مبادرة ملكية تعيد ترتيب الموقع والدور المغربي في إفريقيا الأطلسية بقلم: ذ. كمال الهشومي (*) في هذا الموضوع لسنا بصدد تأمل مبادرة تقنية أو تصور وظيفي للتعاون الإقليمي، بل نحن إزاء مشروع دولة ذات سيادة، تمتلك الإرادة السياسية لإعادة تشكيل محيطها، وصياغة معادلات القوة والنفوذ في فضاء إستراتيجي شديد التعقيد ألا وهو الساحل الأطلسي. وبالتالي فإننا نناقش مبادرة تُعيد ترتيب الموقع والدور المغربي في إفريقيا الأطلسية، من الهامش المعزول إلى قلب الفعل الجيوسياسي، ومن "الهشاشة المستوردة" إلى "المناعة المنتجة"، إنها لحظة هندسة إستراتيجية نادرة، لا يمكن قراءتها إلا بعيون تتجاوز الظرفي نحو البنيوي، والانفعالي نحو التركيبي. ويمكن تقديم هذه المبادرة الملكية من خلال أربعة محاور أساسية: أولا: المبادرة باعتبارها فعلا سياديا لإعادة تموضع الساحل إن المبادرة الملكية لا تُصنف ضمن مشاريع التنمية العابرة، بل تندرج ضمن الهندسة الجيوسياسية الجديدة للقارة الإفريقية. فهي تروم تحرير دول الساحل من عزلتها البنيوية ومأزقها الجغرافي، عبر فتح منفذها الطبيعي نحو الأطلسي، في سياق يتسم بتصاعد التنافس العالمي على الممرات البحرية والمعابر الجيو- اقتصادية الحيوية. وبهذا الأفق، تمثل المبادرة: إستراتيجية ربط جيواقتصادي وجيوسياسي بين المغرب والساحل الإفريقي. تفكيكا للارتباط العمودي الكولونيالي بشمال المتوسط. بناء لشبكات أفقية متكاملة داخل الفضاء الأطلسي الإفريقي. وعليه فإن هذه المبادرة تمثل فعلا سياديا لإعادة كتابة الجغرافيا السياسية من الجنوب نحو الجنوب، أو كما يمكن تسميتها باختصار "تملك الفضاء الأطلسي الافريقي". ثانياً: من منطق الأمن التقليدي إلى هندسة المناعة الجيوسياسية تنتقل المبادرة من المقاربات الكلاسيكية التي ربطت الاستقرار بالأمن العسكري، إلى مقاربة استباقية بنيوية، قوامها "هندسة المناعة الجيوسياسية، وهنا يمكن أن نشير الى ثلاث لبنات مركزية تؤطر هذه الرؤية: التنمية الاقتصادية عبر فتح منفذ أطلسي للتكامل التجاري والاندماج في الاقتصاد العالمي. التجديد الروحي والثقافي بمرجعية إمارة المؤمنين، كضامن للتماسك الديني والإنساني. أمن وقائي لا يكتفي بردع التهديدات، بل يعمل على استباق شروطها البنيوية. هكذا، تسعى المبادرة إلى تحويل ما يوصف عادة بالهشاشة البنيوية إلى الهشاشة المنتجة للتنمية، أي من هشاشة مفرغة إلى هشاشة منتِجة. ثالثا: استشراف التحولات الكبرى في الخريطة الإقليمية والقارية ليست المبادرة فقط استجابة لواقع متغير، بل هي أداة لإعادة تشكيل هذا الواقع، عبر تحولات عميقة من خلال تفكيك منطق الارتباط الأحادي الصلب مع القوى التقليدية، وصعود محور مغربي- ساحلي - أطلسي فاعلا جديدا في موازين القوى الإفريقية، وتحول الأطلسي الإفريقي إلى فضاء صاعد في سوق الطاقة والمعادن والمبادلات الجيو- إستراتيجية، ثم في الأخير بروز المغرب فاعلا استراتيجيا وسيطا بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية عبر الأطلسي. بهذا المعنى، تغادر المبادرة منطق "الدولة الممر" إلى منطق "الدولة المصممة"، التي تضع هندسة النفوذ مع شركائها بأياديهم لا بأيادي غيرهم. رابعا: بين التحديات الصلبة والفرص الكبرى في هذا الجانب يمكن أن نشير الى التحديات المرتبطة بـ: هشاشة المؤسسات في بعض دول الساحل أمام الانقلابات وانتشار المليشيات. تصاعد الحضور الصيني والروسي والتركي في المنطقة. غياب بنى تحتية كافية لتحقيق الربط البحري واللوجستي. هذه التحديات التي يمكن أن تحول إلى فرص سانحة للتطبيق ورفع التحدي من خلال الإرادة القوية المعبر عنها من خلال هذه المبادرة الضخمة وذلك عن طريق العمل على: بناء مجال أطلسي إفريقي مشترك على أساس التعاون لا الهيمنة. تحويل العمق الإفريقي إلى شريك إستراتيجي في الأمن والتنمية. ترسيخ نموذج القيادة الهادئة المغربية في فضاء إقليمي متحرك. من موقع المتلقي إلى المهندس كخلاصة عامة يمكن النظر الى المبادرة الملكية باعتبارها مشروعا مبتكرا لا يعيد فقط تشكيل الممرات والطرق الاقتصادية، بل يعيد صياغة ممرات القرار الجيوسياسي، كما يؤسس لظهور مجال ثالث خارج استقطاب الشرق والغرب بتقوية الهوية والشراكة الإفريقية الإفريقية، ويبرز المغرب فيها فاعلا جيوإستراتيجيا يخطط ويصوغ ولا يستهلك، ويقود ولا يقاد. إنه انتقال من موقع "المتلقي" إلى موقع "المهندس". وعليه ليست المبادرة الملكية الأطلسية مجرد رؤية تنموية، بل رسالة سيادية إستراتيجية، تقول للعالم إن المغرب لا يلهث خلف النفوذ، بل يصوغ نماذج مستقلة للحضور، وإن مغرب المستقبل، هو مغرب الأطلسي، ومغرب الأطلسي هو قاطرة إفريقيا الصاعدة. (*) أستاذ العلوم السياسية كلية الحقوق أكدال جامعة محمد الخامس - الرباط