نقاش هادئ حول تقييد حرية التعبير في المرجعية الدولية

عصيد يحيل على المرجعية الدولية دون أن يكلف نفسه عناء النظر في حيثياتها في مقاله المعنون بـ"إسلام حكومة البيجيدي" لا يطابق تطلعات المغاربة إلى مزيد من الحرية"، والذي نشر بجريدة "الصباح"، أثار الأستاذ عصيد بمناسبة إقدام وزارة الاتصال على منع خمس مطبوعات، كما هائلا من الانتقادات التي وجهها إلى الحركة الإسلامية التي تتولى التدبير الحكومي. سنكتفي في هذا المقال بمناقشة ما حاول تسويغه وإسناده ببعض الحجج، وسنغض الطرف عن التهم التي وجهها جزافا من غير أن يكلف نفسه عناء الاستدلال عليها.منهجيا، يمكن تصنيف الانتقادات التي وردت في مقاله إلى قسمين:-القسم الأول: يضم الانتقادات العارية من أي مؤشر يسندها، ولذلك أتت في مقاله أشبه بالكلام المرسل على عواهنه، من قبيل حديثه مثلا عن أن الأداء الحكومي يمضي في اتجاه معاكس لعناوين محاربة الفساد، وأنه لهذا الغرض تلجأ الحكومة إلى التغطية على فشلها بمظاهر التدين الشكلي.-القسم الثاني: هو ما سنحاول مناقشته علميا، لأن الحسم النظري فيه يمكن أن يكون مدخلا لنقض المنطق الذي يعتمده الأستاذ عصيد في التفكير في سؤال منع بعض المطبوعات وعلاقته بحرية التعبير أو بحقوق الإنسان المستقرة في المواثيق الدولية.يستند الأستاذ عصيد في انتقاداته على حجتين اثنتين:-1 الحجة الدستورية والحقوقية الدولية: أي أن المنع في نظره يناقض ما نص "عليه الدستور المغربي من ضرورة احترام الحريات وحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا، وباعتبارها كلا غير قابل للتجزيء".-2 الحجة المتعلقة بفهم الدين: أن ثقافة الحظر والمنع هي تجل من تجليات "نمط التدين الوهابي المتطرف" وأنها لا تعبر عن الطابع الإنساني والحضاري للدين المتسم بالانفتاح والتسامح.إجرائيا، سنركز على الحجة الأولى، لأن الحسم في المفاهيم التي أقرتها المواثيق الدولية، سيرفع النقاش المتعلق بفهم الدين، وسيحصره في نقطة واحدة تتعلق بتأويل النص الدستوري في شقه المرتبط بالحريات والحقوق، فقد اعتاد الأستاذ عصيد في مقالاته أن يحيل على المرجعية الدولية دون أن يكلف نفسه عناء النظر في حيثياتها، وما إذا كانت تتيح أفهاما أخرى غير الفهم الوثوقي الذي يحاول به إيهام القارئ بأنه فهم كوني اتفاقي لا سبيل إلى مخالفته، وأنه لا يجرؤ على مخالفته إلا الذين يحملون فهما متشددا للدين، أو تصورا ظلاميا عدميا لمفهوم حرية التعبير.النقاش العلمي على هذا المستوى، يفترض أن نعرض ما تتضمنه المواثيق الدولية بهذا الخصوص، وهل يتعلق الأمر بحرية تعبير مطلقة من أي قيود، أم أن ما المرجعية الدولية نفسها، بجميع تعابيرها، نصت على قيود يمكن أن تدخل على حرية التعبير.إن المستوى الأول من النقاش، أي الإقرار بتنصيص المرجعية الحقوقية الدولية على قيود تدخل على حرية التعبير، سيجعل النقاش مباشرة يمر من الإطار النظري، إلى نطاق الممارسة، أي من مستوى التسليم بإمكانية أن تتدخل الحكومة بقرار المنع، مع مناقشة حيثياته، وهل كان المنع منسجما مع المعايير الدولية في تقييد حرية التعبير، أم كان محكوما بالشطط في استعمال سلطة التقييد.مشكلة الأستاذ عصيد أنه مضى مباشرة إلى محاكمة سلوك الحكومة في شخص وزارة الاتصال، دون أن يكلف نفسه عناء النظر في مرجعية القرار ومستنداته، وهل له ما يبرره داخل نصوص المواثيق الدولية أم لا؟فعلى المستوى الأول، نشير إلى أن قضية تقييد الحرية لم تكن شيئا طارئا على منظومة حقوق الإنسان، بل رافقت هذه المنظومة منذ الإعلانات الأولى لحقوق الإنسان، فقد نصت المادة 11 من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الذي صدر بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 على تقييد التداول الحر للأفكار والآراء بالقانون وحسب الحالات التي يحددها، وهو ما استمر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأكده العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوروبية والاتفاقية الأمريكية، والميثاق الأفريقي، إذ تم التنصيص على أكثر من أربعة قيود يمكن لها أن تدخل على حرية التعبير، وهي:-1 احترام حق الآخرين وسمعتهم.-2 حماية الأمن القومي.-3 حماية النظام العام: يتعلق بالكيان الداخلي للمجتمع، ويعني مجموعة الأسس التي يقوم عليها كيان الجماعة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو خلقية.-4 حماية الصحة العامة.-5 الآداب العامة: مجموعة القواعد الخلقية المعيارية التي يعتبرها الناس في أمة معينة.وقد تكثفت مع بروز مواثيق دولية ذات طبيعة أممية قيود أخرى دخلت على حرية التعبير، وفرضت ضرورة عدم مخالفتها عند ممارسة حرية التعبير، وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر على سبيل المثال حظر الدعاية للحرب، وحظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية وحظر التمييز العنصري وتجريم الأفكار التي تنطلق من هذا الأساس.للأسف، لا نجد شيئا من هذا في مقال الأستاذ عصيد الذي يصر دائما أن ينسب أفكاره إلى المرجعية الدولية، بل لا نجد حتى ذكر المستندات التي بنت عليها وزارة الاتصال قرار المنع، فبالأحرى وضعها في سياق المناقشة العلمية باستخدام المعايير الدولية.أما على المستوى الثاني، وهو الذي لم يكتب فيه الأستاذ عصيد سطرا واحدا، فهو يخص المعايير التي ينبغي استحضارها في تقييد حرية التعبير، ومدى التزام الحكومة بها. فحسب ذات المرجعية الدولية الحقوقية، يمكن الحديث عن ثلاثة معايير:- معيار التنصيص القانوني: أي أن يكون القانون قد نص على هذه القيود: وهو ما ينطبق تماما على الحالة المغربية ضمن قانون الصحافة والنشر.- معيار خدمة القيد لهدف مشروع: وهو التسويغ الذي يقدمه قرار المنع والهدف الذي يؤطره.- معيار ضرورة هذا القيد في مجتمع ديمقراطي: وهو مرتبط بطبيعة المجتمع والتجربة الديمقراطية التي يتأسس عليها، كما هو مرتبط بالمعيارين السابقين، لأن التنصيص القانوني يترجم طبيعة المجتمع التي تجري فيه حرية التعبير، كما يعكس القيم المعيارية المشتركة التي عبر عنها القانون.بكلمة، لقد كان ممكنا للأستاذ عصيد، وهو يزعم الانتساب إلى المرجعية الحقوقية الدولية والدفاع عنها أن يلتزم في مناقشته قرر منع وزارة الاتصال لخمس مطبوعات أطره المرجعية، وأن يثبت للقارئ أين وقع الخلل في هذا القرار؟ هل وقع على مستوى مخالفة والمواثيق الدولية وعدم احترامها؟ أم وقع على مستوى سوء تنزيل المعايير؟ أم وقع على مستوى التأويل لمفهوم القيود التي نصت عليها المرجعية الحقوقية الدولية؟إن التجربة الدولية، وبشكل خاص تجارب المحاكم الدولية زاخرة بنماذج وأمثلة لمحاكمات وقرارات منع مشابهة، ثار بشأنها نقاش قانوني حيوي، لكنه أبدا لم يتحول إلى طريقة عصيد في الهجوم على مخالفيه ونعتهم بالتشدد والتطرف وغيرها من التهم التي لا تستند على أساس علمي.لقد أعلنت المحكمة الأوربية في قضية (أوتو بريمنجر) المتعلقة بفيلم يستهزئ بالمسيح والعشاء الأخير، الموافقة على إجراء السلطات في النمسا مصادرته لتحقيق السلام الديني والحيلولة دون شعور بعض الأفراد بالتعدي على معتقداتهم الدينية بصورة غير مبررة ومهينة، وأكدت أن ذلك لا يتعارض البتة مع حرية التعبير.نورد مثالا واحدا، مع أن الأمثلة تطرد وتترى، هذا فقط، لأن الأستاذ عصيد لم يول وجهته للنقاش النظري أولا، فلعلنا بهذا المثال، ندفعه بشكل حثيث إلى أن يعيد تركيب انتقاداته بشكل علمي، بناء على المعطيات والمستندات لا بناء على الظنون والأوهام وإرسال التهم الباطلة.إن القرار الذي اتخذته وزارة الاتصال، لمنع خمس مطبوعات، والتمييز المهني الذي قامت به في التعامل مع كل من جريدة الباييس الإسبانية وجريدة لوموند الفرنسية، والمستندات التي تم تأسيس الموقف عليها، يؤكد بأن قرار المنع لم يكن خارج المنظومة الدولية، بل كان من وحيها والتزاما بمرجعيتها. بلال التليدي

نقاش هادئ حول تقييد حرية التعبير في المرجعية الدولية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أي قانون لمستقبل الصحافة الإلكترونية بالمغرب؟

بكوري يبحث عن فريقه بالمكتب السياسي

مقالات ذات صلة