رائد التمثيل الإذاعي والمسرحي الذي جاور كبار السينما ينتمي الفنان والممثل الراحل العربي الدغمي، إلى جيل الرواد المؤسس للحركة الفنية في مجال التمثيل المغربي على أكثر من واجهة. اسم نشأ في مناخ وطني زاوج بين التمثيل والمقاومة ضد المستعمر، قبل أن يواصل مساره موزعا بين المسرح والتمثيل الإذاعي والسينما التي كان فيها من أول الأسماء المغربية التي طرقت العالمية. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الاسم الاستثنائي. إعداد: عزيز المجدوب ولد الراحل العربي الدغمي سنة 1931 بالرباط، ضمن عائلة رباطية عريقة قدمت إلى العاصمة من منطقة بوزنيقة، وشكلت جزءا من العائلات العريقة التي شكلت النسيج الحضري للرباط. درج العربي الدغمي وسط أزقة المدينة العتيقة للرباط، وتلقى تعليمه بالكتاب القرآني على يد عدد من الفقهاء منهم الفقيه محمد بن محمد الجيلالي الأزرق، الذي زرع في الفتى الصغير قيم الوطنية مبكرا، خاصة أن الأجواء العامة كانت مطبوعة بمقاومة الاستعمار ورفض وجوده. كتب عنه نجله عبد الحق الدغمي، ضمن كتاب "العربي الدغمي.. إبداع مغربي أصيل" أن فترة دراسة والده كانت بمثابة الفترة الذهبية في حياته، إذ بدأت تبرز المعالم الأولى في شخصيته الكوميدية، من خلال النكت وتقليد أساتذته ومعلميه، خاصة خلال فترة الاستراحة، حين كان التلاميذ ينصرفون إلى اللعب والمرح، إذ كانوا يلتفون حول زميلهم العربي وهو يقلد بسخرية وإتقان شخصيات معروفة لديهم، مضفيا بذلك جوا من المرح والبهجة. بعد انتقاله إلى التعليم العصري بالمدرسة المحمدية، زاوج العربي الدغمي بين الاجتهاد وروح النكتة والدعابة، ما أكسبه مكانة خاصة في أوساط أساتذته وزملائه التلاميذ، وفي الوقت نفسه، اضطلع الفتى مبكرا بمهام أكبر من عمره في تحمل أعباء الأسرة إلى جانب والده. التحق الدغمي بمدارس محمد الخامس بالرباط، فصار يتولى مهمتين الأولى متابعة الدروس في سلك الثانوي، والثانية القيام بدور معلم مساعد بمدرسة سيدي محمد القجيري بالسويقة بالرباط، حتى يتمكن من تحصيل مدخول مالي إضافي يساعد به والده على تحمل أعباء الأسرة. المخيمات... مدرسة للوطنية انخرط الدغمي تلميذا ومعلما في التنظيمات الوطنية وازداد شغفه بالجولات والرحلات والمخيمات الصيفية، واتخذ رفقة مجموعة من أصدقائه من هذه الأنشطة واجهة للمقاومة الرمزية للمستعمر الذي كان يسعى إلى الحيلولة دون استفادة المغاربة من مثل هاته الأنشطة. ويقول نجل الدغمي، ضمن الكتاب نفسه، إن مخيمات الأطلس المتوسط شاهدة على إسهامات والده في هذا المجال ضمن مخيم المدرسة المحمدية والمدرسة المعطوية ومدارس محمد الخامس بقيادة مجموعة من الوطنيين أمثال عثمان جوريو والمحجوب المدور ومولاي هاشم العلوي، وأسماء أخرى كان لها حضور بارز في المجال التربوي مثل محمد الحيحي وعبد الحميد بناني والهاشمي بناني وحسن الصباحي وعبد الصمد الأزرق وعبد الرحيم قريون وغيرهم. وعن طريق أنشطة المخيمات كان أول لقاء للعربي الدغمي بالملك الراحل محمد الخامس، حين زار مرفوقا بنجليه الحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله، سنة 1952 مخيما للشبيبة بمنطقة رأس الماء حيث حضروا أمسية تربوية نظمها أبناء وأطر المخيم. تكوين مسرحي ضمن الكتاب نفسه شهادة مطولة للراحل العربي الدغمي يستعرض فيها جوانب من محطات مساره الفني الذي قال إن إرهاصاته الأولى انطلقت ابتداء من 1948 هاويا للمسرح وهو يزاول مهنة التعليم بالمدرسة المحمدية بالرباط حيث قضى خمس سنوات معلما للغة العربية في قسم الشهادة الابتدائية. دشن الدغمي نشاطه المسرحي مع فرقة المسرح المغربي برئاسة الراحل عبد الكريم الفلوس، وفي 1952 التحق بمعهد الأبحاث المسرحية بالرباط، الذي كان آنذاك تابعا للشبيبة والرياضة، وتحت إشراف مؤطرين فرنسيين ومغاربة، مثل أندري فوازان وشارل نوك وبيير ريشي وعبد الصمد الكنفاوي والطاهر واعزيز وعبد الله شقرون. وفي السنة الموالية تشكلت فرقة المسرح الوطني المغربي، تحت إشراف المؤطرين أنفسهم، فكان العربي الدغمي من بين الأسماء التي اشتغلت بها إلى جانب كل من الممثلة خديجة جمال وأحمد الطيب لعلج ومحمد عفيفي والطيب الصديقي ومحمد الخمسي وعبد الفتاح الركراكي ومولاي الأمين بنزيدان ومصطفى أمال ومحمد برادة وغيرهم. ومن بين الأعمال التي قدمتها فرقة المسرح الوطني المغربي، هناك مسرحية "عمايل جحا" المقتبسة من مسرحية "حيل سكابان" لموليير، ومسرحية "حلاق إشبيلية" لبومارشي وقدم فيها العربي الدغمي دور العربي برطال، كما قدم دور "بولونيوس" ضمن مسرحية "هاملت" لشكسبير، إضافة إلى تجسيده دور البطولة في مسرحية "عمي الزلط"، التي ألفها أندري فوازان وترجمها عبد الصمد الكنفاوي. فرقة الإذاعة التحق العربي الدغمي سنة 1954 بفرقة الإذاعة المغربية، بطلب من الراحل عبد الله شقرون، وكانت تضم حينهما أسماء من قبيل أمينة رشيد وحبيبة المذكوري وعبد الرزاق حكم وإبراهيم السوسي ومصطفى أمل ومحمد حماد الأزرق وحمادي عمور وحميدو بنمسعود وحمادي التونسي ومحمد الغربي وغيرهم. وكان نشاط الفرقة الإذاعي يتمثل في تقديم رواية تاريخية أو أدبية باللغة العربية الفصحى لمؤلفين عالميين أو عرب أو مغاربة، مثل عبد الله شقرون وآخرين، كل يوم أحد، إضافة إلى عرض روائي آخر كل خميس من الأسبوع بالدارجة، حول مواضيع اجتماعية ساخرة أو درامية. وفي منتصف الخمسينات سيلتحق العربي الدغمي بالعاصمة الفرنسية باريس رفقة صديقيه حميدو بنمسعود ومحمد الحاكمي، لتلقي دروس بمعهد الميم (الإيماء)، وخلال الفترة نفسها تلقى برقية للعودة إلى المغرب من أجل المشاركة في شريط سينمائي بالسكوب والألوان بعنوان "طبيب بالعافية" المقتبس عن مسرحية "طبيب على الرغم منه" لموليير عبارة عن إنتاج مغربي فرنسي مشترك بين استوديو السويسي بالرباط واستوديوهات باريس بفرنسا. وشارك الدغمي في شريط "طبيب بالعافية" إلى جانب أسماء من دول مختلفة، منهم المصريون كمال الشناوي وأمير أمير ومحمد التابعي، والتونسي محمد الجاموسي وليلى الجزائرية، ثم البشير لعلج والطيب الصديقي ومحمد سعيد عفيفي وغيرهم. وقضى الدغمي السنوات الأولى من الاستقلال أستاذا لفن الإلقاء بمدرسة التمثيل التابعة لمعهد الأبحاث المسرحية بالشبيبة والرياضة تحت إشراف مدير مغربي، وفي 1958 شارك في مسرحية "ثمن الحرية" لمؤلفها إيمانويل روبليس وإخراج أبراهام بوطبول جسد فيها دور "القس" وقادته إلى جولات عديدة بالمغرب وأوربا. وطيلة مرحلة الستينات تربع العربي الدغمي على عرش التمثيل الإذاعي والمسرحي، مع أدوار سينمائية تتخلل نشاطه الفني، مثل مشاركته في الشريط العالمي "عندما يثمر النخيل"، وهو إنجاز مشترك بين إيطاليا والمركز السينمائي المغربي، وإخراج ثلاثي لعزيز الرمضاني والعربي والإيطالي دوبيك. كما شارك العربي الدغمي خلال النصف الأول من السبعينات رفقة المطرب عبد الهادي بلخياط ضمن شريط "الصمت اتجاه ممنوع" للمخرج عبد الله المصباحي. طريق العالمية ابتداء من 1975 سيطرق العربي الدغمي باب السينما العالمية بعد أن اختاره المخرج العالمي جون هيستون لتجسيد دور "أوتا" الملك الأفغاني، إلى جانب أسماء كبيرة من قبيل شين كونوري ومايكل كين وكريستوفر بلومر. ومهدت هذه المشاركة للدغمي الطريق لاستدعائه لأعمال عالمية أخرى، السنة الموالية، منها شريط "نبي الله عيسى" للمخرج الإيطالي زيفيرلي، كما شارك في فيلم "شمس الضباع" للمخرج التونسي رضى باهي، وهو الشريط الذي جرى تصويره، نهاية السبعينات، بأكادير، وهو إنتاج مشترك تونسي مغربي. كما شارك العربي الدغمي في أفلام سينمائية مغربية منها "عرس الدم" للمخرج سهيل بنبركة، وجسد دورا آخر خلال الفترة نفسها ضمن المسلسل العربي "ابن المهلب" من إخراج عدنان الرمحي، بالإمارات العربية المتحدة، إلى جانب الممثل المغربي محمد حسن الجندي وممثلين من الأردن وسوريا والإمارات العربية. ووقع الدغمي على حضور مميز ضمن الشريط العالمي "الفرس الأسود" (إيطالون نوار) لفرانسيسكو كوبولا، ضمن جزءيه اللذين صورا بإيطاليا ثم جنوب المغرب، إذ شارك في الجزء الثاني إلى جانب الممثل الأمريكي آلان كوريتز. وخلال الفترة نفسها كان للدغمي أيضا حضور في السينما المغربية من خلال مشاركته في فيلم "إبراهيم ياش" للمخرج نبيل لحلو وفيلم "بامو" للمخرج إدريس المريني، كما انتقل نهاية 1984 إلى نيويورك في رحلة استغرقت ثلاثة أشهر ونصف للتسجيل الإذاعي لمجلدات "ألف ليلة وليلة"، كما تلقى دعوة من المخرج كاري نيلسون في شريط "كاتيرمان" رفقة الممثلة العالمية شارون ستون وريتشارد شامبرلان وتم تصوير الشريط بزيمبابوي. وحضر الدغمي نهاية الثمانينات في الشريط التاريخي "عبد الرحمن الداخل" وهو من إنتاج وإخراج الإسباني باولينو كونزاليس، إضافة إلى مشاركات في أفلام ألمانية وفرنسية، وكانت آخر مشاركة كبرى له ضمن شريط "معركة الملوك الثلاثة" وهو إنتاج مشترك مغربي إيطالي. عانى العربي الدغمي في أواخر حياته، وابتداء من مطلع التسعينات، أمراضا عديدة، قاومها باستبسال وظل محافظا على حضوره الفني المتميز في مجموعة من الأعمال خلال هذه الفترة، إلى أن توفي يوم 28 أكتوبر 1994.