مشروع ميزانية 2024… اللاءات الثلاث

الحكومة لم تقدم إشارات لتجاوز آثار الجائحة والتغيرات المناخية وضعف الموسم الفلاحي بقلم: يوسف بونوال * يصعب القيام بتحليل لموضوع مهم مثل مشروع قانون المالية 2024 الذي أثار كثيرا من النقاش والنقاش المضاد، دون الوقوع في الإسقاطات الشخصية، أو الذاتية المرتبطة بالانتماء الحزبي أو بالتموقع الإيديولوجي. سأحاول جاهدا أن أتكلم هنا بلغة التقني الخبير في الاقتصاد التطبيقي الذي يعتمد على الملاحظة وتحليل المعطيات والأرقام بمنهجية علمية ومحاسباتية لمعرفة مدى أجرأتها وتنزيلها والآثار الاقتصادية والاجتماعية على المغاربة في معيشهم اليومي من مأكل ومشرب ومسكن وتطبيب وتعليم. أهداف تهم الشريحة الكبرى من المغاربة في بلد صنف في الرتبة 123 عالميا في مؤشر التنمية البشرية لسنة 2022/2021 الصادر عن الأمم المتحدة من أصل 191 دولة. حسب ديباجة التوجهات العامة لمشروع قانون المالية 2024، تم التركيز على محاور أربعة أساسية. أولا، تنزيل برنامج إعادة البناء والتأهيل العام للمناطق التي تضررت من جراء زلزال الحوز، خصوصا على مستوى الآثار الاجتماعية والاقتصادية للسكان المنكوبين. ثانيا، تنزيل الورش الملكي للحماية الاجتماعية، ثم إصلاح منظومة العدالة لتعزيز دولة الحق والقانون، وأخيرا، الالتزام الهيكلي المرتبط بضمان التوازنات الماكرواقتصادية عبر توازن المالية العمومية. أهداف نبيلة في نواياها والتزام قوي يستلزم توفير مالية قوية ومهمة دون اللجوء إلى مزيد من التضريب، أو الزيادة في الضغط الجبائي الذي يثقل مالية الأسر المثقلة أصلا بسبب ارتفاع التضخم والأسعار، ودون اللجوء إلى الاقتراض الذي يرهن الأجيال القادمة من خلال تخصيص نسبة مهمة من الميزانية لأداء فوائد وعمولات الدين. عدم الارتياح قراءتي لمشروع قانون المالية 2024 تجعلني أشعر بغير الارتياح، خصوصا أن الفرضيات التي بُني عليها قد تكون غير صحيحة وخاطئة بلغة الاقتصاديين. السبب وجود تصور بفرضيات متفائلة جدا لا تعكس الواقع الحقيقي للاقتصاد المغربي، ونحن مازلنا ندبر آثار ما بعد جائحة كوفيد. ويرتكز مشروع قانون المالية 2024 على مجموعة من الفرضيات تحدد نسبة النمو في 3.7 في المائة وعجز الميزانية في حدود 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام وموسم فلاحي بـإنتاج 75 مليون قنطار ومعدل تضخم في 2.5 في المائة. توقعات صعبة توقعات صعبة المنال لأسباب متعددة. على سبيل المثال التدابير المقترحة في موضوع الزيادة في الضريبة على القيمة المضافة لبعض المنتوجات والخدمات، التي لا يمكن أن ترقى إلى رتبة "الإصلاح الضريبي"، سيكون لها انعكاس مباشر على القدرة الشرائية، أي ارتفاع نسبة التضخم مما سيحد من الاستهلاك الضروري لتحقيق النمو الاقتصادي من خلال تشجيع الإنتاج. كما أن التركيبة الأساسية للميزانية تعتمد على المداخيل الضريبية وعلى الاقتراض والموجهة أساسا لمصاريف التسيير. عوامل غير محفزة لضمان إقلاع اقتصادي متين، واستدامة للمالية العمومية اللازمة لتنزيل مختلف الأوراش والإصلاحات. وصيغ مشروع قانون المالية 2024 بأرقام طموحة. وحسب تصريح الحكومة فهذا المشروع "خيار سياسي كبير في تاريخ هذه الأمة لأنه يطبق حرفيا توجيهات الملك في وضع الأسرة في محور كل السياسات العمومية". بحس تسوده المواطنة والمصلحة العامة والرغبة في جعل المغرب يحقق ثورة اجتماعية، لكن ذلك لا يخفي تخوفا من مدى تجسيدها على أرض الواقع، ما يجعلني أرفع شعار اللاءات الثلاث التالية: لا لبرنامج دون ضمانات تتميز البرامج ذات الحمولة الاجتماعية بضرورة تنزيلها بشكل هيكلي لا يخضع للظرفية الآنية، ما يحتم توفير شروط وآليات تمويلية بشكل مستديم على المديين المتوسط والبعيد. إن ميزانية عمومية ترتكز أساسا على الضريبة، قد تثقل القدرة الاستهلاكية للأسر، وتفرمل القوة الإنتاجية للمقاولات، ما يؤثر سلبا على الاستثمار وعلى توفير فرص الشغل. من خلال معطيات المشروع، فقد قدرت تحملات الدولة بـ638 مليار درهم، بزيادة بلغت 6,30 في المائة مقارنة مع 2023. وتتوزع هذه التحملات المتوقعة بين 436 مليار درهم للميزانية العامة و138 مليار درهم للحسابات الخصوصية للخزينة و2 مليار درهم لمرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة، في حين بلغت تكلفة استهلاك الدين العمومي 62 مليار درهم. في ما يخص الموارد المتوقعة، فمشروع قانون المالية حدد هذه المداخيل بنحو 576 مليار درهم مقابل 536 مليار درهم في 2023، مع ارتفاع بلغ 7,11 في المائة. وارتفاع الإيرادات مقارنة مع النفقات 2023 و2024، يعكس تفاقما في عجز الميزانية الذي بلغ 4 في المائة، وهذا مؤشر سلبي في قراءة الميزانية لأن العجز يشكل عائقا للاستثمار، مما يضعف من نسبة النمو، خصوصا توفير فرص الشغل عبر الاستثمار العمومي. وتم تخصيص مبلغ 120 مليار درهم على مدى 5 سنوات لبرنامج إعادة تأهيل المناطق المنكوبة لزلزال الحوز. ولتنزيل الورش الملكي للحماية الاجتماعية، فقد رصد غلاف مالي في حدود 25 مليار درهم. كما أن قطاع التعليم، ارتفعت ميزانيته بنسبة 9.4 في المائة مقارنة مع 2023 ليصل إلى 75.5 مليار درهم. ويستفيد قطاع الصحة والحماية الاجتماعية من دعم إضافي يبلغ 2.6 مليار درهم، لتبلغ الميزانية الإجمالية المخصصة للقطاع في إطار مشروع قانون المالية الجديد، ما يناهز 31 مليار درهم. وتتشكل ميزانية الدولة أساسا من المداخيل الضريبية، خصوصا الضرائب غير المباشرة التي تحتل الرتبة الأولى في موارد ميزانية الدولة، إذ قدرت بـ128 مليار درهم، أي بنسبة 41 في المائة. ومعلوم أن الضرائب غير المباشرة لا تخضع لمنطق "المساهمة حسب الاستطاعة"، المنصوص عليه في الفصل 40 من دستور 2011، ما يجعلها سببا في خلق حيف ضريبي وغير منصف للفئة الاجتماعية ذات الدخل الضعيف والمتوسط. ورفع مشروع قانون المالية شعار الدولة الاجتماعية، مع اتخاذ تدابير جبائية شعارها الحد التدريجي من دعم المواد الاستهلاكية المكلفة لصندوق المقاصة، من خلال رفع الضريبة على القيمة المضافة لبعض المواد الأساسية، كالماء والتطهير السائل والسكر ونقل المسافرين والبضائع. ويحتاج السلم الاجتماعي إلى دعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة عبر آليات تمويلية على المديين المتوسط والبعيد، وهذا الشرط يغيب تماما في مشروع قانون المالية. لا نجد إشارة واحدة إلى توفير مداخيل قارة ومستديمة، من قبل القطاعات الاقتصادية الحيوية، التي تعرف مردودية مهمة، كالمؤسسات المالية، من بنوك وشركات للتأمين وشركات الاتصالات والمحروقات في إطار ما يسمى التضامن المنصوص عليه دستوريا، إذ يجب على الجميع أن يتحمل بشكل تضامني، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، تكاليف تنمية البلاد. وتبقى الآليات التمويلية ذات الطابع المستديم للبرنامج الاجتماعي للحكومة غائبة في المشروع. لا لضرب القدرة الشرائية رفع إصلاح المقاصة شعارا منذ مجيء حكومة 2011، تماشيا مع التوجيه السليم والصحيح والعادل للدعم، غير أن الملاحظ أن الحكومة لجأت الى الحلول السهلة. على سبيل المثال، رفع الدعم عن غاز البوتان "البوطا" لكي تصل تدريجيا إلى ثمنها الحقيقي 140 درهما، وهذا، حسب التصريح غير الواضح للحكومة، قد يشكل تطبيعا تدريجيا مع سحق الطبقات الاجتماعية الهشة والفقيرة، وحتى تلك ذات الدخل المتوسط. قد يقول قائل إن الحكومة ستعمل على فلسفة الدعم المباشر، لكن نقول إن الدعم المباشر للأسر المستهدفة، هو برنامج ملكي هدفه الأسمى تقليص الفوارق الاجتماعية، تجسيدا لمفهوم حق المواطنة ومبدأ الدولة الاجتماعية. نبل هذا الهدف يجعل التنزيل خارج الحسابات السياسية لأي حكومة، مع شريطة توفير كل شروط النجاح، لأن فشل التنزيل وإخفاقه ولو جزئيا ستكون له انعكاسات قوية في معدل الثقة. للأسف، الحكومة لم تعط إشارات مطمئنة في هذا السياق حتى نضمن الانخراط الكلي، خصوصا أن من مصادر تمويل هذا الدعم المساهمات التضامنية على الأرباح والمداخيل الخاصة بالمقاولات. السؤال الذي يفرض نفسه، ماذا عملنا لهذه المقاولة حتى نضمن استدامة مردوديتها وبقائها؟ فأبجديات تطبيق أي سياسة عمومية يسبقها نقاش عمومي مع تقديم دراسات علمية للآثار المالية والاجتماعية والاقتصادية، الهدف منها معرفة هل هناك تكلفة اجتماعية وهل هناك قابلية للتعايش مع هذه الآثار. والكل يجمع على أن الزيادات في الضريبة على القيمة المضافة سيكون لها أثر آني ومباشر على المستهلك في غياب ارتفاع المدخول وانخفاض الأثمان، خصوصا أن مؤشرات التضخم تتجه نحو الضغط على القدرة الشرائية للمواطن. وتتجه الحكومة إلى الزيادة في التكلفة الضريبية على بعض المنتجات التي تدخل في الاستهلاك اليومي لجل المغاربة كالشاي الأخضر عبر إقرار زيادة في الرسوم الجمركية للاستيراد والزيادة في مقدار الضريبة الداخلية على الاستهلاك. ولن تسلم خدمات الماء والكهرباء والتطهير السائل من هذه الزيادات، حتى أصبحنا نشك في نوايا الحكومة التي لجأت إلى "الحيط القصير" وهو المواطن الذي سيكون مضطرا إلى تحمل زيادات في ثمن المنتوجات الأساسية. لا للزيادة في الضرائب يضعف الاعتماد بشكل قوي على المداخيل الضريبية المناعة المالية العمومية، إذ أنه كلما كانت نسبة النمو ضعيفة والقدرة الشرائية منهكة بضغط التضخم كلما كانت نسبة الاستهلاك متدنية. النتيجة الحتمية هي فرملة الإنتاج، ما يضعف من المحاصيل الضريبية. كما أن الزيادة في الضريبة بشكل غير عادل قد يؤدي إلى بروز ردود فعل على مستوى الاستهلاك والادخار تؤثر بشكل سلبي على معدلات النمو. عنوان مشروع قانون المالية 2024 هو "الإصلاح الضريبي"، خصوصا على مستوى الضريبة على القيمة المضافة، غير أن الملاحظ هو أننا لا يمكن لنا أن نتحدث عن إصلاح بمعنى الكلمة. الإصلاح بمفهومه الشامل يستلزم وضع استراتيجية شمولية للسياسة الجبائية مع توضيح الأهداف العامة والخاصة على المديين المتوسط والبعيد وتحديد كيفية تجاوز تحديات التنزيل وقياس هامش الخطأ مع تبريره. التدابير الضريبية الجديدة المزمع تطبيقها خلال الثلاث سنوات المقبلة لا تخضع الى هذه المنهجية. نتحدث إذن، عن تدابير وإجراءات ضريبية في حيز ضيق ومع فئة اجتماعية محددة بعينها لا تصل إلى رتبة الإصلاح الضريبي الشامل. كثرة الضريبة تقتل الضريبة للأسف هذا المبدأ قد ينطبق على هذا القانون، إذ وضعت الحكومة مجموعة من التدابير الجديدة في كيفية استخلاص الضريبة على القيمة المضافة من المنبع ما سيثير جدلا واسعا وسط الفاعلين الاقتصاديين ويزيد من مساحة التخوف. نحن مع كل سياسة جبائية تحد من التهرب الضريبي ومن الغش الضريبي، لكن ليس على حساب الفاعل الاقتصادي المنتج للثروة. على الحكومة أن تبدع وأن تبتكر آليات للمراقبة القبلية والبعدية دون ممارسة ضغوط على المقاولات، ما يجعل الكثير منها، يلجأ الى القطاع غير المهيكل. وهذا في حد ذاته يعتبر ردة في تنمية الاقتصاد عبر الإدماج التدريجي للقطاع غير المهيكل في القطاع المنتج والخاضع للضريبة. إشارات منعدمة مازال الاقتصاد المغربي يعيش آثار الجائحة، وتلك المرتبطة بالموسم الفلاحي المتواضع، إضافة الى الارتفاع المهول لأسعار المواد الأولية الضرورية للإنتاج، غير أن الحكومة لم تعط إشارات إيجابية ومطمئنة للتجار والصناع والحرفيين والمقاولات بإقرار تحفيزات وتشجيعات ضريبية وغيرها للحد من الأزمة وللاستعداد لتجاوزها. لقد بلغ عدد المقاولات التي أعلنت إفلاسها أكثر من 12000 وهذا رقم مخيف لم يحرك الحكومة بكل كفاءاتها. * دكتور في الاقتصاد التطبيقي عضو المجلس الوطني لحزب الحركة الشعبية

مشروع ميزانية 2024… اللاءات الثلاث

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

هروب جماعي من "المقاول الذاتي"

تحت الدف

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات