الصديقي… مجذوب المسرح يودعنا

مستشارون ملكيون وفنانون من كل الأجيال في وداع "الحراز" "وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس" هاته العبارة التي استهل بها يوما الشاعر المصري أمل دنقل قصيدة له، ينطبق جزء منها على الطريقة التي سرى بها خبر وفاة الفنان الطيب الصديقي الذي غيبه الموت مساء الجمعة الماضي عن سن التاسعة والسبعين.ساعة رحيل "الطيب" كانت الشمس قد أغفت خلف الأفق، وأغلقت بريدها اليومي، لتترك لبريد النت ومختلف أجهزة التواصل الحديثة لتتناقل نبأ وفاته، ولتغزو صوره صفحات أصدقائه ومحبيه على مواقع التواصل الاجتماعي التي اتشحت بلون الحداد. وأطلت شمس السبت وقد غاب الطيب. الجثمان المسجى وقد غادرته الحياة وتوقف النبض فيه، يبارح المصحة التي تسلل إليها الموت واقتطف منها روحا لا كالأرواح، روحا أرخت بظلالها طيلة عقود على المشهد الفني بالمغرب، لتفرز تجارب وأسماء إبداعية وأعمالا تنطق وتدين بالفضل لموهبة وشخصية وصرامة الرجل. الطيب الصديقي الذي عاش مسكونا بالهم الفني والثقافي رحل عنا وفي نفسه أشياء من حتى، ولم تغادره روح الدعابة والسخرية الناطقة بالحكمة حتى في أصعب لحظات حياته.في هذا السياق يحكي الإعلامي عمر عزيز السملالي، في حديث مع "الصباح"، أنه زار الطيب الصديقي، ساعات قليلة قبل رحيله، وكان حينها الفنان الراحل قد بدأ يدخل في غيبوبة الموت ويعود إلى الصحو بين الفينة والأخرى، قبل أن تخبره زوجته أميرة بأن السملالي يرغب في رؤيته، ففتح الصديقي عينيه ورمقه بطرفيهما بضع ثوان، قبل أن يغمضهما وهو يقول بلغة فرنسية أنيقة مسجوعة "قد عشت شبابي، دعيني أعيش شيخوختي بكل ما فيها من ضعف".نقل جثمان الطيب الصديقي إلى محل سكناه الدنيوي، بشارع فاس بحي عين الشق، حيث كان الجميع في الانتظار. نوعية الحضور تعكس المكانة التي يحظى بها الراحل في نفوس أجيال من الفنانين يدينون بالفضل للرجل، جاؤوا ليلقوا النظرة الأخيرة على العراب الذي خرجوا من جبته، أو تأثروا به بشكل أو بآخر لدرجة أنه يمكن الجزم أن لا أحد اشتغل في المسرح المغربي دون أن يضع نصب عينيه تجربة الطيب الصديقي.من جيل عبد الله شقرون وعزيز موهوب والشعيبية العذرواي ونعيمة المشرقي وثريا جبران ومصطفى الزعري إلى جيل شفيق السحيمي وعبد الحق الزروالي ونور الدين بكر وأحمد السنوسي وصولا إلى منى فتو وكمال الكاظمي وآخرين لا حصر لهم، حضروا لحظة استقرار الجثمان في البيت قبل الانطلاق نحو مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالبيضاء.بالمقبرة كان عدد المنتظرين هناك، يفوق بأضعاف ما انطلق مع الموكب الجنائزي الذي عطف على مسجد "طه" بشارع المنظر العام بعين الشق، حيث صلي على جثمان الطيب الصديقي صلاة العصر.أسماء تمثل مختلف أطياف المجتمع المغربي ففضلا عن الفنانين حضر رجال الدولة ممثلين في عبد اللطيف المنوني وياسر الزناكي مستشاري الملك، وإدريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، إضافة إلى أسماء أخرى لمثقفين وكتاب وإعلاميين وأصدقاء ومحبي الطيب الصديقي، التفوا حول الجثمان لحظة إيداعه مثواه الأخير وسط دموع غزت المآقي ولم تستطع مشاعر التأثر كبح سريانها على الخدود حزنا على فقدان "مجذوب المسرح المغربي". عراب الاقتباس والتأصيل سنوات قليلة في الاشتغال على المسرح الغربي تمثيلا واقتباسا، كانت كافية بالنسبة إلى الطيب الصديقي ليدرك بحسه الإبداعي، أنه ليس في الإمكان الإبداع في هذا الجنس المسرحي أكثر من الغربيين أنفسهم. وبعد أن تمكن الصديقي من الوسائل التقنية للاشتغال المسرحي، توجه خلال السنوات الأولى من عقد الستينات، إلى النهل من التراث المغربي والعربي، معتبرا أن ما يعتبر لدى البعض أشكالا ما قبل مسرحية، مثل الحلقة والبساط والمقامات، هو المسرح عينه لدى الصديقي الذي سبق إليه المغاربة والعرب قبل أن يتبلور بشكله المعروف في الثقافة المغربية.وهنا كانت نقطة قوة وتميز الطيب الصديقي التي منحته الريادة مغربيا وعربيا، حين توجه إلى تأصيل الفعل المسرحي باستعادة أشكال تراثية تمرد من خلالها على بنية المسرح الكلاسيكي كما خبرها لسنوات درس فيها المسرح بالمغرب ثم توجه إلى فرنسا ليكمل تكوينه هناك في هذا المجال.في فرنسا التقى الصديقي بأسماء لامعة في مجال المسرح المغربي أمثال أحمد الطيب لعلج ومحمد عفيفي وخديجة جمال. ولعب أول أدواره المسرحية في مسرحية "جحا" ثم اشتغل في فرق مسرحية كمسرح "البراكة" ولعب عدة أدوار ليلتقي في ما بعد بأبرز الأسماء المسرحية الفرنسية أمثال هوبير جينيو وجان فيلار.في 1956 شارك بمسرحية "عمايل جحا" بباريس ثم أسس فرقة "المسرح العمالي" في 1957 ليقدم عدة مسرحيات من اقتباس المغربي احمد الطيب لعلج والمصري توفيق الحكيم وأخرى من اقتباس أرستو فان.وفي 1960 اقتبس مسرحية "فولبون" لبن جونسن وأسس بعد ذلك فرقة "المسرح البلدي" اشتغل فيها على عدة مسرحيات عالمية كاقتباسه من صامويل بيكيت لينتقل إلى اللحظة المفصلية في مساره الفني وهي الفترة التي اشتغل فيها على أعمال مسرحية تنبض بروح التراث منها "معركة وادي المخازن" و"سلطان الطلبة" و"ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب" و"النور والديجور" و"الغفران" و"بوكتف" و"الحراز" و"بديع الزمان الهمذاني" و"أبو حيان التوحيدي" وأبو نواس" و"الفيل والسراويل" وغيرها. وكانت له أيضاً أعمال سينمائية مثل "شريط الزفت" وشارك في أعمال عربية كفيلم "الرسالة" للمخرج مصطفى العقاد. وله اهتمامات فنية أخرى كالفن التشكيلي.

الصديقي… مجذوب المسرح يودعنا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جامعة التايكووندو تحتفي بأبطال الأولمبياد

مختصرات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات