fbpx
حوادث

أزمور… هبة أم الربيع

مدينة‭ ‬الملحون‭ ‬والتشكيل‭ ‬والأساطير‭ ‬شهدت‭ ‬مرور‭ ‬الفينيقين‭ ‬والرومانين‭ ‬والبرتغال‭ ‬

أزمور،‭ ‬مدينة‭ ‬قديمة‭ ‬جدا،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المؤرخين،‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬تاريخ‭ ‬تأسيسها،‭ ‬لكنهم‭ ‬أجمعوا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬فاس‭ ‬ومكناس‭ ‬والرباط‭. ‬واتفقوا‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬شهدت‭ ‬مرور‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحضارات،‭ ‬

من‭ ‬قبيل‭ ‬الفينيقية‭ ‬والقرطاجية‭ ‬والرومانية‭ ‬وأنها‭ ‬تأسست‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭. ‬واختلفوا‭ ‬حول‭ ‬معنى‭ ‬تسميتها،‭ ‬لكن‭ ‬الثابت‭ ‬والمتفق‭ ‬عليه،‭ ‬أن‭ ‬اسم‭ “‬أزمور‭”‬،‭ ‬يعني‭ ‬شجر‭ ‬الزيتون‭ ‬الذكر‭ ‬أو‭ ‬البري‭. ‬

ويؤكد‭ ‬الكانوني‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية‭ ‬حينما‭ ‬يقول‭ ‬عنها،‭ “‬إنها‭ ‬مدينة‭ ‬عتيقة‭ ‬يرجع‭ ‬تأسيسها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬المسيحي،‭ ‬ولها‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬القديمة،‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬الفنيقيين‭”.‬

إنجاز‭: ‬أحمد‭ ‬ذو‭ ‬الرشاد‭ (‬أزمور‭)‬

تمتاز‭ ‬أزمور‭ ‬بعراقتها‭ ‬وتاريخها،‭ ‬التي‭ ‬تعاقبت‭ ‬عليها‭ ‬أقوام‭ ‬كثيرة،‭ ‬واستقر‭ ‬بها‭ ‬علماء‭ ‬وأولياء‭ ‬وحكام‭ ‬وقياد‭. ‬واشتهرت‭ ‬المدينة‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬التعايش‭ ‬والتسامح‭ ‬بين‭ ‬الأديان‭ ‬السماوية‭ ‬الثلاثة‭ (‬الإسلامية‭ ‬واليهودية‭ ‬والمسيحية‭)‬،‭ ‬فهي‭ ‬تحتضن‭ ‬عدة‭ ‬مساجد‭ ‬وأضرحة،‭ ‬وهي‭ ‬معروفة‭ ‬لدى‭ ‬العامة‭ ‬بمدينة‭ ‬مولاي‭ ‬بوشعيب‭. ‬

مساجد‭ ‬وأضرحة

مولاي‭ ‬بوشعيب،‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬شعيب‭ ‬أيوب‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭ ‬الصنهاجي،‭ ‬ولد‭ ‬بأحواز‭ ‬آسفي‭ ‬سنة‭ ‬463ه‭ ‬وتوفي‭ ‬سنة‭ ‬561ه‭ ‬الموافق‭ ‬ل‭ ‬1166م،‭ ‬وهو‭ ‬العلامة‭ ‬الشيخ‭ ‬أبو‭ ‬شعيب‭ ‬الملقب‭ ‬بالسارية،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يطيل‭ ‬الوقوف‭ ‬في‭ ‬الصلاة،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنه‭ ‬اكترى‭ ‬رجلا‭ ‬ينبهه‭ ‬إذا‭ ‬دخل‭ ‬وقت‭ ‬الصلاة‭ ‬الموالية‭. ‬وعرف‭ ‬بورعه‭ ‬وصلاحه،‭ ‬إذ‭ ‬يروى‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬شاهد‭ ‬بقرته‭ ‬ترعى‭ ‬من‭ ‬حقل‭ ‬جاره،‭ ‬فأسرع‭ ‬نحوها‭ ‬وأدخل‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬ونزع‭ ‬ما‭ ‬التهمته‭ ‬من‭ ‬عشب‭ ‬وحبسها‭ ‬مدة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬وتصدق‭ ‬بلبنها‭ ‬تكفيرا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭.‬

وتتميز‭ ‬أزمور‭ ‬بطابعها‭ ‬الروحاني،‭ ‬فهي‭ ‬تنفرد‭ ‬باحتضانها‭ ‬لعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الزوايا‭ ‬والأضرحة‭ ‬والمساجد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬منارة‭ ‬للعلم‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬وتلقين‭ ‬العلوم‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتحفيظ‭ ‬القرأن‭. ‬

ومازالت‭ ‬أزمور‭ ‬لحد‭ ‬الآن‭ ‬تحتضن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الزوايا،‭ ‬منها‭ ‬الزاوية‭ ‬الشاذلية‭ ‬والحمدوشية‭ ‬والمختارية‭ ‬والتيجانية‭ ‬وغيرها،‭ ‬كما‭ ‬تتوفر‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الجوامع‭ ‬والمساجد،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬الجامع‭ ‬الكبير‭ ‬وجامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬ومسجد‭ ‬مولاي‭ ‬بوشعيب‭ ‬وجامع‭ ‬القصبة‭ ‬وجامع‭ ‬الزاوية‭ ‬التجانية‭ ‬وغيرها‭.‬

وتتميز‭ ‬أيضا‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬تحتضن‭ ‬ضريح‭ “‬أبراهام‭ ‬مولينيس‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬محجا‭ ‬لليهود‭ ‬المغاربة،‭ ‬والذين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬مرتبطين‭ ‬به‭ ‬وبمدينة‭ ‬أزمور،‭ ‬التي‭ ‬قضوا‭ ‬بها‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬حياتهم،‭ ‬وأنهم‭ ‬حريصون‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬زيارات‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬سنة‭.‬

أزمور‭ ‬التشكيل

لعب‭ ‬موقع‭ ‬أزمور،‭ ‬المطل‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع‭ ‬والمتكئ‭ ‬على‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي‭ ‬والرابض‭ ‬فوق‭ ‬هضبة،‭ ‬كانت‭ ‬مؤثثة‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬الأشجار،‭ ‬دورا‭ ‬أساسيا‭ ‬في‭ ‬تشكل‭ ‬الهوس‭ ‬بالفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬إذ‭ ‬تعتبر‭ ‬مهدا‭ ‬للعديد‭ ‬منهم،‭ ‬فيمكن‭ ‬الجزم‭ ‬بأن‭ ‬أهل‭ ‬أزمور‭ ‬يولدون‭ ‬وفي‭ ‬أيديهم‭ ‬فرشاة‭ ‬وصباغة‭.‬

وسار‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬عبد‭ ‬الكريم‭ ‬الأزهر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنحى،‭ ‬وأكد،‭ “‬أن‭ ‬السر‭ ‬في‭ ‬اهتمام‭ ‬سكان‭ ‬أزمور‭ ‬بالتشكيل،‭ ‬مرده‭ ‬إلى‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬والنهر‭ ‬والغابة،‭ ‬ووجود‭ ‬مادة‭ ‬الطين،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصنع‭ ‬منها‭ ‬الأواني‭ ‬الخزفية،‭ ‬وتزين‭ ‬بزخارف‭ ‬ونقوش،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬طريق‭ ‬مولاي‭ ‬بوشعيب،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يزاولون‭ ‬رسوماتهم‭ ‬في‭ ‬محلات‭ ‬البيع‭. ‬وكنا‭ ‬ننبهر‭ ‬بتلقائية‭ ‬زخارفهم‭ ‬على‭ ‬الأواني‭ ‬الطينية‭”. ‬

وزاد‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬أبناء‭ ‬أزمور‭ ‬بالفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬تردد‭ ‬رسامين‭ ‬أجانب،‭ ‬إثر‭ ‬اهتمامهم‭ ‬بالمناظر‭ ‬البانورامية‭ ‬للبنايات‭ ‬السكنية‭ ‬المنعكسة‭ ‬على‭ ‬جنبات‭ ‬نهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع،‭ ‬هذا‭ ‬المنظر،‭ ‬يقول‭ ‬الأزهر،‭ “‬كان‭ ‬أرضية‭ ‬ومنطلقا‭ ‬لجميع‭ ‬رسامي‭ ‬أزمور،‭ ‬ومنهم‭ ‬عيسى‭ ‬الجد‭”.‬

وأضاف‭ ‬أن‭ ‬البداية‭ ‬ببعد‭ ‬تشكيلي‭ ‬حداثي،‭ ‬انطلقت‭ ‬مع‭ ‬الفنانين‭ ‬بوشعيب‭ ‬هبولي‭ ‬وبوشعيب‭ ‬خلوق،‭ ‬بعد‭ ‬استفادتهما‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الستينات‭ ‬من‭ ‬التأطير‭ ‬بغابة‭ ‬المعمورة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬وزارة‭ ‬الشبيبة‭ ‬والرياضة‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬السيدة‭ ‬أبرودسكي‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الوطني‭.‬

ويتردد‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬أزمور‭ ‬بين‭ ‬المقيم‭ ‬والزائر‭ ‬والضيف،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وقت‭ ‬وحين،‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬التشكيليين،‭ ‬نذكر‭ ‬منهم‭ ‬عزيز‭ ‬الزاوية‭ ‬المقيم‭ ‬بالسويد‭ ‬والفائز‭ ‬بالرتبة‭ ‬الأولى‭ ‬لمسابقة‭ ‬كأس‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬التشكيل‭ ‬التجريدي‭ ‬وميلود‭ ‬الأبيض‭ ‬ومحمد‭ ‬القاسمي‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬علال‭ ‬وفاطمة‭ ‬حسن‭ ‬والتجاني‭ ‬الشريگي‭ ‬ومصطفى‭ ‬سيلبوهالي،‭ ‬المعروف‭ ‬ببوسلهام‭ ‬وعبد‭ ‬الله‭ ‬الديباجي‭ ‬وأحمد‭ ‬الأمين‭ ‬ومحمد‭ ‬حميدي‭ ‬والأمين‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬وأنس‭ ‬البوعناني‭ ‬ومصطفى‭ ‬أوعنكيس‭ ‬ومحمد‭ ‬داكير‭ ‬ويونس‭ ‬لمزاري‭ ‬ومريم‭ ‬مغاة‭ ‬ورباب‭ ‬حرباس‭ ‬والعربي‭ ‬لهلال‭ ‬وعبد‭ ‬الحميد‭ ‬قلمون‭ ‬ومحمد‭ ‬الهاني‭ ‬وعبد‭ ‬الودود‭ ‬وشان‭ ‬ومحمد‭ ‬وعبد‭ ‬اللطيف‭ ‬الشوفاني‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬القفز‭ ‬على‭ ‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬رحول‭ ‬الذي‭ ‬يتوفر‭ ‬على‭ ‬رواق‭ ‬للعرض‭ ‬بالمدينة‭ ‬القديمة‭ (‬الملاح‭).‬

نهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع

حينما‭ ‬قال‭ “‬هيرودوت‭” ‬قولته‭ ‬المشهورة،‭ “‬مصر‭ ‬هبة‭ ‬النيل‭”‬،‭ ‬كان‭ ‬يقصد‭ ‬أن‭ ‬النيل‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬وهب‭ ‬مصر‭ ‬الحياة‭ ‬والوجود‭ ‬وأنه‭ ‬لولا‭ ‬النيل‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬الله‭ ‬حضارة‭ ‬مذهلة‭ ‬امتدت‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني‭. ‬ولذلك‭ ‬يمكن‭ ‬القول،‭ “‬إن‭ ‬أزمور‭ ‬هبة‭ ‬أم‭ ‬الربيع‭”‬،‭ ‬لأن‭ ‬مؤسسي‭ ‬أزمور‭ ‬القديمة،‭ ‬اختاروا‭ ‬مصب‭ ‬النهر‭ ‬لوجود‭ ‬الماء‭ ‬والخضرة‭ ‬والطعام‭.‬

وقد‭ ‬ترك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والمؤرخين‭ ‬أقوالا‭ ‬وعبارات‭ ‬تؤكد‭ ‬ارتباط‭ ‬أزمور‭ ‬بنهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬الحسن‭ ‬الوزان‭ (‬ليون‭ ‬الإفريقي‭)‬،‭ “‬أزمور‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬دكالة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬الأفارقة‭ ‬على‭ ‬مصب‭ ‬نهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي‭”. ‬ويقول‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬الزياني،‭ “‬أزمور‭ ‬بنيت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أمراء‭ ‬صنهاجة،‭ ‬أثناء‭ ‬استقرارهم‭ ‬بدكالة‭”. ‬

ترتبط‭ ‬مدينة‭ ‬أزمور‭ ‬أشد‭ ‬الارتباط‭ ‬بنهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬عليه،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يشكل‭ ‬لها‭ ‬مصدر‭ ‬عيش‭ ‬دائم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬البحارة‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يخرجون‭ ‬للصيد‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬فيعودون‭ ‬محملين‭ ‬بشتى‭ ‬أنواع‭ ‬الأسماك،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬سمك‭ “‬الشابل‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬جذب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البرتغاليين‭ ‬وجعلهم‭ ‬يفرضون‭ ‬جزية‭ ‬تقدر‭ ‬ب10‭ ‬آلاف‭ ‬سمكة‭ ‬على‭ ‬حاكم‭ ‬أزمور‭.‬

يمتد‭ ‬نهر‭ ‬أم‭ ‬الربيع‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬600‭ ‬كيلو‭ ‬متر،‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬الأطلس‭ ‬ويحط‭ ‬الرحال‭ ‬بالمحيط‭ ‬الأطلسي‭. ‬ولعب‭ ‬النهر‭ ‬دورا‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬سقي‭ ‬الحقول‭ ‬المجاورة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬حدائق‭ ‬ومساحات‭ ‬خضراء،‭ ‬تنتج‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الخضر‭ ‬والفواكه،‭ ‬خاصة‭ ‬البرتقال‭ ‬والرمان‭ ‬والتين‭ ‬والزيتون‭. ‬ويؤكد‭ ‬ذلك،‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬شهادة‭ ‬الإمام‭ ‬قاضي‭ ‬القضاة،‭ ‬وعمدة‭ ‬المذهب‭ ‬المالكي،‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬بن‭ ‬العربي‭ ‬الأندلسي‭ ‬المغربي‭ ‬حين‭ ‬مر‭ ‬منها‭ ‬وهو‭ ‬عائد‭ ‬من‭ ‬رحلته‭ ‬المشرقية،‭ ‬متحدثا‭ ‬عن‭ ‬أرض‭ ‬أزمور‭ ‬وخصوبتها،‭ “‬وهي‭ ‬سهول‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬طولها‭ ‬وعرضها‭ ‬خمس‭ ‬مراحل،‭ “‬تنبت‭” ‬فيها‭ ‬الآبار‭ ‬العذبة‭ ‬وتكثر‭ ‬بها‭ ‬الزروع‭ ‬والضروع‭…”.‬

مدينة‭ ‬الملحون

أزمور‭ ‬أرض‭ ‬الأولياء‭ ‬والصالحين،‭ ‬أرض‭ ‬العلماء‭ ‬والفنانين،‭ ‬مهد‭ ‬الحضارات،‭ ‬مرت‭ ‬منها‭ ‬أقوام‭ ‬عديدة،‭ ‬فينيقيون‭ ‬ورومان‭ ‬وقرطاجنيون‭ ‬وبرتغاليون‭ ‬وبورغواطيون‭ ‬وأدارسة،‭ ‬أرض‭ ‬مثل‭ ‬هذه،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أرض‭ ‬الشعراء‭ ‬والزجالين،‭ ‬أرض‭ ‬الملحون‭ ‬وباقي‭ ‬الفنون‭.‬

وشكلت‭ ‬مركزا‭ ‬حضاريا‭ ‬وثقافيا‭ ‬مهما،‭ ‬واشتهرت‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬باحتوائها‭ ‬للصناع‭ ‬والحرفيين،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات،‭ ‬الذين‭ ‬اشتهروا‭ ‬بتعاطيهم‭ ‬لفن‭ ‬الكلام،‭ ‬أي‭ ‬نظم‭ ‬الشعر‭ ‬العامي‭. ‬ويذهب‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الجليل‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭: “‬إذا‭ ‬جاز‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬ننسب‭ ‬طرب‭ ‬الملحون‭ ‬إلى‭ ‬طبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬معينة،‭ ‬فإن‭ ‬تقصي‭ ‬مجالات‭ ‬ممارسته،‭ ‬ينتهي‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬طبقة‭ ‬أصحاب‭ ‬الحرف‭ ‬الصناعية،‭ ‬كالخرازة‭ ‬والنجارة‭ ‬والحدادة‭ ‬والحياكة‭”.‬

ويضيف،‭ “‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة،‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬توظف‭ ‬الملحون،‭ ‬فنا‭ ‬شعبيا،‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬أغراضها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬إنشاده‭ ‬وعزفه‭ ‬مطية‭ ‬للتخفيف‭ ‬من‭ ‬رتابة‭ ‬العمل،‭ ‬ودفع‭ ‬عوامل‭ ‬السأم‭ ‬وطرد‭ ‬الشعور‭ ‬بالوحدة‭…”.‬

ويشير‭ ‬عبد‭ ‬الإله‭ ‬جنان،‭ ‬باحث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أزمور،‭ ‬عرفت‭ ‬فن‭ ‬الملحون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬متقدم‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬عرفته‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬زجلية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬وظهور‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬المجذوب‭ ‬الزجال‭ ‬المشهور‭ ‬برباعياته‭. ‬وهو‭ “‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بن‭ ‬عباد‭ ‬بن‭ ‬يعقوب‭ ‬بن‭ ‬سلامة‭ ‬بن‭ ‬خشان‭ ‬الصنهاجي‭ ‬الأصل‭ ‬ثم‭ ‬الفرجي‭ ‬الدكالي‭”.‬

ونشأ‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬عرفت‭ ‬بالعلم‭ ‬والورع‭ ‬والولاية‭ ‬وبرع‭ ‬في‭ ‬نظم‭ ‬أزجال‭ ‬صوفية‭ ‬وأوراد‭ ‬وأذكار‭. ‬وأتى‭ ‬بنموذج‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الزجل،‭ ‬وهو‭ ‬الرباعيات‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬المجتمع‭ ‬بالنقد،‭ ‬وهو‭ ‬الاتجاه‭ ‬الأول‭ ‬للملحون‭.‬

وبسط‭ ‬عبد‭ ‬الإله‭ ‬جنان،‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬خاص‭ “‬بشيوخ‭ ‬الملحون‭”‬،‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الرواد،‭ ‬من‭ ‬أهمهم‭ ‬الشيخ‭ ‬العدراوي‭ ‬وبنمسعود‭ ‬الحجام‭ ‬والمختار‭ ‬بن‭ ‬المطحن‭ ‬وموسى‭ ‬بنرقية‭ ‬وإدريس‭ ‬ولد‭ ‬لبصير‭ ‬الزموري‭ ‬وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بن‭ ‬بوشعيب‭ ‬فنانة‭ ‬وإسماعيل‭ ‬الشوفاني‭ ‬والمكي‭ ‬لبصير‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬فرحات‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬المهدي‭ ‬وإدريس‭ ‬رحمون‭.‬

وتحدث‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬سيدي‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬العلمي‭ ‬والتهامي‭ ‬المدغري‭ ‬وأحمد‭ ‬لغرابلي‭ ‬وابن‭ ‬سليمان،‭ ‬الذين‭ ‬اتخذوا‭ ‬شعراء‭ ‬أزمور‭ ‬شيوخا‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬أشعارهم،‭ ‬منهيا‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬شيخ‭ ‬الشيوخ‭ “‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬بنرقية‭ ‬الآزموري‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬أيام‭ ‬سيدي‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭. ‬

استيبانيكو‭… ‬بن‭ ‬حدو‭ ‬الأزموري

ارتبطت‭ ‬أزمور‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬الأوقات‭ ‬برمز‭ ‬النضال‭ ‬والصمود‭ ‬والاستكشاف،‭ “‬استيبانيكو‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬أمريكا‭ ‬بشهادة‭ ‬كافة‭ ‬المؤرخين،‭ ‬فهو‭ ‬مكتشف‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بولايتي‭ “‬أريزونا‭” ‬و‭”‬نيو‭ ‬ميكسيكو‭”‬،‭ ‬وأحد‭ ‬المكتشفين‭ ‬الأوائل‭ ‬لولايتي‭ “‬فلوريدا‭” ‬و‭”‬تكساس‭”‬،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬أناشيد‭ ‬قبيلة‭ ‬زوني،‭ ‬مثلما‭ ‬هناك‭ ‬أماكن‭ ‬باسمه‭ ‬بتكساس‭ ‬وأريزونا،‭ ‬وتماثيل‭ ‬واحتفالات‭ ‬تستعيد‭ ‬صوته‭ ‬وخطواته‭ ‬الواثقة‭ ‬والمسالمة‭.‬

وأكد‭ ‬الدكتور‭ ‬شعيب‭ ‬حليفي‭ ‬في‭ ‬مداخلته‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ “‬الرحلة‭ ‬والتشكيل‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬ذاكرة‭ ‬أزمور‭” ‬الخاصة‭ ‬بالرحالة‭ ‬المغربي،‭ ‬أن‭ “‬سعيد‭ ‬بن‭ ‬حدو‭ ‬أو‭ ‬مصطفى‭ ‬أو‭”‬استيبانيكو‭ ‬الأزموري‭”‬،‭ ‬هو‭ “‬واحد‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬السفلي‭ ‬الناهض‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬المثقل‭ ‬بالعطب‭ ‬والمحن،‭ ‬تحول‭ ‬من‭ ‬فاقد‭ ‬للحرية‭ ‬إلى‭ ‬صانع‭ ‬لها‭ ‬وللمجد‭ ‬في‭ ‬سيرورته‭ ‬الرائعة‭”.‬

وأضاف‭ ‬حليفي،‭ ‬أن‭ ‬الأزموري،‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬أزمور،‭ ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مراكز‭ ‬الإشعاع‭ ‬الثقافي‭ ‬والتاريخي،‭ ‬رسم‭ ‬أفقا،‭ ‬ومن‭ ‬داخله‭ ‬رسم‭ ‬معبرا‭ ‬عبر‭ ‬به‭ ‬الزمن‭ ‬فوق‭ ‬مجرى‭ ‬المغامرات‭ ‬والاكتشافات‭ ‬والموت‭ ‬أيضا‭”.‬

وتحدثت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬المغربية‭ ‬والأمريكية،‭ ‬عن‭ ‬الرحلة‭ ‬الاختيارية‭ ‬أو‭ ‬القسرية،‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬منذ‭ ‬خمسة‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬أزمور‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬وشكلت‭ ‬مادة‭ ‬دسمة‭ ‬تناولتها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬والروايات‭ ‬والسينما‭.‬

وانتقد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬الذين‭ ‬تناولوا‭ ‬تاريخ‭ ‬سعيد‭ ‬بن‭ ‬حدو‭ ‬أو‭ ‬مصطفى‭ ‬الأزموري،‭ ‬بعض‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بالعنصرية،‭ ‬سيما‭ ‬كتابات‭ “‬كاسيا‭ ‬دي‭ ‬لا‭ ‬فاكا‭” ‬المعروف‭ ‬ب‭(‬رأس‭ ‬البقرة‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬رافقه‭ ‬في‭ ‬رحلته،‭ ‬ووصفه‭ ‬بالأسود،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬خمريا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬المؤرخين‭ ‬إلى‭ ‬وصفه‭ ‬بابن‭ ‬الشمس،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬بحارا‭ ‬ونالت‭ ‬منه‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس‭.‬

واختلفت‭ ‬الأبحاث‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬سيرة‭ “‬استيبانيكو‭”‬،‭ ‬وأشارت‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬غادر‭ ‬أزمور،‭ ‬طوعا‭ ‬أو‭ ‬كرها‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬عقده‭ ‬الثاني،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬قوي‭ ‬البنية،‭ ‬اكتسبها‭ ‬من‭ ‬الاشتغال‭ ‬في‭ ‬قوارب‭ ‬الصيد،‭ ‬ونفعته‭ ‬درايته‭ ‬بأمور‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية،‭ ‬سيما‭ ‬التداوي‭ ‬بالأعشاب‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬مرافقيه،‭ ‬خاصة‭ ‬بعدما‭ ‬تدخل‭ ‬وداوى‭ ‬رئيس‭ ‬قبيلة‭ ‬أثناء‭ ‬الرحلة‭ ‬الأمريكية‭.‬

وأوضح‭ ‬حليفي‭ ‬في‭ ‬محاضرته،‭ “‬أن‭ ‬نبيلا‭ ‬إسبانيا‭ ‬يدعى‭ “‬أندريس‭ ‬دورانتيس‭” ‬اشتراه‭ ‬واستقر‭ ‬بمدينة‭ “‬سلامنكا‭”‬،‭ ‬وفرض‭ ‬عليه‭ ‬اعتناق‭ ‬المسيحية‭ ‬ظاهريا،‭ ‬حفاظا‭ ‬على‭ ‬حياته،‭ ‬وتكلف‭ ‬بخدمته‭ ‬مدة‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ “‬إستيبانيكو‭”. ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ “‬نافاريس‭” ‬بغية‭ ‬اكتشاف‭ ‬العالم‭ ‬الجديد‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬الذهب،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مطلب‭ ‬الجميع‭ ‬آنذاك‭.‬


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى