العروسي… صوت الجبل : رقصة البارود تجسيد ميداني للقتال الحربي

تعود جمهور الأغنية الجبلية على رقصات موازية لأدائها من قبل فتيات ملتحفات لباسا مميزا أو أعضاء الفرقة، بعضها سائر إلى الزوال خاصة ما ارتبط بها من "الرقص بالصينية المملوءة بالكؤوس المفعمة بالماء أو الشاي" أو "سونة" كمسرحيات مرتجلة، أو رقصة البارود كشكل احتفالي ألف الجميع تتبعه في عدة مناسبات، دون الاهتداء إلى أمره أو تفسير حركاته وفهم طقوسه الغامضة. وكان الراحل محمد العروسي واحدا من فناني العيطة الجبلية الأوفياء ل"رقصة البارود" الشائعة بمنطقة جبالة باعتبارها "رقصة مشاة"، التي حاول القاص عبد الله البقالي الغوص في أبعاد حركاتها بعيدا عن كشف خطاب الأشعار التي تتخللها، وتبيان أوجه اختلافها عن باقي رقصات البارود لدى سكان المناطق الواقعة جنوبا كتلك لدى قبائل "الحياينة" بتيسة ك"رقصة فرسان فوق خيول". ويؤكد أن البيئة الجغرافية السائدة بكل منطقة، كانت محددا لشكل تلك الرقصة في كل واحدة منها، مؤكدا أن رقصة البارود الجبلية يؤديها مشاة لأن "الخيول لا تصلح وسيلة للتحرك لصعوبة تضاريس الجبل، عكس تلك لدى الحياينة"، متحدثا عن تموقع جيد للمقاتل واستغلال الحواجز والقدرة على مباغثة العدو كأسلوب أنسب وتقنية للقتال يجسدها أعضاء فرقة العيطة في رقصتهم الموازية للغناء.وتبدأ رقصة البارود الجبلية، حسب البقالي، بتنسيق مسبق، إذ يعمل مقدم الفرسان المشاة في تنسيق مع المشاركين على تحديد زمكان التقاء المقاتلين خارج القرية التي يتم فيها الرقص، مؤكدا أن "الجزء الذي يعتبر رئيسيا في الرقصة، ما هو إلا مجرد مرحلة لتحضير سابق وآخر لاحق، لأن الاستعداد يبدأ من قبل بتجمع الراقصين/ المقاتلين، خارج القرية لتنظيم صفوفهم قبل الانطلاق مصطفين". انطلاقتهم في اتجاه ساحة العرض، تجعلهم كقافلة عسكرية منطلقة اتجاه رقعة المعركة، إذ "في طريقهم تلك يشرع المقاتلون في إطلاق البارود مثنى" في عملية يمكن تسميتها "المناورة العسكرية"، وتهدف إلى التأكد من فعالية السلاح ورفع كفاءة المقاتل في الحرب، وكدعوة للناس لحضور الرقصة التي في طريقها إلى الزوال بعدما ارتبطت بشكل وثيق مع الغناء الجبلي وتجربة العروسي.في ساحة الاستعراض يشكل "المقاتلون" حلقة مغلقة يتوسطها المقدم أو المايسترو، ويتولى إعطاء الإشارات للمشاركين في الرقصة، كتجسيد ل"القيادة الميدانية" التي "ستشرف على إدارة العمليات العسكرية" يؤكد البقالي في تشريحه لهذه الرقصة التي تجري عبر مراحل بما فيها الإعداد النفسي الجديد للمقاتل ورفع معنوياته وضمان "إيمانه بجدوى الحرب التي سيخوضها لحد الاستشهاد". ولأجل تحقيق هذا الغاية من الاستعداد التام، يبدأ "العياع" كشكل غنائي مواز دأبت الفنانة شامة الزاز على أدائه رفقة العروسي، على شكل مواويل ومقاطع ذات مضامين ومثل نبيلة تتغنى بالأمجاد الغابرة، وتتمسك بالعزة والكرامة واسترخاص الحياة إن كانت خالية من الكبرياء والأنفة، موازاة مع تناوب المقاتلين على ترديد تلك المقاطع المتنوعة ذات المصب الواحد لرفع المعنويات والهمم.ويتنقل المايسترو إلى مرحلة متقدمة لما يشعر أن العامل المعنوي للمقاتلين بلغ مستواه المطلوب، لترتفع صيحته تشق العنان صائحا "وا هيا لولاد" إعلانا منه لحالة الاستنفار العسكرية أو التعبئة الشاملة التي تكون مقرونة بحركات ورقصات معينة والأصبع على الزناد، و"هو ينقل بخفة يديه الممسكة على السلاح من الجهة اليمنى إلى اليسرى"، بينما "عينه مركزة إلى الأمام وفيها شراسة". ويبدع البقالي في قراءته لهذه الرقصة، مؤكدا أن المايسترو في هذه الحركة "يجسد أنه وراء حاجز معين قد يكون صخرة أو خندقا أو أي شيء"، بينما "عيناه مركزة على الأمام، تشخص رصد العدو ومراقبة تحركاته بتركيز بالغ"، ما قد يفهم منه أن المقاتل "في وضع ملتصق بالأرض ومختف كليا بحيث لا يدرد العدو وجوده، بينما العدو متقدم ومتحرك" في وضع يتحقق في حرب العصابات. ولما تنطلق الإشارة يصوب المقاتلون بنادقهم ويعملون ما في وسعهم لإخراج الطلقة في الآن ذاته، وإذا "تأخر أحدهم في إطلاق طلقته، تنطلق صيحات الاحتجاج من قبل الجمهور" إعلانا عن الامتعاض، إذ "يفترض أن كل مقاتل يجب أن يفاجأ العدو ويصيب هدفه بحيث لا يترك له أي فرصة من أجل أخذ احتياطاته" و"هذا سر الإصرار على أن تلتقط المسامع كل الطلقات في الآن ذاته". وبذلك يكون كل مقاتل نجح في تسديده، إلا أن الذي تأخر في طلقته و"أفلت من يفترض أن يكون ضحيته الذي سمع طلقات الآخرين، فعمل على الاختباء" و"لم تحسم المعركة" يؤكد البقالي الذي أكد أن أشعار "رقصة البارود" تبقى أحيانا بعيدة عن "وحدة القصيدة"، رغم ما قد يلاحظ من ارتداء منشدي العيطة، نفس لباس البواردية (الجلباب والعمامة الفراء) والكشف عن الكتف اليمنى. ورغم الحفاظ على اللباس، فإن هذه الرقصة لم تعد قائمة في أغاني العيطة اختصارا لأعضاء الفرق، بعدما كان العروسي واحدا من الذين اشتهروا في بداياتهم بها في أجواء احتفالية بهيجة و"ارتباط وثيق بين البندقية والكلمة العاشقة للحرية وأهمية الفن وسموه لقيامه بإنجاز ما لا تستطيع البندقية أن تنجزه" يؤكد القاص عبد الله البقالي في قراءته لهذه الرقصة الجميلة الأقرب إلى طقوس الحرب. حميد الأبيض (فاس)

العروسي… صوت الجبل : رقصة البارود تجسيد ميداني للقتال الحربي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أسماء في الذاكرة : البصـري وذاكـرة خـادم الملك

رأي : دم أطفال غزة على أيديهم

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات