رائد مجموعة «جيل جيلالة» الذي حمل المسرح والغناء بين كفيه قبل أسبوع غادرنا الفنان مولاي الطاهر الأصبهاني، عن سن ناهز الخامسة والسبعين، وفقدت مجموعة "جيل جيلالة" ومعها المغرب واحدا من الأصوات التي طبعت تجربة المجموعات الغنائية، أداء وتأليفا وتمثيلا. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جانبا من سيرة هذا الفنان الاستثنائي الذي غنى رفقة المجموعة "الكلام المرصع فقد المذاق.. والحرف البرَّاق ضيع الحدّة". لكن الأصبهاني سيظل براقا إلى الأبد. إعداد: عزيز المجدوب استطاع مولاي الطاهر الأصبهاني، أن يفرض اسمه ضمن تجربة فنية جماعية تنبني بالأساس على فكرة ذوبان الفرد وانخراطه في جماعة إبداعية، تكتسب قوتها من تنوع أفرادها وتميزهم وقدرتهم على التفاعل فنيا مع الآخر. من هناك كانت بصمة الأصبهاني الذي طبع حضوره تجربة مجموعة "جيل جيلالة" بنبرة صوته التي لا تخطئها الأذن وهي تستعيد التراث الزاخر لهذه المجموعة الغنائية التي شكلت أحد أعمدة الظاهرة الغيوانية. وانبنت روح فلسفة مجموعة "جيل جيلالة" ومعها بقية المجموعات الغنائية التي ظهرت خلال بداية السبعينات، على إعادة الاعتبار للموروث الغنائي المغربي، وعلمت الشباب، آنذاك، كيف ينصت لأصوات المغرب العميق ويستعيد إيقاعاته وأهازيجه المزودة بجرعة ثورية ونقدية متجددة، وجعلت "المغرب هو الذي يغني فعلا" ولا شيء آخر مستوردا من الشرق أو الغرب. كان للمزاج الشخصي للأعضاء المؤسسين، أو الملتحقين، بتجربة "جيل جيلالة" دور حاسم في توجه أفرادها إلى النهل من فن الملحون، بحكم أن الملحون يعتبر أحد الأشكال الرئيسية للفنون التراثية الغنائية المغربية، مثل العيطة والغناء الأمازيغي. ففي الوقت الذي اختارت فيه بعض المجموعات الغنائية على رأسها مجموعة "تكادة" استلهام مكونات الفرجة المتضمنة في فن العيطة، وتوجه فرق أخرى إلى الفن الأمازيغي مثل "ازنزارن" و"أوسمان" و"أرشاش" وغيرهم، فضلت مجموعة "جيل جيلالة" التوجه إلى فن الملحون، الذي يعد فنا باذخا لم يخل منه أي غرض شعري إلا وتناوله. طفولة بين أسرتين ولد مولاي الطاهر الأصبهاني بالمدينة العتيقة لمراكش، وسط أسرة جعلته يعيش طفولة ميسورة مقارنة مع أترابه، وغمرت نفسه بالسعادة، بحكم الاهتمام المتزايد لرب الأسرة بالطفل "مولاي الطاهر"، قبل أن يستفيق من الحلم الجميل على حقيقة صادمة وهو في الرابعة عشرة من عمره. اكتشف مولاي الطاهر أن الأسرة التي فتح عينيه فيها، لم تكن أسرته الحقيقية، بل أقارب تولوا تربيته بعد أن أخذوه رضيعا من والديه، فكان بذلك أول شرخ نفسي، لم يستطع التغلب عليه بسهولة، وظل دفينا معه. تابع الأصبهاني دراسته بمراكش، وكانت علاقته برب الأسرة التي ربته، وطيدة جدا، ومنه تشرّب عشق الفن، إذ أن الرجل كان مثقفا ومولعا بالموسيقى وعازفا ماهرا على آلة العود، كما كان يحرص على تنظيم حفلات "النزاهة" المراكشية، التي فتحت عيني الطفل مبكرا على الأهازيج والمرددات الشعبية، خاصة فن الملحون الذي كان متداولا في أوساط شيوخ عاصمة النخيل. انقطع الأصبهاني عن الدراسة في مرحلة الثانوية، بعد أن وجد نفسه منجذبا نحو عشق المسرح، والتحق سنة 1967 بوزارة الفلاحة موظفا، دون أن يفرط في علاقته بأبي الفنون من خلال انخراطه في عدد من التجارب المسرحية مع فرق محلية منها "شبيبة الحمراء" و"المسرح الحديث" و"كوميديا" زاوج فيها بين التمثيل والغناء. الصديقي... نقطة التحول كانت نقطة التحول في مسار الأصبهاني لحظة التحاقه بتدريب وطني للمسرح في معمورة سنة 1971، حين التقى الراحل الطيب الصديقي الذي أعجب بمواهب الشاب المراكشي، فاقترح عليه أن يغادر وظيفته ويتفرغ كليا للمسرح. انتقل الأصبهاني إلى الدار البيضاء وبدأ الاشتغال مع الصديقي في مسرحية "مقامات بديع الزمان الهمذاني" إذ كان مكلفا بإعداد المقاطع الغنائية المدرجة في هذا العمل، قبل أن يقترح عليه المشاركة في النسخة التلفزيونية لمسرحية "الحراز" رغم أنه لم يشارك في عروضها السابقة فأقحمه فيها في آخر لحظة. كانت "الحراز" نقطة انطلاق الظاهرة الغيوانية، إذ أن معظم أفرادها تخرجوا من رحم مدرسة الصديقي المسرحية في عدد من الأعمال التي قدمت منذ منتصف الستينات، وفيها تبلورت فكرة الاشتغال على التراث، فتمخضت التجربة عن ميلاد مجموعتين يسكن أفرادها هذا الهاجس، وترجموه بطريقتين متباينتين هما "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" اللتان ولدتا في فترة متقاربة من سنة 1971. "آه يا جيلالة" جاءت فكرة تأسيس مجموعة "جيل جيلالة" عن طريق الفنان حميد الزوغي، الذي كان يشتغل ضمن فرقة الطيب الصديقي، كما كانت له تجارب مسرحية مستقلة، منها مسرحية "على عينك آبن عدي" التي وضع لها الأصبهاني بعض الأغاني منها أغنية "آلعار أبويا" التي ستصير في ما بعد واحدة من أشهر أغاني المجموعة. تشكلت النواة الأولى لمجموعة "جيل جيلالة" من حميد الزوغي ومولاي الطاهر الأصبهاني وسكينة الصفدي ومحمود السعدي، ثم محمد الدرهم الذي التحق بالمجموعة قادما إليها من تجربة مسرحية مع الراحل محمد عفيفي بالجديدة، كما استقدموا عبد الرحمن باكا الذي سجل معهم الألبوم الأول والذي ضم أغاني من قبيل "لكلام لمرصع" و"آه يا جيلالة" وغيرها. بعد فترة قصيرة التحق بالمجموعة الفنان مولاي عبد العزيز الطاهري قادما من مجموعة "ناس الغيوان" في الوقت الذي عوضه عبد الرحمن باكا هناك، فجلب الطاهري أغاني جديدة منحت "لجيل جيلالة" جرعة فنية إضافية مثل "ليغارة" كما سجل معهم أغاني مثل "الريفية" و"مال حالي" ورائعة "العيون عينيا" وغيرها من الأغاني المؤلفة حديثا أو المستلهمة من تراث الملحون وغيرها من الأنماط التراثية المغربية بأسلوب ميّز مجموعة "جيل جيلالة عن بقية المجموعات. ووسط ذلك الزخم الجماعي كان صوت مولاي الطاهر الأصبهاني صادحا بنبرته المميزة خاصة في المقاطع الفردية التي تسند إليه، أو من خلال انخراطه بحس جماعي ونكران للذات وسط المجموعة. تجربة دولية مع اللبناني كركلا في كتابه "لما غنى المغرب" يستحضر الزميل العربي رياض رحلة لمجموعة جيل جيلالة إلى لبنان سنة 1994 من أجل إنجاز عمل فني كبير مع الفنان عبد الحليم كركلا وفرقة الرحباني الموسيقية. ويتذكر مولاي الطاهر الأصبهاني، في مذكراته مع رياض، أن أول لقاء مع الفنان عبد الحليم كركلا كان في أواخر الثمانينات بتونس، "(...) في سنة 1994 سيتصل بنا شخص من لبنان ويخبرنا أنه يريد أن نلتحق ببيروت لتسجيل بعض الاغاني، رحلنا الى هناك، وبينما نحن في الاستوديو، سيدخل علينا عبد الحليم كركلا، كنا إذاك قد عرفنا انه مختص بـ "الكوريغرافيا" وأنه من الفنانين الكبار ببلاد الأرز، وأنه يتلقى دعما ماليا كبيرا من رفيق الحريري لإنجاز أعماله المتميزة وتعمل معه فرقة موسيقية تتشكل من عشرات العازفين. بعد واجب الترحاب أسر لنا أنه يود توظيف بعض أغانينا في أحد اعماله الكبرى التي سيعرضها في عواصم العالم ومدنها الأثرية، وجدنا انه أعد كل شيء وتصوره واضح للعمل، بل أكثر من ذلك أنه اختار اغاني جيل جيلالة التي يريد توظيفها... كان اختياره قد وقع على أغاني "الكلام المرصع" و"دارت بنا الدورة" و"الحمد والشكر". رحبنا بمقترحه ودخلنا للاستوديو قصد الشروع في التسجيل، وكنا نفاجأ بحضور منصور الرحباني الذي علمنا في ما بعد انه هو من سيقوم بالتوزيع الموسيقي للعمل. سجلنا اغنيتي "الكلام المرصع" و"الدورة" أما "الحمد والشكر" فلم نسجلها إلا بعد أن عدلنا كلماتها...". حبيبي: "ما هزك ريح البارح" كتب الباحث والناقد حسن حبيبي في رثاء الفنان مولاي الطاهر الأصبهاني قائلا "إن مولاي الطاهر الأصبهاني واحد ممن أرسوا دعائم الصرح الغيواني الهائل وصالحوا المغاربة مع موروثهم الغنائي والمسرحي والوجداني.. الفنان القادم من تخوم البهجة ومشاربها الفنية الضاربة جذورها في المغرب العميق، مغرب "التعددية" والاختلاف، مغرب حمادشة وكناوة وعيساوة والعيطة والكلام المرصع بالعشق. الأصبهاني الفنان الموزون الذي قال في أكثر من لقاء جمعني به أنه لم يختر الغناء.. فقلت له، نعم أشريف أنت لم تختر الغناء لكن الغناء اختارك، أنت لم تأت إلى الغناء لكن الغناء جاء إليك طيعا مطواعا لأنه آنس في قوة صوتك وجاذبيته معنى آخر لحياته.. لأنه وجد في قرار صوتك القوي نفحة الزاهدين وارتعاشة المتصوفة. فجاءت أغانيك متسربلة بعبق الأصالة والطقوس الحضارية "من الحضرة" والأحاسيس الوجدانية. اختاره شيخ المسرحيين الطيب الصديقي كي يكون فتى الأدوار الرئيسية في مجموعة من الأعمال التي وقعت على زمن الإبداع القوي والفن النظيف.. "الحراز"، "المجذوب".. قال الشيخ للمريد..اترك عملك وتعال إلى قلعة الفن والإبداع.. فلم يتردد الفتى الأسمر في أن يضرب صفحا عن منصبه في وزارة الفلاحة كي يزهد بخطى ثابتة في البحث عن المنسي من تراث الاغنية المغربية والنبش في القوالب الغنائية القديمة، التي باتت مع جهود مبدعيها منسية الى حد الاندثار. من منا اليوم يجرؤ على ترك عمله للانخراط في عوالم الإبداع المبهمة؟ أو لنقل أصحه أن ما ألفنا نراه اليوم هو ترك الفن والإبداع للبحث عن عمل يضمن العيش الكريم هذا إذا لم نقل أن ما أصبحنا نشاهد اليوم هو جعل الفن والإبداع عبدا مشرط لحناك للجاه والمال والسلطة. وأقولها للتاريخ أن مولاي الطاهر واحد من ذاك النزر القليل من الفنانين الذين لم يتنكروا لمعلمهم الأول، فقد ألتقيه غير ما مرة ببيت الطيب يؤنسه يشاكسه يغني معه لأن الحياة عند هؤلاء لا تتوقف. اسم مولاي الطاهر إلى جانب رفاقه المؤسسين سيظل محفوظا في سجل تاريخ المغاربة رغم أنف الذين يحاولون طمس الذاكرة، فعندما كان مفكرون في المغرب والمشرق يناقشون شروط العودة إلى التراث التي لا يمكنها أن تتم إلا بمقتضيات عصرنا، كان ناس الغيوان وجيلالة ورفاقهم في الدرب يمارسون هذه العودة المؤسسة على أرض الواقع ومن غير ادعاء، معتبرين بتلقائية الفنان الأصيل أن التاريخ مدرسة للانطلاق وليس للبكاء على الأطلال، فلم تقتصر هذه العودة على الأغنية فحسب بل أسست لنمط عيش ولاختيارات ثقافية لو انتبهنا إلى أهميتها، لو استثمرناها لكنا في أحسن حال. إننا اليوم إذ نودع مولاي الطاهر، فنحن في الواقع نودع قطعة ضوء من تاريخنا الثقافي الذي سكن وجدان المغاربة في غفلة من حراس الظلام ومروجي البذاءة. مولاي الطاهر الأصبهاني دعني أسألك أو ربما أؤكد لك عبر سؤال عابر: ما هزك ريح البارح كيف يهزك ريح ليوما..؟".