عودة قوارب الموت

إقبال كبير عليها رغم مصرع العشرات وكورونا عجز عن صدها عادت قوارب الموت إلى الواجهة، إذ رغم مآسي مصرع العشرات من الشباب في مقتبل العمر من كلا الجنسين غرقا في البحر، مازال الإقبال على ركوب المغامرة متواصلا. لم تنفع جائحة كورونا التي شلت اقتصاد دول عظمى في القضاء على هذه الظاهرة، بل صارت من بين المبررات التي يستند عليها المغامرون، فالوباء، حسب قولهم، كشف أن مستقبلهم بالمغرب مهدد في أي لحظة. إنجاز : مصطفى لطفي أرخت مأساة مصرع أزيد من 30 "حراك" يتحدرون من وادي زم بسواحل الداخلة، بظلالها على المغاربة، فالهجرة السرية ما زالت تعتبر حلا "سحريا" سيما بعد ما خلفته جائحة كورونا من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية على فئات كبيرة من المغاربة، فالجميع مستعد لتسديد ثلاثة ملايين من أجل مغامرة، قد تضمن له حياة رغدة أو موتا بطريقة بشعة. "الحريك" للجميع استعادت بني ملال وخريبكة وقلعة السراغنة، نغمة الهجرة السرية، إذ ما زال أبناؤها يتسيدون ركوب قوارب الموت منذ بداية التسعينات إلى اليوم. لا فرق بين فقير أو عاطل وآخر ينتمي إلى وسط ميسور أو عائلة فلاحية قادرة على ضمان حياة رغيدة له، فالجميع يؤمن بـ"الحريك"، فهو حلم وجب تحقيقه مهما كلف الثمن، للرد على استعراض عضلات من سبقوهم في ركوب المغامرة عند عودتهم من المهجر. الطموح نفسه شهد تزايدا مثيرا في صفوف الفتيات من مختلف الأعمار، في السابق، كان وجودهن داخل قارب، معدودا على رؤوس الأصابع، أما اليوم فصرن يؤثثن المشهد وينافسن الرجال في عدد المقاعد المحجوزة. كما انضاف أزواج إلى الراغبين في ركوب المغامرة معا، مصحوبين بأطفالهم الصغار، غير مكترثين ببشاعة الموقف وخطورته، كما الأمر لمهاجر سري يتحدر من أبي الجعد فقد زوجته ورضيعه في عملية "حريك" فاشلة قرب الداخلة، إذ ما زالت عائلته تترقب أن يلفظ البحر جثثتهم إلى اليوم. ركوب المغامرة يؤخذ بنوع من التحدي بهذه المناطق، أو لنقل بنوع من الاستفزاز، فنجاح آخرين في الوصول إلى البر الأوربي، وتحسين مستواهم المعيشي، وتحولهم إلى مقاولين ومالكي عقارات، جعلتهم قدوة لآخرين اعتبروا أنفسهم ضحايا مشاريع تنموية فاشلة، واستفزهم لمز العائلة والأصحاب ومقارنتهم بمن غادروا، فقرروا المقامرة بحياتهم إما الموت أو ضمان عيش كريم لهم ولأسرتهم. الداخلة... القبلة الجديدة كانت شواطئ الشمال قبلة لـ"حراكة" المغرب، ففي بداية التسعينات والتي شهدت أولى محاولات الهجرة السرية، كانت الانطلاقة من شواطئ طنجة بحكم قرب المسافة من الشواطئ الإسبانية، لكن المغامرة من البوغاز خلفت ضحايا كثر، فتم تغيير الوجهة صوب القصر الصغير وواد لاو، ومع تشديد المراقبة الأمنية، تحولت سواحل الحسيمة والناظور بوابة الانطلاق صوب الفردوس الإسباني، رغم بعدها عن السواحل الإسبانية. يتذكر سعيد (40 سنة)، مغامرته في عملية "الحريك" من سواحل الحسيمة، والتي كادت أن تنتهي بكارثة لولا تدخل سفينة تجارية، إذ يحكي سعيد كيف انطلقوا ليلا على متن قارب مطاطي، وفي لحظة تسلل النوم إلى عين قائد الزورق، ولما استيقظ، فقد البوصلة ولم يعد يتذكر الوجهة جيدا بعد أن كان يراهن على النجوم. ظلوا عالقين وسط البحر لثلاثة أيام، نفد منهم الماء والأكل، وبدؤوا يعيشون هلوسات دفعته إحداها إلى رمي نفسه في البحر، لولا تدخل أصدقائه الذين أعادوه للقارب. اعتقد سعيد أنها النهاية، قبل أن يصادفوا سفينة تجارية، أشعر