فر بن علي تاركا الآلاف من أعوانه يتساقطون الواحد تلو الآخر. حاصرتهم ثورة الشعب التي امتدت إلى المؤسسات العمومية في مشهد لم نشهد له مثيلا، فالمدير العام لأكبر شركات التأمين في تونس حوصر بمكتبه من قبل الموظفين، مطالبين باعتقاله وتقديمه إلى المحاكمة لارتباطه بمنظومة الفساد. أخرج من مكتبه في «كرنفال» من الهتاف والشعارات المنادية بسقوط أذيال الفساد، وسرعان ما امتدت هذه المحاصرات لتشمل مسؤولين في مؤسسات عمومية أخرى، موظفون ينتفضون على من قمعهم وخرب مؤسساتهم سنوات طويلة. لم ينتظر الشعب أن تباشر لجنة التقصي والتحقيق في الفساد مهامها، فالناس فقدوا الثقة ولم تعد لديهم قدرة على الانتظار. باشروا محاصرة الفساد وإقصاءه بأيديهم وسط استنكار نخبة من المثقفين لهذه المظاهر، خوفا من أن تستغل الأحداث لتصفية الحسابات الضيقة وتسييس الأحداث كل حسب أجندته الخاصة، ما عزز المناداة بضرورة التحرك السريع والعاجل للحكومة المؤقتة ووضع يدها على المؤسسات المرتبطة بعائلة بن علي، حتى لا تعم فوضى المحاسبة الشعبية. لقد بلغ الوعي لدى بعض الموظفين في بنك كانت تديره زوجة أحد أركان حكم بن علي إلى تكوين فريق حراسة دائم يرابط أمام مكتبها وفريق آخر أمام أرشيف البنك، حتى لا يتلف وحتى لا تمحى منه جرائم الفساد. الكل متأهب للقضاء على الفساد والمفسدين، فقد بلغ الأمر إلى حد مطاردة المحامين داخل قاعة الجلسة لقاض ارتبط اسمه بالمحاكمات السياسية وبمنظومة الفساد، ما اضطره إلى الانسحاب وسط هتافات تدعو إلى تحرير سلك القضاء.يبدو الوضع داخل العديد من المؤسسات كانتفاضة للموظفين على الطغيان والفساد. فبعد الشارع، انتقلت الاحتجاجات إلى داخل المكاتب والمؤسسات تطالب برحيل الفساد وأذيال الدكتاتور، فغالبية الشعب لا تهتم بالسياسة بقدر ما تهتم بالحرية والقضاء على الفساد. فالكل له قصة يرويها عن نفوذ عصابة بن علي، والكل يخشى الانتكاسة وانصهار المختلسين والمنتعشين من النظام السابق وسط زحمة الأحداث دون أن يطولهم الحساب، فعمل لجنة تقصي الفساد سيكون شاقا، وقد يدوم سنوات، لأن ما ينتظرها من ملفات يفوق الخيال. فإن كتب لها أن تعمل وفق المعايير والأسس السليمة، فإنها ستكشف أشياء ومسائل لم يسمع عنها بعد، فما خفي كان أعظم، غير أن محاسبة من تعلقت بهم شبهة استغلال النفوذ وخرق القانون والاستيلاء على أموال الشعب يتطلب إصلاح المنظومة القضائية وتركيز عدالة حرة ونزيهة حتى لا تضيع حقوق الناس ويزج بهم في تصفية الحسابات. فمن الخطير أن نحاكم الفساد وننتج فسادا من نوع جديد. إسكندر الفقي: (محام تونسي)