الساعات الأخيرة في حياة العظماء

في كتابه «الساعات الأخيرة» للأديب المصري الراحل طاهر الطناحي يستعيد مجموعة من سير العظاء ، حيث يروي الساعات الأخيرة في حياتهم ، فالموت جانب من الحياة الدنيا والحياة جديرة بأن تعرف بخيرها وشرها، بنورها وظلامها، بهنائها وآلامها .. والخير والشر نسبيان، كما أن نور الحياة وظلامها في الحقيقة متشابهان. عبر هذه الحلقات تنتقي «الصباح» بعضا من سير هؤلاء العظماء كما حكاها الطناحي منذ أزيد من ستين سنة لحظة صدور الكتاب في طبعته الأولى. عزيز المجدوب الحلقة 4 بتهوفن... القداس الحزين قبل وفاته هبت عاصفة ثلجية وكأنما أرادت الطبيعة أن تودع رجلها العظيم اشتدت العلة بالموسيقار الألماني لودفيغ فان بتهوفن (1770 ـ 1827)، واجتمعت عليه آلام الداء الذي احتل رئته، وأصابه بضعف شديد، وآلامه النفسية التي كان يعانيها من سيرة ابن أخيه شارل، السكير السيء الخلق الذي مات والده، وتركه لبتهوفن يعوله ويصلح فيه ما أفسده الدهر. وكان بتهوفن يضطر في كثير من الأحيان للذهاب بنفسه لينتزعه من إحدى الحانات في الأحياء الحقيرة، فيهب الشاب في وجه عمه صائحا "فلتذهب إلى الجحيم أيها الأصم العجوز، إنك قذر دميم بخيل، وأنا أخجل أن أراك أو أسير معك". وكان بتهوفن الذي لا تصله هذه الشتائم إلى سمعه لفقده إياه مذ كان في السادسة والعشرين يبتسم في وجه للشاب في عطف وحنان. وذات يوم حاول شارل الانتحار، فكان ألم عمه عظيما، وقال والدموع تترقرق في عينيه "إنني كنت أعتبره كابني تماما، أما وقد حاول أن يقتل نفسه، فهذا يعني أنه لا يحبني". في بداية ربيع 1815 أصبح صمم الموسيقار تاما، وبذلك دفن بدنه عن الناس دون فنه في قبر من السكون والعزلة، وأصبح ينظر في فزع إلى هذا الكون العجيب الذي يفتح فيه الناس أفواههم دون أن يسمع منهم شيئا، وصار هزيم الرعد لا ينفذ إلى أذنيه. ووقعت الطامة الكبرى حينما أراد بتهوفن، رغم صممه، أن يقود الأوركسترا بنفسه عند عرض "أوبرا فيدليو"، فقد عرف الجمهور منذ بداية الفصل الأول للأوبرا أن مؤلفها لا يسمع شيئا، فأصبحت الأوركسترا التي تتبع عصاه في واد والمغنون على المسرح في واد آخر، وبدا واضحا أن الأمر لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال، ومع هذا لم يجرؤ أحد على أن ينبه المؤلف العظيم إلى ذلك. وأخذ بتهوفن يلتفت يمينا ويسارا عسى أن يفهم من تعبير الوجوه المحيطة به ما يبعث الطمأنينة إلى قلبه، غير أنه وجد الصمت التام يلف المسرح بكامله، ونادى بتهوفن على صديقه المخلص شندلر ومد له قلمه ومفكرته وأشار له أن يكتب. وخطت يد شندلر وهي ترتجف هذه الكلمات "أتوسل إليك ألا تستمر في القيادة.. سأوضح لك السبب في المنزل". فقال الفنان وهو يئن من الألم "إذن هذه هي المسألة.. لقد فهمت"، وبقفزة واحدة أصبح بتهوفن خارج المسرح، وحينما لحق به شندلر في غرفته وجده ملقى على سريره يضرب أذنيه بقبضتي يديه. وكتب شندلر في مذكراته يقول "لم ينطق بتهوفن بكلمة واحدة طيلة تناولنا وجبة العشاء.. إن هذا الحادث المؤلم قد أصاب قلبه بضربة أثرت فيه تأثيرا جارحا حتى آخر رمق في حياته". واختفى بتهوفن بعد ذلك فترة طويلة، ولم يعد أصدقاؤه يسمعون عنه شيئا، وقليلون هم الذين كانوا يعرفون أنه كان يؤلف وقتئذ أعظم عملين موسيقيين في التاريخ وهما "السمفونية التاسعة" و"القداس الحزين". في مطلع يناير 1827 أوصى بتهوفن بكل ما يملك لابن أخيه، بعد أن اشتدت عليه آلام الرئة. كان الفنان في حالة شديدة من الضعف، غير أن جسمه القوي كان في صراع شديد مع الموت. وفي العشرين من مارس تمتم بتهوفن قائلا لصديقه هيلر عازف البيانو "قريبا جدا سوف أقوم بقفزتي يا هيلر". لم تمض سوى ثلاثة أيام، حتى رأى الدكتور فافروخ أن من واجبه أن يخطر المريض أن ساعته الأخيرة دنت، فتلقى الفنان الخبر وكأنه سيزيح عنه الآلام جميعا، فالتفت بتهوفن إلى أصدقائه وقال عبارته الأخيرة "الآن صفقوا أيها السادة، فقد انتهت المهزلة". وفي السادس والعشرين من ماي بدأ الاحتضار الرهيب، وفي الخامسة مساء هبت على المدينة عاصفة ثلجية عنيفة، وكأنما أرادت الطبيعة أن تودع رجلها العظيم الذي غنى ألحانها في رجولة وقوة.

الساعات الأخيرة في حياة العظماء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تراث مغربي في دفاتر "إيسيسكو"

شحتان يكشف أوراشا لتقوية المؤسسات الإعلامية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات