الأزدي: التعدد الأسلوبي في رواية “الدار الكبيرة” لمحمد ديب

تشكل الكتابة الروائية عند محمد ديب ظاهرة نوعية في سياق الكتابة الروائية الجزائرية عموما، والمكتوبة باللغة الفرنسية تخصيصاً. وستسعى هذه المداخلة إلى التقاط ملامح التعدد اللغوي في رواية الدار الكبيرة بصفته خاصية نوعية في الكتابة عند الروائي التلمساني، وبصفته ترجمة للغات المجتمعية في لحظة تاريخية محددة من تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر. وضمن هذا المسعى، يوائم التنبيه على بعض التوسيمات الأولية: 1. صدرت رواية الدار الكبيرة عام 1952 بصفتها إعلاناً عن مجيء الكاتب من مجال القصيدة إلى حقل الكتابة الروائية. وقد شكل هذا الإعلان شرارة أولى في طريق ثلاثية الجزائر التي أضافت إلى رواية الدار الكبيرة روايتي الحريق ومهنة الحياكة. 2. تلتقط رواية الدار الكبيرة أحداثها وشخوصها من مدينة تلمسان عام 1939، وتحديداً من دار سبيطار الشبيهة بسجن آهل بالسكان ؛ إذ أن هذه الدار تأوي مائة وخمسين نسمة، جميعهم تحت عتبة الفقر، وحياتهم يعيشونها على إيقاع الجوع والتماس الخبز والرغيف وهو ما تشير إليه فاتحة الرواية وخاتمتها .incipits 3. تشكل دار سبيطار صورة مجهرية للمجتمع التلمساني في نهاية الثلاثينيات من القرن العشيرين بل صورة مجهرية لعموم المجتمع الجزائري في هذه الحقبة التاريخية نفسها، وتشخص الرواية الخريطة الطبقية لهذا المجتمع في الفلاحين المعدمين والعمال الزراعيين والبروليتاريا الرثة من جهة، ثم المعمرين الذين استحوذوا على أفضل الأراضي الزراعية والبورجوازيين الفرنسيين والإسبان (شخصية غونزاليس) الذين يستغلون اليد العاملة "الرخيصة" ضمن صناعات النسيج والجلد من جهة أخرى؛ ثم الملاكين العقاريين الصغار من أبناء الجزائر. ومن الموائم هنا التنبيه استباقاً إلى أن رواية الدار الكبيرة "أول" رواية جزائرية تدخل الفلاح إلى بنيتها الحكائية وتحمل صوته وتعبر عنه وتكتب انطلاقا منه وتشخص تناقضاته. وهذا موقع مشترك بين محمد ديب والكاتب العالمي ليون طولسطوي الذي أدخل صوت الموجيك (الفلاح الروسي) إلى الرواية حسب ما ذهب إليه فلاديمير لينين أثناء انشغاله بالأدب ما بين عام 1908 و 1911. 4. تنغرس الحكاية في اليومي والمعيش للإنسان التلمساني الجزائري، ومن عمق هذا اليومي تنتج شخصيات نمطية في فقرها وجوعها وبؤسها وفي وعيها بهذا البؤس ومسبباته ؛ إذ تنطلق من الإنسان الفقير في دار سبيطار بصفته علاقة مجتمعية، وتصل إلى التحريض ضد الاستغلال ونهب فائض القيمة. وتصوغ كل ذلك بأدوات كونية وعالمية هي تحديداً أدوات التكنيك الروائي. ومن ثم فبرغم خصوصية فقراء دار سبيطار وتميز الفلاحين المعدمين بتلمسان وبني بوبلان، فإن القاريء يتعرف فيهم على الصورة الشخصية النمطية لمطلق الفقراء والمعدمين. وبناء على ذلك، يمكن القول إن تميز وخصوصية العلاقة التي تنخرط فيها كتابة محمد ديب مع الواقع التلمساني – الجزائري، شكل ويُشكل مدخلها إلى الكونية والعالمية. إذ لا عالمية بدون خصوصية، ولا كونية بدون محلية. ومن ثم يجب استبعاد لغة الآخر التي كتب بها محمد ديب جل أعماله، مثلما يجب استبعاد ترجمة هذه الأعمال إلى " أكثر من عشرين لغة. صحيح أن محمد ديب كتب الدار الكبيرة بلغة فرنسية كلاسيكية، غير أن هذه اللغة تبقى هامشية بالقياس مع اللغة الفرنسية الكلاسيكية في المركز لدرجة يمكن معها الحديث عن فرنسية جزائرية ؛ تم إن هذه اللغة تستمد قوامها من ترجمتها للغات والأوعاء المجتمعية في الغرب الجزائري قبيل الحرب الإمبريالية الثانية. تحضر هذه اللغات محيّنة ومؤسلبة ومهجنة بالكيفيات التي تسمح باكتشاف منطقها الداخلي والوعي الحامل لها والقائم فيها. علاوة على أن مجموع هذه اللغات يأتي غالبا في صيغة الخطاب المنقول غير المباشر، بما ينسجم مع وضعية السارد العليم Omniscient الذي لا تنطق شخصياته إلا بما يريد أن تنطق به. 5. من منفذ هذه اللغات والأوعاء المجتمعية المتخلله لها، تتقاطع رواية الدار الكبيرة مع الوضع المجتمعي الجزائري في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، وتقدم تشخيصاً لهذا المجتمعي أو تمنحه شكلاً لا يحجُب تناقضات الوعي الذي كتاب الرواية وأنكتب فيها. 6. مثلما تتقاطع الدار الكبيرة مع اللغات المجتمعية للزمن التاريخي الذي كتبته ؛ فإنها تتقاطع كذلك مع نصوص سابقة الوجود، وبكيفية خاصة سيرة بني هلال وحياة لازاريو ده طورميس (ق 16 في إسبانيا)، ثم كتابات ليون طولسطوي على مستوى الموقع المشترك الذي سبق التنبيه عليه... في التحليل . تبدو الحكاية في رواية الدار الكبيرة بسيطة للغاية ؛ إذ أن عمر، وهو الشخصية المركزية في النص، طفل في مقتبل الشباب يعيش حياته وأيامه على إيقاع الجوع والبحث عن كسرة خبز يُتَبلُغ بها. وهذا الموضوعة تتخلل الرواية في مجموع مجالات وجودها، ابتداء من الاستهلال الافتتاحي وصولاً إلى السطور الختامية ؛ إذ نقرأ في فاتحة الرواية الجملة التالية "هات شيئا ممّا تأكل". ونقرأ في خاتمتها الفقرة الآتية : " أدرك الصبي ما يختفي وراء هذه الشتيمة من حب وحنان، فابتسم وقعد مع القاعدين أمام المائدة، وأخذ يراقب أمَّه وهي تقطع الخبز علی رکبتها". تحضر موضوعة الفقر والجوع والحرمان بكيفية لافتة في النص، بل إن الرغبة في الحصول على كسرة خبز تتبدى هوساً مستحوذاً Obsession علی جميع الشخصيات، وعلى عُمر أساساً، الذي يصل الهوس عنده إلى حدود شخصنة الجوع وأنسنته ومماثلته مع عيني الأم الحنون. وإليكم هذا المقطع الجميل : " إيه أيتها الأم الحبيبة، أيها الجوع لك مني أرق الكلمات.." كم مرّة ركع على قدمي الجوع في المساء، وقد غرقت نفسه وعيناه في تحية واسعة، بينما الجموع یبتسم له ویبتسم... ویقترب منه، ویغمره بوجوده السمح الرحیم. ثم اذا بنوم یقظ یرفق في عینیه فينام والجوع يهدهده بحركات خفيفة، خفيفة جداً ". ویشکل هذا موقعاً مشترکاً مع روایة حیاة لازاریو ده طورمیس (الطبعة الإسبانية 1940، الترجمة الفرنسية 1994) وهي نص حكائي إسباني غفل وغير ممهور أي لا يعرف مؤلفه. ويعود إلى القرن السادس عشر. ومنذ هذا التاريخ، صار نموذجاً للكتابة المتشردة أو الحكاية الشطارية. ومثلما أن عمر يعيش أيامه ولياليه في ارتباط صار حمیماً مع الفقر والجوع، فكذلك الشاب لازاريو الذي يحيا حياة الفقر، ويبذل ما وسعه الجهد والطاقة في البحث عن الخبز والطعام الذي يكفل له البقاء ويضمن له الاستمراریة ... وكما أن سرد حكاية عمر وحكايات سكان دار سبيطار يسمح بمعرفة المجتمع الجزائري نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، فكذلك سرد حكاية لازاريو يسمح بالتعرف على المجتمع الاسباني في العصر الوسيط بخصوصياته ومعاناته، وبآماله وآلامه وأحلامه. وضمن هذا الموقع المشترك بين الروايتين، لا يغالي السرد في إظهار وإبراز مناحي الفقر والبؤس والحرمان، وإنما يقترح شخصيتين مفعمتين حيوية وذاهبتين في دروب الحياة باندفاع تتحكم به الرغبة في الحرية والتحرر: التحرر من شروط البؤس والاستغلال والانعتاق من شروط الإستعمار التي فرضها الكولون الفرنسي على الشعب الجزائري، كما تشخص ذلك بكيفية خاصة حالة عمر وغيره من شخصيات الدار الكبيرة وعلى رأسها حميد سراج الناطق الرسمي – في النص– باسم الوعي الوطني التحرري والحامل لوجهة نظر السارد ممثل المؤلف وصنوه أو ضعفه Le double de l’auteur. وينضاف إلى التقاطعات السابقة موقع مشترك آخر بین الحکایتین وقوامه ما یمکن أن يُدرج تحت مصطلح القطيعة في السلسلة اللفظية بلغة يوري تينيانوف، وفي الحقل الأدبي بلغة بيير بورديو. وعنوان هذه القطيعة الاحتفاء بالجسدي Le Corporel والاقتراب منه والإمعان في وصفه ولفت الانتباه إليه عبر لغة مفعمة ليس فقط بما يدعوه السيد جيرار جنيت محسنات خطاب الحكاية. إنما كذلك بما هو معهود عند البلاغيين ونقاد الشعر من محسنات بلاغية وأسلوبية، ليست غريبة إطلاقاً عن لغة محمد ديب الذي أتى إلى حقل الكتابة الروائية من درب الممارسة الشعرية. ضمن سطور حياة لازاريو ده طورميس، يلتقط الخطاب الوصفي – في ما يلتقط – أحاسيس البطل المادية، ويستثمرها وفق ما يكفل خدمة الغرض الأساسي، أي تيمة الجوع التي تشكل الخيط الناظم لمجموع سبحات النص ؛ يتكافل الوصف والسرد، وتتكرر فيهما وتتصادى ترجيعات المحسنات الأسلوبية وتكرار الاستعارات التي لا تطلب بهدف زخرفي – تزييني، بل لتشييد صورة اللغة وبالتالي تشييد صورة الفقر الذي يلتحف في أقمطته لازاريو، والذي يبلغ منه نقي العظام ويستنزف جل طاقاته وجهوده. وينسحب الأمر نفسه على رواية الدار الكبيرة التي تمنح مكانة متميزة وجوهرية لوصف وتشخيص الأحاسيس المادية التي تبرز حياة عُمر وحياة القاطنين بدار سبيطار، لا تضارغها سوى المكانة الممنوحة لوصف الجوانب الجسدية والخارجية للشخصيات. وما قد يبدو نفلا Redondance في الوصف ( فيليب هامون) وأثراً من آثار الواقع (رولان بارط) ووهما مرجعياً (مايكل ريفاتير) يغذي موضوعة الجوع ويغنيها ويجعلها مهيمنة Dominante في السلمية الموضوعاتية للنص، والتي تتشكل مراقيها Palliers من الاستغلال الكولونيالي والحرارة والقيض والظلم والاستعباد. يتمفصل عنف الطبيعة على عنف الإنسان في تشكيل البنية الموضوعاتية لرواية الدار الكبيرة، أي البنية التي تؤثثها أغراضThèmes قائمة على حد التعارض والتناقض: الجوع/الشبع، الاستعمار/التحرر، الظلم/العدالة، السجن/الحرية، الحرارة/البرودة... وضمن هذه الأغراض الأساسية، يحضر الجوع والرغبة في نقيضه منذ فاتحة الرواية، ويشتغل بكيفية جوهرية في تحديد ملامح وهويات مجتمع الرواية في الشارع والمدرسة ودار سبيطار. ومن ثم، فإن الجوانب الجسدية الممعنة في التعبير عن شروط الفقر والجوع والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية ضمن سياق كولونيالي، يُعلن عن خيار في الكتابة مقتضاه تبئير هؤلاء الجياع ضمن أبعادهم الإنسانية الشاملة، وبما تحتويه من عواطف وأحاسيس ورغبات وحاجيات وآمال وطموحات، وتستعلن الحاجة إلى الخبز بصفتها دالة على الجوع الدال بدوره على الفقر: يعوز الخبز القاطنين بدار سبيطار، وهؤلاء لا يستطيعون إليه سبيلاً بكيفية يومية وقارة ودائمة. لا ينجلي الجوع أبداً عن سكان دار سبيطار، وإنما یتمطی بینهم ويرخي عليهم كباراً وصغاراً، شيوخاً وأطفالاً، عمالاً وفلاحین وتلامیذ، في المدرسة كما في دار سبيطار والشارع وأوراش العمل. يترافق الألم مع الجوع، وتصير الرغبة في الشبع هاجسا مؤرقاً، وتصير المأكولات المرغوبة والمشتهاة هي مدار أحاديث عمر وأختيه عويشة ومريم وزملائه في الفصل والساحة ورفاقه في الشارع.. . ولاشك أن تجربة الجوع كاوية ومؤلمة، وتهدهدها الأمهات بأساليب من المكر والخداع يتذكرها جميع من قرأ قصة عمر أبي الخطاب مع المرأة التي تتحايل على جوع أبنائها بقدر مليء بالماء والحجارة وموضوع على النار، لايأتي النضج محتوياته بقدر ما يهاجم النوم والكرى معاقد أجفان الأطفال. وهذه القصة نفسها، تستعيدها رواية الدار الكبيرة لحسابها الخاص، بعد تعديلها بما ينسجم مع مقاصدها. هكذا نقرأ في سطور الرواية: " کانت عیني، فیما مضی من زمان، تستطیع أن تهدئهم بحیلة ماكرة، كانوا يومئذ صغاراً. کان یکفي أن یکون عندها قلیل من فحم، عند المساء، حتی تمالاً الحلة ماء، وتدع الماء يغلي على النار، وتطلب إلى أولادها الذين ينتظرون بفارغ صبر، أن يهدءوا قليلاً. إنها تقول لهم من حين لآخر: اصبروا قليلاً. فكان الأولاد یزفرون زفرات إذعان و کان الوقت یمضی. - سیکون الطعام جاهزاً بعد حین. وفي ما هي تقول لهم ذلك، يغلبهم نعاس لاحيلة لهم في دفعه، . فتطبق أجفانهم بثقل كأنه ثقل الرصاص. كانوا ينامون.. ثم يغرقون في سبات عميق.. إن صبرهم لايمكن أن يدوم مدة طويلة.. نعم كانت الحلة لاتحوي إلا ماء يغلي". لا يعاني سكان دار سبيطار من الجوع فقط، وإنما يعانون كذلك الأمراض واليتم والحرارة ومداهمات الشرطة. ولاشك أن موضوعة الجوع استعملت منذ الرواية الواقعية والطبيعانية naturaliste في القرن التاسع عشر. وإذ تستعيدها رواية الدار الكبيرة، فإنها تستثمرها انطلاقاً من سياق خاص ومتميز وعبر تجنيد برنامج الكتابة الواقعية أو قيود الخطاب الواقعي وإرغاماته Les Contraintes، وضمنها الوصف المادي للشخصيات، ووضع هذه الشخصيات ضمن زمان ومكان محددين. فالزمان يتعين تحديداً في العام 1939 الذي كتبت فيه الرواية وأخذت أحداثها وشخصياتها منه ؛ أما المكان، فهو الجزائر منظوراً إليها من موقع مجهري وهو مدينة تلمسان في الغرب، مشخصة بدورها عبر مكان مجهري كذلك: دار سبيطار. وليس اختيار تلمسان اعتباطيا، وإنما هو مبرر ودال ؛ إذ هي مسقط الرأس والقلب بالنسبة لمحمد ديب، ثم إنها مدينة الجدار وجوهرة المغرب وغرناطة إفريقيا، بل بوابة إفريقيا حسب العبارة المأثورة عن هارون الرشيد في إشارة إلى الأهمية الإستراتيجية لتلمسان أو أكادير أو بورماريا أو تاقرارت حسب الأسماء التاريخية التي منحت لها. وعلى قدر عناية الكاتب بوصف وتحديد شخصياته، يعتني كذلك بوصف وتحديد المكان الذي يشكل خلفيتها ومجال أفعالها. وإليكم دار سبيطار- هذه الصورة المجهرية لتلمسان - كما يقدّمها النص : كانت دار سبيطار تشبه قصبة. رحابها الواسعة جداً تجعل من المتعذر على المرء أن يقول ما عدد السكان الذين تؤويهم على وجه الدقة. حين شق قلب المدينة، وأقيمت شوارع حديثة، حجبت العمارات الجديدة وراءها تلك المباني القديمة المبعثرة التي بلغت من تراصها أنها تؤلف قلباً واحداً: المدينة القديمة. ودار سبيطار الواقعة بين طرق ضيقة صغيرة ملتوية كأغصان النبات المتعرش، كانت لا تبدو للناظر إلا قطعة من ذلك القلب. بیت کبیر عتیق، موقوف علی سکان همهم الاکبر اختصار النفقات، واجهة ليس فيها شيء من تناسق، تطل على الشارع الضيق الصغير، وبعد الواجهة رواق المدخل وهو رواق عريض مُظلم، أخفض من الشارع، وهو ينعطف حتى يحجب النساء عن أبصار المارة. ويتصل الرواق بفناء علی الطراز القدیم في وسط برکة ماء. وفي الداخل تزیینات کبیرة علی الجدران: قیشاني أزرق ذو أرضية بيضاء، وعلی صف من أعمدة من الحجر الأسود تقوم في جهة من الفناء دهاليز ألدور الأول. دار سبيطار آهلة بالسكان مثل خلية نحل، وربما أمكن تقدير عدد سكانها في مائة وخمسين نفرا(150)، وذلك انطلاقاً من إشارة وردت في حوار بين عويشة وأمها حول العين الحسود، إذ تقول عائشة. " صحيح ياما إن الإنسان لا يستطيع أن يفعل في هذا البيت شيئاً دون أن تتجسس عليه ثلاثمائة عين". وبرغم رحابة دار سبيطار واتساعها وعلوها، فإنها في منظور غمر يا لا انعتاق منه إلا باللجوء إلى الشارع أو عبر اللجوء إلى سلوكيات متحررة نسبياً، ولا ترضي عمر بما فيه الكفاية خاصة وأن استعداداته الصافية والعنيدة تدفعه للتمرد على كل شيء : "کان عمر قد انتهى إِلیے تشبيه دار سبیطار بالسجن۔ ولکن ما حاجته إلى كل هذا الإيغال في التفكير؟ أليست الحرية قائمة في كل فعل من أفعاله؟ كان يرفض أن يتناول من يد الجيران قطعة خبز يتصدقون بها عليه، فهو حر، وكان يغني إذا شاء، ويشتم هذه المرأة التي يكرهها، إذا أراد فهو حر. وكان يقبل أن يحمل خبز تلك المرأة الأخرى إذا أحب، فهو حر". دار سبيطار/الشارع، السجن/الحرية والانطلاق، إنها موضوعة الداخل والخارج ذات الرمزية البالغة والبليغة في المخيال الثقافي الكوني، والتي تولدت عنها الكثير من النصوص والمنتجات التخييلية الروائية والشعرية والمسرحية. يتحرك مجتمع دار سبيطار ويتكلم، مثلما تتحرك وتتكلم باقي الشخصيات المنتمية لمجتمع الرواية. ومعلوم أن أفعال الشخصيات وكلامها لازمان للرواية. وعبر هذا المجتمع ومن خلاله تدور جميع اللغات وتروج داخل النص بكيفية تبدو ديمقراطية. ونقول تبدو اعتباراً لهيمنة صوت السارد المتنافذ مع صوت حميد سراج والذي يُوصف كلامه بأنه الـ "حقيقة"، واعتباراً كذلك لأن الشخصيات في معظمها لا تنطق إلا بما يريده السارد الذي يضطلع بنقل أقوالها إلى القارئ الضمني والمفترض. تسرن داخل النص لغة الاعتراف والنداء والشتيمة والبوح، واللغة الدينية أو التي يتحكم بها منطق الوعي الديني ولغة الخطابة السياسية ولغة الفلاحين والمعمرين الكولون من فرنسيين وأسبان. تنضاف هذه اللغات المجتمعية إلى النصوص سابقة الوجود، والتي يمتصها نص محمد ديب ويعدلها ويحولها وفسق ما ينسف جسم مع اللغة والوعي المهيمنين في الرواية. فعلاوة على حضور إرغامات الخطاب الواقعي للقرن التاسع عشر ، وأصداء سيرة بني هلال وحياة لازاريو ده طورميس، تتصادى داخل النصر بعض أطاريح فرانز فانون منظر الثورة الجزائرية. تقول الرواية: "إن عدداً من الرجال قد اعتُقل منذ الآن في كل مدينة من المدن. إن هؤلاء الرجال يعملون في السياسة(...) يريدون أن يتحدوا الفرنسيين، هل عندهم أسلحة؟ وهل في رؤوسهم علم؟ على رسلك! إنهم لا يملكون إلا جنونهم وفقرهم(...) أما أنا فأعرف. هؤلاء أناس حمقى أغبياء، إن ما يريدون هو أن يحلوا محل الفرنسيين، فهل یعرقون کیف یحکمون؟". ومما لا ريب فيه أن التعدّد اللغوي في رواية الدار الكبيرة يرتبط من منظور القراءة الراهنة بلعبة التناص العزيزة على قلب السيدة جوليا كريسطيفا بعد المنظر الروسي السيد ميخائيل باختين. ويعود كذلك إلى التمازج والتحابك بين النثري والشعري الذي يأتي في صورة الشاهد citation، وعلى شكل أغاني ومواويل تصدح بها مَنون المرأة الممسوسة وعتيقة المجنونة البائسة. وبرغم أن هذا الخطاب يصدر عن شخصيات مجنونة وملثاتة ومختلطة الذهن، فإن منطوقه يفصح عن قوة العقل وحيويته ويتواءم بالتالي مع منطوق الوعي السليم القائم في لغة الخطاب السياسي كما ينتجها حميد سراج، أي المنطوق الذي يصادق عليه السرد ضمن بؤرة تقييم معياريه évaluation normative مثمنة إياه على أساس أنّه ال "حقيقة". وعبر مجموع أشكال التعدد اللغوي القائم في الرواية يجد القارئ نقدا لا يرحم لمؤسسات التعليم والأسرة والقضاء، كما يجد إدانة صارخة للمؤسسة الكولونيالية ولأشكال الاستغلال والنهب التي تمارسها تجاه الثروات الوطنية الجزائرية، ولأساليب التفقير والتجويع التي تنهجها تجاه الشعب الجزائري، وكذا لأساليب المداهمة والاعتقال والتفتيش والملاحقة التي تطول المناضلين الوطنيين. وتحضر جميع أنماط النقد السابقة ضمن بؤر من النص قد ندعوها بؤر التقييم المعياري، والتي تتشكل كآثار مؤثرة effet-affect شاهدة على حضور الأدلوجة في سطور الخطاب الروائي، وذلك تضامناً بالرأي مع السيد فيليب شامون في كتابه: النص والأدلوجة (= نستعمل هنا الأدلوجة كمقابل للمصطلح الفرنسي Idéologie، عملاً بمقترح السيد عبد الله العروي في كتابه: مفهوم الأدلوجة). في نقد المؤسسة التعليمية القائمة على العنف الرمزي، يكشف الأستاذ حسن للأطفال المتمدرسين - وضمنهم عمر- وبلغة عربية أنيقة- المسافة بين الوطن الوهمي (فرنسا) والوطن الفعلي والحقيقي (الجزائر)؛ وفي نقد مؤسسة القضاء، يتكشف أن الحديث عن العدالة يمثل أقصى درجات الظلم، وأن عدالة الفرنسيين لا تعني شيئاً آخر غير تأمين مصالحهم وتأبيدها، والحفاظ على استقرارهم وطمأنينتهم على حساب الشعب الجزائري الذي يعرف جيداً كذب المدرسة والرياء والنفاق الرسمي الذي تشيعه المؤسسة القضائية. وإلى جانب نقد العنف الرمزي ولسلطة الإكراه التي تمارسها المدرسة والقضاء، ينضاف نقد العنف المادي والمباشر سواء كان داخلياً أم خارجياً، أي سواء زاولته مؤسسة الأسرة في عمليات التربية والتنشئة المجتمعية La Socialisation أم مارسته أجهزة القمع والاستخبارات البوليسية الكولونيالية في اجتياحها واجتثاتها للجزائريين الذين حملوا راية الوطن عالياً. وفي قمة هرمية أشكال التقييم المعياري، يتعرف القارئ على نقد الاستعمار الفرنسي والاستغلال الكولونيالي للإنسان والوطن. يأتي النقد هذا على لسان حميد سراج الذي يرتبط بعلاقات خاصة مع السارد، ممثل المؤلف وصنوه ومع جموع الفلاحين الجياع والمقهورين ومع عمر الطفل ذو السنوات العشر والذاهب في اتجاه المراهقة والعنفوان. ذلك أن حميد سراج يشكل حاضر عمر، في حين يمثل الأخير مستقبل حميد سراج، أي المستقبل كما يستعلن في باقي ثلاثية الجزائر وخاصة في رواية الحريق التي حملت سطورها نبوءة غرة نوفمبر 1954. وحمید سراج مرشد عمر و مثاله وقدوته، وهو الذي أهداه كتاب: الجبال والرجال. تقترب بؤرة السرد وتتنافذ مع لغة حميد سراج ورؤيته للعالم. وضمن هذه اللغة ينكتب وعي الفلاحين، أو على الأصح وعي العمال الزراعيين. ويبدو هذا الوعي في منظور بعض شخصيات الرواية على أنه شيوعي. في حين أنه لايتخطى سقف الإصلاحية الوطنية