ربانها حرس السواحل الإسبانية الذين أنقذوهم من موت محقق. بعد تشديد الخناق على مدن الشمال، حولت شبكات متخصصة في "الحريك" وجهتها صوب شوائط العرائش والقنيطرة والمحمدية والجديدة، نجحت بضع محاولات، لكن أغلبها انتهى بشكل مأساوي، آخرها غرق زورق بمنطقة زناتة ضواحي البيضاء، ومصرع أغلب المهاجرين الذين ينتمون إلى دواوير بقلعة السراغنة. وجهت هذه الفاجعة صفعة لشبكات "الحريك"، إذ لقيت جمع محاولاتها الفشل من قبل الدرك الملكي والأمن، لتقرر تغيير الوجهة هذه المرة إلى شواطئ الجنوب، خصوصا الداخلة. قوارب ومحركات بـ"العلالي" صارت شواطئ الداخلة قبلة لـ"الحراكة"، سواء المغاربة أو من دول إفريقيا جنوب الصحراء، إذ تكون الوجهة صوب جزر الكناري بعد رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر بسبب هيجان البحر. لكن يبقى السؤال، لماذا تراهن شبكات الهجرة السرية على شواطئ الداخلة؟ وشرعية هذا السؤال أنه ما دامت الوجهة هي جزر الكناري، فهناك شواطئ في الجنوب، خصوصا ببوجدور وطرفاية أقرب مسافة للبر الإسباني، وربما قد تكون الرحلة أكثر أمنا، سيما مع غياب مراقبة مشددة من قبل مختلف المصالح الأمنية، مقارنة مع شواطئ الداخلة الممتدة على مسافة طويلة. الجواب عن هذا ا السؤال، كشفت عنه مصادر "الصباح"، بالحديث عن فوضى تشهدها الداخلة في صناعة وبيع القوارب الخشبية ومحركاتها، ففي الداخلة يمكن لأي كان أن يتحوز ما شاء من القوارب ومحركاتها بمجرد تسديد ثمنها كاملا، دون الحاجة للتحقق من أنه ينتمي إلى قطاع الصيد التقليدي وله نوايا في استغلالها في الهجرة السرية، فالمال يعمي البصيرة وتفعيل القانون، على نقيض المدن الجنوبية الأخرى، التي تتشدد في هذه المسألة. هذه الفوضى استغلتها شبكات الهجرة السرية، إذ بالنسبة لها الحصول على قارب خشبي ومحرك قوي، أيسر من إقناع شباب بتسديد الملايين للمغامرة بحياتهم، وبناء على هذا المعطى، صار بإمكان أي شخص تنظيم الهجرة السرية من الداخلة، يكفيه فقط استغلال طموح الشباب بركوب البحر وضرب موعد معهم في الجنوب مع إلزامهم بتسديد الثمن في الحال، وتخصيص جزء منه لشراء قارب ومحرك، والانطلاق في رحلة بحرية محفوفة بالمخاطر. هجرة علنية يرى عثمان أبو الوفا الإدريسي، محام بهيأة البيضاء، أن المغرب أصبح محط أنظار العالم في ملف الهجرة السرية، نتيجة تزايد عدد الشباب المغاربة المهاجرين، وباعتباره معبرا للهجرات نحو أوربا، ما زاد في ذلك تدفق المهاجرين الأفارقة نحوه، وأن هذا التنامي دفع الشباب المغربي للإفصاح صراحة عن نيته في "الحريك" ما حول هذه الهجرة من سرية إلى علنية، سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، التي شجعت الباقي على ركوب هذه المغامرة، والنتيجة أن تقارير لمنظمات غير حكومية بالمغرب تتحدث عن ارتفاع نسبة المهاجرين السريين المغاربة بالدول الأوربية، في الآونة الأخيرة، من 5 في المائة إلى 20. وبرر المحامي الإقبال الكبير على "الحريك" بأسباب عديدة، أبرزها التأثير السلبي لجائحة كورونا على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، الأمر الذي دفع الشباب إلى البحث عن أي وسيلة تمكنه من الهجرة إلى أوربا. وشدد أبو الوفا على أن تنامي الظاهرة صاحبه تطور في وسائل الهجرة السرية، إذ انتقلت من طرق تقليدية من قبيل قوارب الموت إلى استعمال الدراجات المائية "جيت سكي"، التي تعتمد على السرعة، سيما أن سواحل المغرب لا تبعد كثيرا عن بوابة أوربا، إضافة إلى محاولة الاختباء في شاحنات للنقل الدولي أو سيارات، بل هناك من قرر الهجرة وقطع الممر البحري الفاصل بين أوربا والمغرب سباحة. وبخصوص موقف القانون الجنائي من هذه الظاهرة، أفاد أبو الوفا، أن المشرع المغربي تصدى لظاهرة الهجرة السرية، وأفرد مجموعة من المواد للحد منها بالقسم الثاني بمقتضى قانون 02-03، الذي يتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية وبالهجرة غير الشرعية، وخصص لها المادة 50 إلى 56، مبرزا أن المشرع المغربي يعاقب كل شخص مغربي أو أجبني بغرامة تتراوح بين 3000 درهم و10 آلاف وبالحبس من شهر إلى ستة أشهر أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل شخص غادر التراب الوطني بطريقة سرية، باستعمال أحد المراكز الحدودية والبرية أو الجوية والبحرية وبأي وسيلة احتيالية. كما عاقب المشرع المغربي كل من نظم وسهل وساعد في ذلك سواء بعوض أو مجانا. إلا أن المشرع نفسه، شدد العقوبة ورفعها إلى جناية، عندما يتعلق الأمر بتنظيم هجرة سرية بصفة اعتيادية لتصل العقوبة في أقصى حد إلى 15 سنة سجنا للفاعل وأعضاء الشبكة التهجير الدولي، وقد تصل العقوبة إلى السجن المؤبد في حالة الموت، كما لم يغفل المشرع الشركات (الشخص المعنوي) من العقوبة إذا ساعدت في التهجير، وحدد لها غرامات ما بين 10 آلاف ومليون درهم. * محام بهيأة البيضاء مسؤولية الدولة تباينت مواقف رواد التواصل الاجتماعي مع فاجعة مصرع مهاجرين سريين مغاربة غرقا في البحر، إذ في الوقت الذي عزا فيه البعض ذلك إلى غلاء المعيشة والبطالة، اتهم آخرون المفسدين الذين تسللوا إلى مناصب في الدولة بالاكتفاء بضمان مستقبلهم ومستقبل أبنائهم فقط. من بين التعليقات المثيرة، ما جاء في تدوينة عمر، "ملوموش شباب لي حركو، لومو المسؤولين لي مضمنوش ليهم حقوق العيش بكرامة فهاد لبلاد. ربنا ترحم الشهداء وتصبر أهلهم ونفس السيناريو، سيتكرر إلى أن تتغير الأوضاع بالمغرب، فالشباب يهاجرون مكرهين، لأن ما في تلك البلدان ليس ببلادهم." أما خديجة، فعبرت بالقول "واقع مرير أصبح يعيشه المواطن المغربي ارتفاع في الأسعار وغلاء المعيشة مقابل انعدام فرص الشغل وتجميد الأجور". في حين حمل خالد المسؤولية للدولة، بالقول " مادامت الدولة تستخلص الضرائب من مواطنيها، فعليها أن تضمن لهم تعليما سليما، وصحة سليمة، وحقوقا وحرية وسكنا وعيشا كريما. لكن هيهات، تسلل المفسدون إلى دواليب الدولة وضمنوا لأنفسهم، ولأولادهم تعليما سليما، وصحة سليمة، وحقوقا وحرية وسكنا وعيشا كريما". أما حميد، فدون بغضب " هذي هي كورونا ديال بالصح، لي خاصكوم تبقاو تعطيو إحصائيات ديالها كل يوم، وتقلبوا على الحلول لهذا المشكل ولكن ما يحس بالمزود غير المضروب به". ورغم الفاجعة، اكتفى معلق يحمل اسم رضوان بتقديم النصيحة لـ"الحراكة" إذ قال " نصيحة للإخوة ألي كافكرو يهاجروا عن طريق البحر، نقولكم إن الهجرة في فصل الشتاء كتكون صعيبة وخطيرة البحر هائج مشي بحال الصيف البحر هادئ، لذا فمن يفكر في الهجرة فعليه بالصيف، والواحد يفكر فولديه وبالأخص الأم". وختم شخص يحمل اسم "مغترب" ، هذه التعليقات بالقول "فاش الواحد يهرب من دارو، عرفوها خربة واخا مزوقة من برة حدى الجيران".

عودة قوارب الموت

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مؤامرة

انـــهـــيـــار مــنـــظومــــة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات