زاوية إسحاق… عاصمة الدلائيين المغبونة

كانت دار العلماء والمتصوفة فتحولت إلى قبلة للمومسات قبل أن يهجرنها إلى أوربا على سفوح جبال الأطلس المتوسط، بين بني ملال وخنيفرة، تجسد زاوية إسحاق، "جور الزمان"، فبعد أن سحبت بساط العلم من فاس منذ تأسيس الزاوية الدلائية عام 1660، تحولت إلى عاصمة للباحثين عن اللذة، تعايشت فيها جميع مومسات المغرب واستمتع تحت سقف منازلها مغاربة من مختلف المدن، قبل أن تنتفض على هذا الوضع منذ أربع سنوات، وتستعيد هيبتها، وتنفض عنها الذل والهوان محاولة استرجاع جزء من ماضيها العريق على الأقل. إنجاز: مصطفى لطفي (موفد الصباح إلى زاوية إسحاق) زاوية إسحاق، مدينة ظلمت وهمشت تاريخيا، رغم أنها كانت مسرح أحداث تاريخية كادت أن تقلب تاريخ المغرب رأسا على عقب، فهي كانت عاصمة للزاوية الدلائية، عام 1660 ميلادية، ومنطلق عملياتها العسكرية، مكنتها من السيطرة على نصف المغرب، ودخلت في صراع سياسي وعسكري مع العلويين، الذين حسموه بشق الأنفس. تاريخ مشرف تقديرات خاطئة لزعماء الزاوية الدلائية وقتها، كانت ستجعل زاوية إسحاق، عاصمة المغرب بدل فاس والرباط، تجلى ذلك في إغفال الدلائيين أهمية التكوين العسكري لأتباعهم، والاقتصار على التربية الدينية، على نقيض العلويين، الذين أولوا للمسائل العسكرية أهمية كبرى، والنتيجة كانت كارثية بكل المقاييس. المثير في هذه الوقائع التاريخية أن السلطان العلوي مولاي رشيد استقر بالزاوية الدلائية بزاوية إسحاق لفترة من الزمن، وتتلمذ على يد كبار علمائها، وبعد أن وصل للسلطة، دمرها تدميرا، ونفى آخر السلاطين محمد أولحاج الدلائي وحاشيته إلى تلمسان، حيث فارق الحياة ودفن هناك. ما زالت بضواحي المدينة آثار صور العاصمة الدلائية والقصر السلطاني، في حين ما زالت المدينة محافظة على مسجد السلطان المنفي، والذي يحمل اسم مسجد "سيدي محند"، ومنذ ذلك التاريخ، همشت المدينة بشكل تام. في الطريق إلى زاوية إسحاق على متن حافلة، يجول بصرك بين سهول وجبال الأطلس المتوسط الفاتنة، تحاول استحضار كيف تمكن جيش المولى الرشيد القادم من فاس وقتها، من اختراق هذه التضاريس الوعرة وهو في طريقه إلى سهل "أم الرمان" البعيد عن زاوية إسحاق بأزيد من 20 كيلومترا، حيث دارت معركة فاصلة أنهت وجود الدلائيين ومقر زاويتهم للأبد. تصوف وطقوس دينية تصل الحافلة سهلا كبيرا، يفترض أنه مكان المعركة، هنا تخندق الدلائيون لصد العدوان عن زاويتهم، وبعد معركة حامية تناثرت الآلاف من جثث القتلى من الطرفين، وفي السماء حلقت مئات العقبان عاليا تنتظر الفرصة للانقضاض على الجثث. انتهى عهد الزاوية الدلائية باستسلام زعيمها "محمد أولحاج" الطاعن في السن، وتنازله عن الحكم لمولاي رشيد، فنفاه وعائلته وحاشيته إلى فاس ومن ثم إلى تلمسان بالجزائر، وبعدها أمر الجيش بتدمير الزاوية بشكل مجنون حتى لا تقوم لها قائمة، ومنذ ذلك الوقت دخلت زاوية إسحاق في سبات عميق، ولم يعد لها شيء يذكر، فتجردت من كل مظاهر التصوف والطقوس الدينية، لتعيش مرحلة "الردة" بعد أن صارت عاصمة الدعارة في الأطلس المتوسط مكرهة فترة طويلة من الزمن، قبل أن تتمرد على هذا الوضع من جديد، محاولة استرجاع ماضيها العريق. يوقظك من سفرك التاريخي، صوت مساعد الحافلة وهو ينادي "زاوية اسحاق". رغم أن المدينة ما زالت تبعد بثلاثة كيلومترات، رفض سائق الحافلة دخول المدينة، وتمسك بمواصلة الطريق نحو بني ملال، لحظتها تطوع "خطاف" لنقلنا إلى وجهتنا، وفي الطريق، بعد أن تأكد أننا غرباء. شرع يمجد الإنجازات التي شهدتها المدينة والتطور الكبير مقارنة مع السابق، كأنه يتبرأ من سنوات "الرصاص"، عندما كانت تلقب بأيقونة "الدعارة " بالأطلس المتوسط. فعلا، بدت المدينة أنها تجاوزت الوضع الكارثي الذي كانت عليه في سنوات سابقة، إذ استفادت من بنيات تحتية مهمة، على رأسها شبكة للطرق، وعند وصولنا إلى وسط المدينة، بدا تمثال حصان يتوسط نافورة، بني ذكرى للفرسان الذين أظهروا عن شجاعتهم بالمنطقة في حقب غابرة. ماضي الدعارة خلال لقاء مع ميلود، فاعل جمعوي بالمدينة، اعترف أن المدينة تخلصت بشكل تدريجي من الدعارة، بعد أن كانت قبلة للباحثين عن اللذة منذ سنوات طويلة، فحسب قوله: "قبل 2011، كان ثلثا أحياء المدينة يعجان بالمومسات، إذ تمارس الدعارة بشكل فاضح، تتجول المومسات في الشوارع أو داخل الأحياء علانية، بلباسهن غير المحتشم وبأيديهن السجائر وحتى لفافات حشيش، أحيانا يكن في حالات سكر، يعترضن سبيل المارة ويجبرنهم على مضاجعتهن مقابل مبالغ مالية، لكن هذا الوضع تغير بشكل جذري لأسباب عديدة منها الحضور الأمني". كانت المدينة عاصمة الدعارة بالأطلس إلى جانب تغسالين في سنوات الثمانينات والتسعينات، يكفي فقط الراغب في قضاء ليلة ماجنة الحضور إلى المدينة حتى تنهال عليه عروض الوسيطات وبأثمنة مغرية من أجل استقطابه. هذه الريادة كرسها أيضا، أن المدينة كانت مأوى للمومسات من كل مدن المغرب. يعلق ميلود على هذه النقطة قائلا: "بحكم غياب سرية للدرك الملكي بالمدينة، شكلت المدينة مأوى آمنا لممارسة الدعارة، والنتيجة أصبحت قبلة للمومسات من مختلف المدن والمناطق المغربية، دفعتهن ظروف خاصة لاحتراف الدعارة، إذ في منزل واحد تتعايش البيضاوية مع السوسية والصحراوية وابنة ابن جرير وقلعة السراغنة، فالمدينة أصبحت نقطة تجمع للمغاربة قاطبة سواء المومسات أو الباحثين عن اللذة". يحظى الضيف بخدمات خمسة نجوم داخل منزل الوسيطة، التي تتكلف بإحضار كل متطلبات السهرة من خمور وإعداد وجبة العشاء وحتى اقتناء المخدرات إن كان الضيف أو المومس مدمنين عليها، إلى أن يغادر في الصباح، دون أن تشعره نظرات المارة وسكان الحي بأي إحراج أو شعور بالذنب. إلا أن هذه "الضيافة" غالبا ما تعكرها ابتزازات عناصر السلطة المحلية وقتها بتواطؤ مع الوسيطات، إذ بمجرد أن تستضيف إحداهن راغبا في ممارسة الجنس، تشعر أعوان السلطة وعناصر القوات المساعدة بالأمر، فيحلون بالمنزل، وتحت التهديد بمداهمته واعتقال الجميع، يجبر "الضيف"، بإلحاح من الوسيطة، على تسديد مبلغ مالي لهم، في حدود 200 درهم. معارضة شرسة كانت أولى محاولات محاربة الدعارة بالمدينة تزعمها قائد عين بالمدينة، لكن هذه المبادرة لقيت معارضة شديدة من قبل بعض التجار، سيما الجزارين، بعد أن تراجعت مبيعاتهم اليومية، ووصلت إلى حد تنظيم مسيرة تحتج على قرار القائد حسب بعض السكان. اعترف ميلود بوجود هذه الغضبة، لكنه نفى أن يكون الأمر وصل إلى حد انتفاضة أو مسيرة، بل كل ما في الأمر حسب قوله، أن بعض الجزارين أرسلوا وسطاء لهم إلى القائد والتمسوا منه إعادة النظر في قراره. تضرر الجزارون كثيرا من الحرب على الدعارة وتراجعت أرباحهم بشكل كبير بل ومخيف، ففي الوقت الذي كانت مبيعاتهم اليومية تتجاوز 20 كيلوغراما من اللحم في اليوم، أصبحوا يسوقون كمية لا تتجاوز كيلوغرامين، لكن هذه الغضبة ستزول مع الأيام، بعدما ساهم الارتفاع الديموغرافي لسكان المدينة، والذي بلع 15 ألف، في إعادة الانتعاشة لتجارتهم. إلا أن هذه الفوضى، ستنقرض منذ 2011، بعد تدشين سرية للدرك الملكي بالمدينة، بعد أن كانت في السابق تابعة لسرية الدرك "القباب"، هذا الحضور الأمني، جعل الظاهرة في كف عفريت، سيما بعد أن شنت العناصر الدركية مداهمات لأوكار الدعارة، ما أجبر المومسات والوسيطات على مغادرة المدينة والبحث عن فضاء آمن جديد.

زاوية إسحاق… عاصمة الدلائيين المغبونة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

لمجرد باق في السجن بعد جلسة شهدت عراكا

الأسد يخفي أسلحة كيماوية بسوريا

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات