخشاه أن نستيقظ يوما ونصل درجة تصبح فيها هذه الطفيليات الضارة هي الأصل وما دونها تقليد، فينطبق علينا ما انطبق على قوم لوط حين قالوا: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون". وفي رأيي فإن أخطر ما في وباء التفاهة الفتاك، هو تشكل قاعدة جماهيرية من الأطفال والمراهقين، رأت النور وترعرعت مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي دون لقاح أو حماية، هذه الفئة بالضبط ترى في بروفيلات من قبيل: فيلسوف، وعالم، ومفكر وكاتب و...، حقلا مفاهيميا غريبا من عالم قديم جدا. إن هؤلاء يعرفون طريقا واحدا للشهرة والمال والمكانة، يبتدئ وينتهي في نظرهم عند كرة القدم و"الغناء" والموضة، وفي حال الفشل في ما سبق ذكره فيكفي أن تفتح كاميرا الهاتف أولا وأن تتفوه بأشياء بعيدة عن المدرسة والكتب والعلم والأخلاق ثانية!، لتصنع نجاحا مزيفا يكبر تدريجيا. مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد انحصار وسائل الإعلام التقليدية المكتوبة على وجه الخصوص، أطبق التافهون سيطرتهم على الفضاء الافتراضي وباتوا يتسيدون المشهد، فألفت "بائعة الهوى" المكان الرحب لشرح حيثيات المهنة، والقول الفصل في كيفية جذب الزبناء، ووجد " الشاذ" جمهورا يخطب فيه ويدعو أفراده للالتحاق بالركب، واحتشد المهرجون، وبائعو العشوب، وممتهنو الدجل، وأصحاب الرقية الشرعية، و"كوتش" التنمية البشرية وكل ما لا يخطر على بال. اختلط الحابل بالنابل في جو من الرداءة، وتردي الذوق، وساد الانحطاط الأخلاقي... ومع بروز ما يعرف "بالأدسنس" المقابل المادي لعدد المشاهدات والإعجابات نكاد نكون قد فقدنا البوصلة، لا بل أضعنا طريق العودة تماما. محسن نموس (روائي ورجل تعليم) استقاهما: حميد الأبيض (فاس)

رقم معاملات بالملايير عمالقة

"النت" يوظفون تافهين لإنعاش مداخيل ضخمة من الإشهار

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

لقجع يخلص المدربين من قانون الودادية

وسيلة للاغتناء السريع

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات