بوسكـورة … الـوردة الذابلـة

مفسدون أجهزوا على طبيعتها وحولوها إلى مشتل للسكن العشوائي عندما حل العامل الجديد إلى مقر عمالة إقليم النواصر، فتح نافذة مكتبه، فوقع بصره على حي عشوائي مقابل لمقر العمالة. أصيب بالصدمة، وأدرك أنه أمام مهمة ليست بالسهلة، فالمتورطون الذين تجرؤوا على السماح لهذا الحي بالظهور علانية أمام مقر أول سلطة بالإقليم، يحتاجون إلى إرادة حقيقية وتطبيق صارم للقانون لردعهم، حتى تعود المدينة كما في السابق «وردة بيضاء» كما لقبها المعمرون، قبل أن يغادروها بحزن كبير. تعد بوسكورة مقدمة للبيضاء وامتدادا لها، إذ كانت تابعة لعمالة الحي الحسني- عين الشق، في السابق قبل أن تستقل، بانتمائها إلى إقليم النواصر الفتي، والملاحظ أن السكان استقروا فيها بوتيرة سريعة، دون مواكبة للمنشآت الحيوية ووضع رؤية مستقبلية للمدينة، من قبل المشرفين على تسييرها.تمتد بوسكورة على مساحة 14 ألف هكتار تقريبا، يبلغ عدد سكانها، حسب إحصاء 2004، 62 ألف نسمة، إلا أن أبناء المنطقة يؤكدون أن الرقم يصل حاليا إلى أزيد من 100 ألف نسمة تقريبا، هذا التطور والنمو، جعلاها تقفز سريعا من جماعة قروية إلى جماعة حضرية، في بداية الألفية الثالثة. تضاعف عدد سكان بوسكورة بشكل مخيف، وفي زمن محدد، إذ كان عدد سكانها لا يتجاوز 10 آلاف نسمة، ساهمت في ذلك، الهجرة القروية التي شهدتها المدينة من أغلب مناطق المغرب، على رأسها مناطق، رحامنة، دكالة- عبدة وسوس، قبل أن تتحول في الأخير إلى قبلة لسكان مناطق زاكورة وورزازات، ومناطق أخرى.كما هو الأمر بالنسبة إلى البيضاء، والعديد من المدن الكبرى المغربية، استقر المهاجرون في أحياء هامشية نبتت كالفطر، وتحولت إلى مكان للأقليات، إذ صارت تحمل أسماء المناطق التي هاجر منها السكان، فمثلا نجد دواوير تحمل أسماء «دكالة» و»الشلوح» وأولاد سعيد و»الرحمانة»، ودوار «الشوك»، ودواوير «القرودة» و»الصكوع»، وأخرى تحمل أسماء بعض المنتخبين الجماعيين، زد على ذلك، مساكن سرية بنيت في مجرى وادي بوسكورة، حيث صارت حياتهم في كل لحظة في خطر بسبب فيضان الوادي. من يدفع أكثر عزا أبناء المدينة، ظهور هذه الأحياء العشوائية، إلى «مافيا العقار» و»السماسرة»، الذين حولوا أراضي فلاحية بالمنطقة إلى تجزئات سكنية سرية، دون مراعاة تصاميم التهيئة وقوانين التعمير الجاري بها العمل.أضف إلى ذلك، أن عملية بيع البقع الأرضية، تمت بطرق غير شرعية في جنح الظلام، إذ حررت عقود بيعها لدى كتاب عموميين، ولمناسبات تحمل تواريخ قديمة، والنتيجة وقوع العديد من السكان ضحايا ابتزاز «مافيا العقار»، التي تهدد بتفويتها إلى شخص آخر، عملا بقاعدة «من يدفع أكثر».يحكي عبد الله (50 سنة)، فاعل جمعوي من السكان القدامى ببوسكورة، وهو يتحسر، أن هذه الدواوير العشوائية، شوهت جمالية المدينة، وجعلتها كائنا ممسوخا، فما هي بقروية وما هي بحضرية، بعبارة أخرى، يقول الفاعل الجمعوي، تنطبق عليها عبارة محمد جسوس عالم الاجتماع، عندما تحدث عن «بدوية المجال الحضري»، أي بعبارة أخرى انتقال البادية إلى المدينة وليس العكس.