من المنظور السياسي المحض. ذلك أن الوعي السياسي الذي منه وعنه تصدر لغة حميد سراج يعي الاستغلال بكيفية ضبابية، أي أنه يعي ما تسميه الأدبيات الماركسية نهب فائض القيمة. وبدل أن يصل إلى مطلب إلغاء الاستغلال بإلغاء العمل المأجور وبالتوزيع العادل للثروات والخيرات الوطنية وبحسم التناقض المجتمعي في تراكبه وتداخله مع التناقض الوطني، يصل إلى ما يبقي على العمل المأجور وعلى الاستغلال، إذ يطالب بالرفع من الأجور وتحسين المعيشة. وهذا التناقض بين المقدمة والنتيجة يترجم تناقض أدلوجة الفلاحين. وهو ما يعني أن تناقضات اللغة السياسية في النص من تناقضات الوعي الذي ينتجهاً. وشكل الوعي هذا لا يشرح الواقع ولا يفسره وليس من سنخ الـ "حقيقة" وأصلها، ولا يسمح ب "التقدم" بخطوات قوية إلى أمام" كما تعبر الرواية. ولسنا هنا بصدد مطالبة النص الروائي بما لا يستطيع تقديمه، إذ أن الرواية عبّرت بصدق وأمانة نادرين عن مستوى الوعي الذي بلغته شرائح من المجتمع الجزائري في لحظة تاريخية محددة من تطوره وبداية انتقاله من ليل الاستعمار الطويل إلى فجر الثورة الوطنية. في سبيل الختم وكي نطوي دفة الكلام، يوائم التنبيه على أن القراءة السابقة تبقى ممكنة ضمن قراءات أخرى متعددة قد تتقاطع وتلتقي معها في جملة مواقع ؛ وتظل قبل ذلك نسبية دون ادعاء القدرة على البت في النص الروائي أو على استنفاده. وذلك ببساطة، وتضامناً مع جان دیجو Jean Déjeux، لأن محمد ديب كتب باللغة الفرنسية دون عقد أو مُركبات نقص وكتابته لا تمنح نفسها بيسر وسهولة للقارئ، بقدر ما تستلزم وتتطلب قراءات متعددة قصد بلوغ المعنى ومعرفة آليات إنتاجه، أي معرفه ما تدعوه السيدة جوليا كريسطيفا التدلال La signifiance ، وما يسميه الناقد الفرنسي بيير ماشري التشكيل La mise en forme كما في التشكيل، تتستر تناقضات الأدلوجة، وتتكشف الرواية كفضاء مفتوح تدور فيه وتروج جميع اللغات المجتمعية. وإجمالاً، فإن رواية الدار الكبيرة ترجمة للغة المؤلف وأحاسيسه ومواقفه ؛ وفي هذه الترجمة ترجمة أخرى أو ثانية للغات المجتمعية في غرب الجزائر. وهذه الترجمة صيغت في لغة الأخر الأجنبي دون أن تكون إياها، طالما أنها فرنسية جزائرية. وهذا السفر أو الرحيل بين اللغات وعلى تخومها وفيما بينها وخارج حدودها، يفسح أكثر من مجال للتفكير والتأمل. وتتضاعف مجالات التأمل حين عودة هذه الفرنسية الجزائرية إلى اللغة العربية عبر الترجمة ؛ إذ أن هذه العودة قد تلائمها قراءة نسقية ومنظمة وفق مواضعات العمل الترجمي. د.عبد الجليل بن محمد الأزدي: أستاذ جامعي

الأزدي: التعدد الأسلوبي في رواية “الدار الكبيرة” لمحمد ديب

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الحراك الشعبي في لبنان يرفع سقف المطالب

لمسهل: العشرية الثالثة بين العقد الاجتماعي والممارسة السياسية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات