مغربيات أبهرن العالم: خناثة بنت بكار … أم السلاطين

مغربيات أبهرن العالم ( الأخيرة)
خناثة بنت بكار، أو “خناثى”، حسب بعض المصادر التاريخية الأخرى، قادها القدر إلى أن تصبح زوجة أحد أشهر السلاطين المغاربة، وأما لولي عهده وجدة لسلطان آخر.
بلغت خناثة من العلم أسمى مراتبه، وقيل إنها فقيهة، بل كان لها من العزم أن ارتمت منذ بداية عهدها بقصر السلطان، في غمار السياسة ومشاقها. ولم يكن ذلك ليكون دون نتيجة، ففي عهد انفجرت فيه الأطماع على السلطة، كانت خناثة السبب الرئيسي في بقاء شجرة أبنائها على سدة الحكم.
لم تكن خناثة بنت بكار تتخيل يوما أن تصبح زوجة للسلطان المولى إسماعيل، فقد نشأت هناك بعيدا في إمارة البراكنة (موريتانيا)، في كنف شيخ اسمه بكار بن علي بن عبد الله المغافري الذي كان أميرا للبراكنة، وكان شيخا فاضلا يحرص على تدين أبنائه، ومنهم خناثة التي حفظت القرآن في سن مبكرة وأحسنت القراءات السبع وتفقهت في العلوم الشرعية، حتى أصبحت فقيهة ذات شأو عظيم.
يشير محمد بن الطيب القادري في كتابه “نشر المثاني” إلى أن خناثة كانت بداية تفقهها، تخط بيدها في اللوح ثم تبعث بذلك إلى الشيخ المكي الدكالي ليصحح لها. لم يظل الحال كذلك طويلا حتى بلغت من العلم ما جعلها تحقق وتبدي ملاحظاتها في مصنفات كبار علماء الدين آنذاك.
طريق خناثة إلى القصر كان أشبه ما يكون بلعبة القدر، فهي لم تكن إلا هدية للسلطان. غير أن جمالها، وفقهها وأدبها، سرعان ما نفذوا إلى قلبه. في ذلك يقول الشيخ أبو العباس وأحمد بن خالد الناصري في كتابهما الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: “سنة 1089 للهجرة، غزا السلطان المولى إسماعيل صحراء سوس، فبلغ آقاويطاطا وتيشيت وشنكيط وتخوم السودان، فقدمت عليه وفود العرب هنالك، وأدوا طاعتهم، وكان في ذلك الوفد الشيخ بكار المغافري والد الحرة خناثة، فأهدى الشيخ المذكور إلى السلطان ابنته، وكانت ذات جمال وفقه وأدب، فتزوجها”.
جمال خناثة لم يثنها عن تكبد مشقة نيل العلم، ولم يكن ليتركها تكتفي بلقب زوجة السلطان أو بإشقاء نفسها في منافسة نسائه توددا إليه، بل راحت تعمق مداركها العلمية والفقهية، وارتمت في غمار السياسة وتدرجت فيها حتى أصبحت وزيرة ومستشارة عند زوجها السلطان؛ فبلغ أن فاقت شهرتها آفاق البحار. ويروى أن ملوك أوروبا كانوا يبتغون عطفها لتتوسط لهم عند السلطان ليطلق سراح بعض أسراهم. غير أن وفاة المولى إسماعيل أقحمت المغرب في دوامة أزمات حادة لكثرة أبنائه وتعدد نسائه، كادت السلطة إثرها أن تنفلت من قبضة يدي السلطان ابن خناثة، المولى عبد الله، الذي أقاله جيش عبيد البخاري لمرات عديدة، لوقوفهم في صف المولى أبي الحسن الأعرج ابن زوجة المولى إسماعيل الأخرى عائشة مباركة، بيد أن خناثة بنت بكار كانت المفصل دائما في عودة ابنها للحكم بطلبها دعم أقربائها في جيشي الودايا والمغافرة.
في عهد السلطان أبي الحسن الأعرج، الذي دام حكمه سنة ونصف سنة، دخلت خناثة السجن مع حفيدها محمد الذي سهرت على تعليمه وتكوينه وتفقيهه.
وحين أصبح سيدي محمد بن عبد الله، في ما بعد، سلطانا على المغرب، ستتضح التنشئة السياسية لخناثة على حفيدها، إذ تميز بالرزانة وبعد النظر، فاجتهد في الحفاظ على بلاده وتأمين وحدتها وتعزيز العلاقات مع الخارج، فكان انفتاحه على أوروبا وكان المغرب أول دولة تعترف بالولايات المتحدة الأمريكية دولة مستقلة.
يبدو جليا كيف أن خناثة بنت بكار كابدت الكثير بعد وفاة المولى إسماعيل لتحافظ على سلطان أبنائها، فدخلت لسنين طويلة في صراع مع عبيد البخاري وسجنت ثم نفيت، بيد أنه لم يتمكن واحد من خصومها من التخلص منها، وإنما ظلت صامدة واقفة في وجه كل من أراد أن ينازع شجرة أبنائها على السلطة.