حسرة عبد الله على بوسكورة تجسدت بالملموس، في هيمنة ثقافة وتقاليد البادية العميقة عليها، إذ يعاين زائرها العربات المجرورة بالدواب ورعي الماشية، والكلاب الضالة، وسوق عشوائي أسبوعي، كما اشتكى مواطنون من انتشار أوكار المشعوذين من يدعون بـ»الطب البديل».بوسكورة من عصر النهضة إلى الخراب في عهد الحقبة الاستعمارية، لقبت بوسكورة بالوردة البيضاء"، ما جعل السلطات الاستعمارية تصنفها في خانة المغرب النافع. استقر فيها معمرون استفادوا من أراض فلاحية شاسعة، وتآخوا وانسجموا مع سكان المنطقة، وكانت النتيجة مذهلة، تجمع سكاني جمع بين الرقي والحضارة. يتذكر عدد من سكان المدينة، التقتهم "الصباح"، وبحسرة العديد من المرافق والمؤسسات التي أسست في عهد الاستعمار، جعلتها تتفوق على العديد من المدن المغربية في تلك الفترة، منها المدرسة الأوربية بمركز بوسكورة، ومطاعم مصنفة، وحديقة حيوان فخمة ومحطة للقطار، ومرقص ليلي (لاص فيغاس) إضافة إلى مراحيض عمومية بأهم شوارعها، ومركز للبريد والمواصلات السلكية واللا سلكية، ومركز التوجيه والاستثمار الفلاحي والتلقيح الاصطناعي بعين الجمعة، هذا دون أن ننسى مدرسة للفنون الجملية بمركز بوسكورة.ولتأكيد صدق كلامهم، كشفوا أنه كانت بالمدينة أزيد من مليون شجرة، أغلبها شجر التوت، ما جعلها من المدن الخلابة وقتها، قبل أن تنقرض تلك الأشجار إلى الأبد، بعد أن ضربت المدينة كارثة أسموها بـ"مفسدي المدينة" وتحالفهم مع مافيا العقار العشوائي.حسرة سكان بوسكورة ليست فقط على ضياع معالم الحضارة بالمدينة في الوقت الحالي، وإنما عندما صارت مدينتهم في مراتب متخلفة مع مدن، كانت في السابق أرضا جرداء تقام فيها أسواق أسبوعية، في الوقت الذي كانت فيه بوسكورة تعج بالعمران ومركز حضاري منذ الأربعينات من القرن الماضي، من قبيل برشيد والبئر الجديد وحد السوالم، اللواتي تحولت إلى قوة عمرانية واقتصادية مهمة في عقد من الزمن. فوضى ببوسكورة هذا المجد الذي كانت تعيشه بوسكورة منذ سنوات، صار مجرد أطلال، وذكرى يرويها الأجداد لحفدتهم، بعد أن تغيرت معالم المنطقة، بعد غزو "السكن العشوائي" والمستودعات، وما صاحبه من ارتفاع قياسي لعدد سكانها من 10 آلاف إلى أزيد من 100 ألف نسمة، حسب بعض الجمعويين.هذا التغيير، يؤكد الجمعويون، تسبب في كوارث للمدينة، إذ ارتفعت نسبة البطالة، إلى أزيد من 11 في المائة بين سكان المدينة، كما شهد النظام التعليمي فوضى وتكدسا واكتظاظا في الأقسام، والحجر الدراسية، سيما مع عدم بناء مؤسسات تعليمية جديدة لسد الخصاص، إذ تتوفر المدينة على ثلاث ثانويات فقط، وأربع إعداديات، وبعض المدارس الابتدائية المتهالكة والآيلة للسقوط ،أغلبها يعود إلى الحقبة الاستعمارية، وما زالت أقسامها إلى اليوم مبلطة بمادة سامة «لاميونط»، التي أثبتت الدراسات العلمية أنها تسبب السرطان وبالتالي لها تأثير خطير على الأطفال ومردودهم الدراسي.كما يعاني تلاميذ المدينة من خصاص كبير في طاقم التدريس، إذ هناك غياب تام لمدرسين في بعض المواد الأساسية، والمثير للشفقة أن أكثر من 15 مؤسسة لا يوجد فيها مرحاض، وحتى إن وجد فهو خارج عن الخدمة.خلال جولة ببوسكورة، تبين أنها تفتقد إلى مستشفى إقليمي وأسواق بلدية، ومسرح وفضاء ألعاب للأطفال، وملاعب القرب، ومراكز التكوين، ومكتبات بلدية ودور الشباب ومساحات خضراء.غياب هذه المرافق، يتزامن مع تنبؤات تفيد أن بوسكورة ستكون بعد 15 سنة أو أكثر ثاني مدينة بعد البيضاء، بسب الانتشار العمراني الكبير، لكن يتساءل سكانها، ماذا أعد المسؤولون للوافدين الجدد من ظروف حضرية كريمة؟هذا التساؤل مرده إلى ارتفاع نسبة الأمية بالمدينة، التي تصل حسب تقارير إلى 20 في المائة، كما أن الدخل اليومي لأغلب سكانها لا يتجاوز 10 دراهم في اليوم، زد على ذلك غياب الحضور الوازن لفعاليات المجتمع المدني بالمنطقة، من أجل النهوض بالمدينة وتأطير سكانها، بعد أن تحول بعضها إلى أداة انتخابية، وحتى إن ظهرت بوادر جادة لتصحيح الوضع، تكون العراقيل الإدارية والحرمان من التمويل لها بالمرصاد لإجهاضها. المنطقة الصناعية في خبر كان رغم أن المدينة تشهد وجود العديد من المصانع، إلا أن العديد من المهتمين، كشفوا واقعا مظلما، فأغلب المصانع بنيت بشكل عشوائي، نتيجة تجارب فاشلة، أشرفت عليها نخب سياسية تولت تسيير مجلسها الجماعي، إذ أول ملاحظة، نجد بلقنة للمناطق الصناعية بالمنطقة (بوسكورة المركز، والقواسم، ورمل الهلال، ولمكانسة ، وأولاد بن عمر).يبقى الاستثمار مرحب به، يؤكد مستشار جماعي بالمعارضة، غير أنه يلاحظ أن السكان لا يستفيدون من التشغيل بسبب غياب التكوين وحتى إن وجد لا يساير متطلبات المقاولة. أغلب العمال لا ينتمون إلى المدينة، يقول المستشار نفسه، بل يأتون صباحا من مناطق بعيدة، زد على ذلك أن أغلب هذه المصانع لا تحتوي على شروط السلامة ويتم تسليم رخصها دون دراسة بيئية مسبقة، ما نتج عنه كوارث في الفلاحة والرعي بالمنطقة، وصارت تهدد صحة السكان، الذين أصيب عدد منهم بمرض (الربو). النقل... معاناة لا تنتهي بعيدا عن مصانع المدينة، يعاني السكان قلة وسائل النقل، رغم النمو الديموغرافي وانتقال وافدين جدد إلى بوسكورة.مشكل النقل سبب تعاسة كبيرة للتلاميذ والمواطنين على السواء، إذ هناك غياب تام لأسطول النقل الحضري يربط الأحياء بالمدارس والمناطق الحيوية والإدارية بالمدينة حتى يقضي السكان أغراضهم دون عراقيل.صحيح أن المدينة تشهد انتشار سيارات الأجرة من الصنف الصغير، إلا أنها من باب الاستغراب، لا تنتقل بين مختلف مناطق إقليم النواصر، رغم حملها شارة الإقليم، ويبقى مجال تنقلها محصورا، بدل أن تشمل مناطق أخرى من قبيل "دار بوعزة" و"أولاد صالح" و"أولاد عزوز"، والنواصر.وندد مواطنون في مناسبات بهذا الواقع المر، وطرقوا أبواب المسؤولين سواء على مستوى مندوبية التعليم بالإقليم، أو مصالح العمالة، أو المجلس الجماعي لبوسكورة، لكن دون جدوى.وبرر المسؤولون غياب أسطول حضري إلى رفض شركة نقل المدينة العمل على خط بوسكورة، لكنهم أغفلوا، حسب أحد الغاضبين، أن يعلنوا عن طلب عروض لجلب شركة خاصة للنقل، بدل أن يضطر تلاميذ المدينة وسكانها إلى امتطاء الدواب من أجل التنقل وقضاء حاجاتهم داخل جماعة تدعي أنها حضرية بالاسم. سرقة سوق بوسكورة من أكبر الأمور التي تغيظ سكان بوسكورة، تحويل تاريخ سوقها الأسبوعي من الثلاثاء إلى الأحد، ونقله إلى فضاء جديد، ما أفقده طابعه الخاص الذي اشتهر به لسنوات طويلة.تحول السوق إلى مرتع للنفايات، يؤكد عماد فاعل جمعوي بالمنطقة، أن مجلسها البلدي خصص مبلغا خياليا لشركة خاصة للأزبال، يصل إلى 10 ملايين درهم، وهو رقم أكثر بكثير، يؤكد الفاعل الجمعوي، من الميزانية التي خصصتها جماعة دار بوعزة المجاورة، المحددة في 200 ألف درهم، رغم أن عدد سكانها يزيد عن سكان بوسكورة. التعمير في خبر كانتفتقر المنطقة رغم توالي تصاميم التهيئة الحضرية وغيرها لرؤية شمولية وواقعية ومشخصة مسبقا ومبنية على دراسات موضوعية، يتم إعدادها من قبل مكاتب للدراسات، معترف بها متخصصة وذات مصداقية.ونتيجة لتداخل عدة مصالح، منها الوكالة الحضرية والعمالة ووزارة السكنى والجماعة، يبقى إعداد هذه التصاميم بعيدا كل البعد عن خصائص المنطقة وحاجياتها المحلية، إذ بالمدينة "تتزاوج" العمارة من أربعة طوابق مع فيلا و"براكة"، في مكان واحد، وبجانبها مستودعات عشوائية، تدر على بعض المحظوظين بالمجلس الجماعي أو مقربين منه أموالا طائلة على حساب الموظفين وسكان المنطقة، والأدهى من ذلك أن مداخيلها تبقى خارج الوعاء الضريبي.صحيح أنه تم الترخيص لمنعشين عقاريين في إطار توسيع المجال الحضري لبسكورة في إطار السكن الاجتماعي، إضافة إلى شركة العمران، لكن ذلك لم يحد من تفاقم انتشار البناء غير اللائق، وإن أصبح بوتيرة أقل، غالبا ما تكون وراءه أهداف انتخابية. عامل إقليم النواصر يهدد استفز وجود أحياء عشوائية بمحيط مقر عمالة إقليم النواصر، عامل الإقليم الجديد، فاستغل أول لقاء له مع مسؤولين محليين ومنتخبين، ليثير هذه المسألة.تحدث العامل بصرامة أنه لم يعد هناك مبرر لوجود السكن العشوائي بهذه المدينة، مادام أن الدولة اقترحت منتوجا بديلا، في إشارة إلى السكن الاقتصادي. وأضاف العامل بلغة صارمة أنه سيضرب بيد من حديد كل من سولت له نفسه أن يخالف توجهات الملك وحكومته، وكل من يسعى لإفساد جمال بوسكورة، كاشفا أنه سيفعل المواكبة الإدارية والقضائية، بما فيها الصور الفضائية من أجل محاربة "مافيا العقار" والمفسدين.حزم العامل يأتي بعد نشر تقرير للمجلس الأعلى للحسابات حول جماعة بوسكورة، تضمن مجموعة من الخروقات التي وصفت بالخطيرة، همت ميزانية المجلس وطريقة تدبير المدينة التي وصف بالارتجالية والعشوائية.من أهم النقط التي سجلها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، إهمال مسؤولي المجلس الجماعي استئناف حكم قضائي يلزمهم بأداء 800 مليون لفائدة شركة أنجزت طريق بالمنطقة، إذ قدم خارج الأجل في ظروف غامضة.هذه الفضيحة دفعت فاعلين جمعويين ومستشارين في المعارضة إلى المطالبة بفتح تحقيق قضائي في النازلة، بعد أن اتهموا جهات بالتواطؤ، من أجل تمكين الشركة من 800 مليون رغم أن الطريق المنجزة لم تنشأ حسب المواصفات والمعاير التي تم الاتفاق عليها في دفتر التحملات.إلى جانب هذه الفضيحة، وقف المجلس على تخصيص الرئيس ونوابه تعويضا شهريا لتسييره للمجلس الجماعي والتنقلات، بشكل مبالغ فيه ويتجاوز المحدد قانونا، بلغت أزيد من ستة ملاين في الشهر، كما حددوا قيمة البنزين في 600 مليون سنتيم، رغم أن عدد آليات الجماعة محدود، ما يكشف أنه يوزع على مقربين وموالين لمسؤولي المجلس. مصطفى لطفي

بوسكـورة … الـوردة الذابلـة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مابيدي يرفض العودة إلى تطوان

شغب "اليورو" ينطلق من مارسيليا

مقالات ذات صلة