معالم الجدية في الحياة القضائية

دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية في التنزيل الجدي لإصلاح القضاء (2/2) عرف الخطاب الملكي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس لشعبه، بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتولى جلالته عرش أسلافه الميامين، بعث رسائل قوية وصريحة تبرز أهمية مفهوم الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية. وإن كان الخطاب الملكي قد جعل من مفهوم الجدية أساسا لتوجيهاته السامية ورسالة لمختلف مسؤولي مؤسسات الدولة قصد التحلي بالصرامة والإخلاص في أداء المهام والصدق تجاه الوطن، فإن هذا المفهوم المذكور يبقى مفهوما كاشفا للتوجهات والممارسات الجدية التي ما فتئ جلالته يبادر إليها في كل خطبه السامية وتوجيهاته وتعليماته لمسؤولي مؤسسات الدولة سواء المعينين منهم أو المنتخبين، مراعاة لمصلحة الوطن والمواطنين. يعتبر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، حسب ما نص عليه دستور 2011، هو المؤسسة الدستورية التي خولها المشرع تدبير شؤون القضاة والسهر على توفير الضمانات الممنوحة لهــم، في إطار القانون تكريسا منه لمبدأ استقلال القضاء ولتحقيق عدالة فعالة ونزيهة. وتبرز أهمية المجلس الأعلى للسلطة القضائية، من خلال توسيع تشكيلته ليتكون من عشرين عضوا، عشرة منهم منتخبون يمثلون محاكم أول درجة ومحاكم الاستئناف، مع مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي التي أتاحت انتخاب 3 قاضيات لعضوية المجلس، بالإضافة إلى الانفتاح على شخصيات غير قضائية، كرئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان، والوسيط، وخمس شخصيات مستقلة يعينها الملك، كما تم تعزيز الاختصاصات المخولة للمجلس والمتمثلة في البت في الوضعية الفردية للقضاة، كتعيينهم وتعيين المسؤولين القضائيين و البت في الترقيات والانتقالات والانتدابات والبت في المتابعات التأديبية، فضلا عن إعداد التقارير بخصوص وضعية القضاء ومنظومة العدالة، وإصدار التوصيات الملائمة بشأنها. وقد عرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، خلال مرحلته التأسيسية (2011-2021)، مجموعة من التوجهات والممارسات التي تكرس الجدية المطلوبة في تنزيل الاصلاح وتخليق المشهد القضائي. ومن أهم المنجزات في حصيلة المجلس خلال ولايته الأولى، العمل على إخضاع التعيين في مناصب المسؤولية القضائية لمنطق التباري تكريسا للشفافية والجدية وتجديد النخب القضائية، في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة في شقها المتعلق بإعمال تقارير تقييم أداء المحاكم والقضاة. كما عمل المجلس على تكريس الجدية، من خلال نشر نتائجه المتعلقة بالتعيينات والانتقالات في إطار تحقيق الشفافية، وتوفير الحق في الوصول للمعلومة لمتتبعي الشأن القضائي، بالإضافة إلى إصدار المجلس لتقريره السنوي ونشره بالجريدة الرسمية، قصد تمكين المهتمين من تتبع أداء عمل المؤسسة والاطلاع على حصيلة عملها والإكراهات التي تواجهها. كما توجت الولاية الأولى للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بصدور مدونة الأخلاقيات القضائية، كترجمة مثلى عن رغبة المجلس في تخليق المشهد القضائي بمبادرة من المؤسسة الدستورية العليا المشرفة على القضاء ببلادنا، وقد أوضح الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ذلك من خلال كلمته الافتتاحية للمدونة المذكورة والذي جاء فيها: " بفيض من مشاعر الفخر والاعتزاز نضع مدونة الأخلاقيات القضائية كثمرة مجهود وعمل دؤوب يعبر عن الانخراط الاستراتيجي الجاد للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في دينامية الإصلاح العميق والشامل، الذي يقوده جلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتمكين، باعتبار "الضمير المسؤول"، هو المحك الحقيقي لتكريس الثقة وقوام نجاح قطاع العدل برمته". كما عرف عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية انطلاق دينامية جديدة بعد تعيين جلالة الملك محمد السادس بتاريخ 22 مارس ،2021 كل من السيد محمد عبد النباوي رئيسا أول لمحكمة النقض، وبهذه الصفة رئيسا منتدبا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والسيد الحسن الداكي، وكيلا عاما للملك لدى محكمة النقض، وبهذه الصفة رئيسا للنيابة العامة. وبرزت بوادر العمل الجاد للمجلس، من خلال إصدار الميثاق الأخلاقي الخاص بانتخابات ممثلي القضاة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بين المجلس والجمعيات المهنية للقضاة بتاريخ 4 غشت 2021 حرصا على سمعة القضاء وكرامته، ولإضفاء طابع الشفافية والنزاهة والحياد والتجرد والمساواة على العملية الانتخابية. كما تجلت الخطوات الجدية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في ضمان تخليق العملية الانتخابية، عبر وضع منصة إلكترونية مغلقة خاصة بانتخابات القاضيات والقضاة بالموقع الإلكتروني للمجلس ذات الولوج الحصـري للقضاة، ووضع منصة رقمية ووسائل سمعية بصرية رهن إشارة السادة القضاة المترشحين، قصد التعريف بأنفسهم لدى الهيأة الناخبة التي ينتمون إليها، يتم بثها عبر المنصة الإلكترونية، الخاصة بهذه الانتخابات. علاوة على برمجة آلية التناظر المرئي المباشر بطريقة شفافة تضمن المساواة والحياد بين كافة المترشحين، وضمان الحياد التام لأعضاء المجلس والمسؤولين القضائيين إزاء كافة المترشحين، وتوفير النشـر الإلكتروني لنشـرات القضاة المترشحين للتعريف بأنفسهم. وسعيا لتكريس الجدية والشفافية في عمله، قام المجلس الأعلى للسلطة القضائية بإصدار وثيقة تتضمن المخطط الإستراتيجي للمجلس، خلال الفترة ما بين 2021 ـ2026 ،وتهدف هذه الإستراتيجية إلى تحديد الدور الذي يتعين أن يقوم به المجلس في مجال مساهمة القضاء في برامج إصلاح منظومة العدالة خلال الفترة المقبلة، سواء في ما يتعلق بتدبير وضعية القضاء أو الإشراف على الشأن القضائي أو في باقي مجالات منظومة العدالة، بتبني مقاربة تشاركية مندمجة تسعى إلى تخليق القضاء، والرفع من قدرات القضاة، والزيادة من منسوب نجاعة أدائهم، وتقوية الملكات القانونية والحقوقية لديهم. وقد تم تنزيل هذه الإستراتيجية عبر عدة خطوات جدية وعملية، تتجلى في عقد دورات تكوينية لفائدة القضاة والمسؤولين القضائيين بغية الرفع من جودة التكوين والرقي بقدرات القضاة في مجالات تخصصهم وتعميق مداركهم في مجال الإدارة القضائية. فضلا عن الاهتمام الجاد للمجلس بالجانب المادي للإصلاح، من خلال إضافة درجة جديدة في السلم المهني بعد الدرجة الاستثنائية، تتجلى في الدرجة الممتازة يستفيد منها القضاة، وفق الشروط المنصوص عليها في المرسوم المنظم لها. لكن يبقى أهم محور من محاور المخطط الإستراتيجي لعمل المجلس، هو عملية التخليق من خلال مساهمة المفتشية العامة للشؤون القضائية في مساعدة المجلس على تحقيق مبادئ الحكامة وتصحيح الاختلالات الموجودة ومباشرة الأبحاث الضرورية، قصد الرقي بعمل القضاة وتحصينهم من كل المؤثرات المحيطة بهم. وفي إطار تكريس الطابع الجدي لعمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، قام المجلس المذكور بنشر المقررات التأديبية بالفضاء الإلكتروني الخاص بالقضاة، قصد إطلاع السادة القضاة على عمل المجلس في المجال التأديبي، بالإضافة الى نشر مجموعة من المقررات القضائية على مستوى موقع محكمة النقض للاطلاع عليها من لدن الجميع، تكريسا للشفافية وللحق في الوصول للمعلومة. كما عرف عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية تكريس خطوات جدية في علاقته بالجمعيات المهنية القضائية على مستوى التواصل، من خلال عقد السيد الرئيس المنتدب لعدة لقاءات مع ممثلي الجمعيات وحثهم على الانخراط في الأوراش الإصلاحية، التي يعمل المجلس على تنفيذها تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك ودعوتهم إلى المساهمة في الجهود الرامية إلى تخليق المهنة، وتأطير القضاة، والمشاركة في برامج التكوين وتقوية القدرات المهنية للقضاة، مع التركيز على المشاركة الجادة للجمعيات المهنية للقضاة في بلورة محاور إستراتيجية المجلس. وصفوة القول، أن الجدية في الحياة القضائية تجد أساسها في الرصيد المهم من الخطابات الملكية السامية، الداعية والموجهة لإصلاح القضاء، بالإضافة إلى التنزيل الجدي لهذا الإصلاح الشامل والعميق من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتبقى في الأخير معالم الجدية في الحياة القضائية منوطة بالانخراط الجدي والحقيقي للضمير المسؤول للقضاة في ورش إصلاح القضاء. *رئيس المكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة بمكناس

معالم الجدية في الحياة القضائية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أخبار الصباح

4 أطر أجنبية تلتحق بالإدارة التقنية

مقالات ذات صلة