طقوس روحانية بالواحة الإيمانية بأولاد بوزيري

شارك فيها 1200 "فقيه" وتمتزج فيها تلاوة القرآن بالمزايدة على بركة "الطلبة" بقدر ما تفرق بينهم حدود جماعاتها الترابية، والتجاذبات السياسية لنخبها وأعيانها، تنجح «الواحة الإيمانية» لقبائل أولاد بوزيري بإقليم سطات في تجميع ما يظل عصيا على التجميع طيلة السنة، وتؤثث الجلابيب البيضاء، والسبحات ورائحة العود والبخور، فضاء يتم إعلانه منطقة معزولة من الأحقاد والصراعات إلى اليوم الموالي. ورغم محاولات برلمانيين ورؤساء جماعات خرق الهدنة عبر تمرير رسائل الكرم والتي غالبا ما تكون أغلفة مالية دسمة «للطلبة» مقابل «فاتحة لهم ول «قبيلتهم» ، فإن «للمقدمين»، أسيادا «للواحة» ومتحكمين في تفاصيل تنظيمها، منطقهم الخاص، الذي يعتمد تجميع ما يمكن تجميعه. أرض "الشرفا" تستعد..على بعد حوالي 30 كيلومترا جنوب سطات، توجد جماعة خميس سيدي امحمد برحال، إحدى أهم مناطق قبيلة أولاد بوزيري، ويعتبر سوقها الأسبوعي «الخميس» مزارا رئيسيا لكل القبائل المجاورة. المنطقة فلاحية بامتياز ما يجعل ملامح أهلها تتماهى مع طبيعة السنة الفلاحية، فالجفاف يرسم كل صور الشقاء والبؤس عليهم، فيما أمطار الخير تصنع من وجنات أهلها أخاديد تنساب بالود والحبور. بجانب الطريق الوطنية المؤدية إلى مراكش، ومنذ الساعات الأولى من صبيحة الأحد الماضي، حركة غير عادية تشهدها الساحة التي تخصص في العادة للسوق الأسبوعي وتحتضن موسم «التبوريدة» السنوي، لا تنقطع حركة سيارات الأجرة و»الخطافة» وسيارات نقل البضائع، والتي تقل فقهاء وشيوخا وأئمة من مختلف مساجد وكتاتيب إقليم سطات. وشيئا فشيئا يتحول المكان إلى تجمع بشري هائل لحملة كتاب الله. فيما تتواصل بحماس الترتيبات على قدم وساق لاستقبال حشود هائلة من المواطنين من الذين ينتظرون الحدث بشوق، ولا يرغبون في تفويت فرصة التبرك ب»الطلبة» وسماع القراءة الجماعية لحملة كتاب الله. جذور تاريخية وروحيةيحتل موسم حفظة كتاب الله، أو ما يعرف لدى عموم سكان منطقة أولاد بوزيري بسطات بـ «الدور»، مكانة خاصة بين سائر الأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية.فهو موسم يضرب بجذوره في تاريخ الشاوية، حسب رواية أهل المنطقة، إذ يتجاوز عمره القرن، ويعود سبب تنظيمه إلى انحباس المطر، ما اضطر أولاد بوزيري وأولاد سيدي بن داوود إلى الاجتماع في سوق الاثنين بأولاد بوزيري، حيث ينادي البرّاح باجتماع الطلبة للتوجه إلى أولاد سعيد، وبالضبط إلى اكدانة (جماعة تابعة لقيادة أولاد سعيد) من أجل ذكر الله والاستسقاء، إضافة إلى إكرام حفظة كتاب الله تعالى، ثم تنطلق بعد ذلك عملية تبادل الزيارات بين الجماعات المكونة للنسيج القبلي للغاية ذاتها.وخلال السبع سنوات الأخيرة، اتخذ هذا الموسم شكله الحالي، حيث أصبحت قبيلة أولاد بوزيري تتولى مهمة تنظيمه بمشاركة القبائل المجاورة، ويجتمع فيه حفظة كتاب الله تعالى لتلاوة القرآن الكريم وختم «السلكات» القرآنية.وقد أضحى الموسم تقليدا سنويا ومحجا لسكان المنطقة وللعديد من الفاعلين من مختلف جهات المملكة، للإنصات لأهل القرآن الذين يختمون عدة «سلكات» طلبا للغيث ودعاء لله بحفظ مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس وكافة أسرته العلوية الشريفة، ولهذا الوطن بدوام نعمة الأمن والطمأنينة.ذبائح وولائم التحضير للواحة الإيمانية لا يرتبط بالنسبة للمنظمين بتهيء الخيام الكبيرة والزرابي فقط، بل إن «الذبيحة» التي يتكفل بها «المقدمون» تدخل في صميم الإعداد، فيتم ذبح عجول سمينة تيمنا للمناسبة، وطبخها وإعدادها لحوالي 6000 زائر متوقع لزيارة الواحة. سكان القبيلة بدورهم لا يفوتون فرصة التبرك بهذا الحدث الذي تحتضنه قبيلتهم. بالنسبة إلى «الحاج محمد» وهو فلاح بسيط يعيل عائلة متكونة من 11 فردا ويسكن بأحد الدواوير المتاخمة لجماعة سيدي برحال، فإن شرف تهيء «مخفية كسكس» وتقديمها «للطلبة» ولضيوفهم لا يضاهيه شرف، بل هو عادة أصيلة ورثها من أجداده تقول بضرورة الاعتناء ب»الطلبة» ومحاولة نيل رضاهم و»دعاويهم». ما إن يتم رفع أذان صلاة الظهر حتى تتقاطر أطباق الكسكس على الخيام بكل الأشكال والأنواع، ويتكفل بعض الأهالي بتقديم الألبان ويتم استقدام شاحنات محملة بها لهذا الغرض، تضاف إلى الطبق الرئيسي المشكل من لحوم العجول التي تم ذبحها لهذا الغرض."الفاتحة" مزاد الوجهاء في ركن قصي من الخيام التي تم نصبها لهذه المناسبة تتخذ مجموعة من «الطلبة» مكانا لهما جلوسا، فيما يحمل شخصان يبدوان من الاحترام الذي يلقياه من الجميع بأنهما «مقدمان» مكبر صوت، ويرددان بصوت جهوري أدعية خاصة ويرتلان آيات من الذكر الحكيم وسط خشوع تام من مرافقيهم من الطلبة. يتقدم إلى مكانهما بشكل متوال أعيان المنطقة وبرلمانيوها ومنتخبوها، بأظرفة صفراء تحمل رزما مالية، لتقديمها للطلبة من أجل «الفاتحة»، فيتجاوب «المقدمان» مع المبادرة و يكيلان كل أشكال المديح والشكر ويتوجهان بالدعاء لصاحب «الزيارة أو الفاتحة» بالصحة والنصر والتوفيق ... دون إغفال القبيلة التي ينتسب إليها بالدعاء. يسر إلينا أحد «الطلبة» بأن المبالغ التي يقدمها الأعيان داخل الأظرفة غالبا ما تتراوح قيمتها بين 2000 درهم و15 ألفا. وغالبا ما تكون القيمة المرتفعة «للزيارة» مصدر تباه وتفاخر داخل مختلف فخذات القبيلة، إذ يكفي أن يقدم الشخص الفلاني رقما كبيرا ليجعل أبناء عمومته وقبيلته يحسون بالفخر لأنهم أكرموا جيدا «الطلبة» ونالوا عطفهم ورضاهم. عموم الحاضرين يترقبون أدوارهم لسماع «فاتحة» لهم ولأهلهم وذويهم، فيتزاحمون لاتخاذ مكان بجانب «المقدم» ويناولونه أوراقا مالية تختلف قيمتها حسب مقدرتهم المادية ويستسلمون لراحة نفسية وهم يحملون أيديهم في اتجاه السماء مرددين كلمة «آمين» تجاوبا مع سيل الأدعية التي يرددها «المقدم» وزملاؤه.هشام الأزهري (سطات) "مزايدة" حول بركة "الطلبة" يتلقى «الطلبة» العديد من الأعطيات العينية مشكلة من تمور وحلويات وفواكه جافة وزيوت وفي بعض الأحيان خراف، فيتم وضعها داخل حلقة مصغرة وسط خيمة «الفاتحة»، ومباشرة بعد صلاة العصر يفتتح «المقدمان» مزادا حول هذه الأعطيات تحت مسمى «بركة الطلبة». يلوح «المقدم» بكيس حلويات لا يتعدى ثمنه بالسوق 13 درهما، فتبدأ أصابع الحاضرين باقتراح أثمنة لاقتناء الحلوى/ البركة، شيئا فشيئا يقفز الثمن إلى 200 درهم وسط مباركة الحضور و»الفقها» على حد سواء، ويبدو الشخص الذي رسا عليه البيع في غاية السعادة والتأثر لأنه اقتنى بركة «الطلبة». الأمر نفسه بالنسبة إلى قنينة تحتوي على حوالي لتر ونصف من زيت الزيتون ، قدمها «المقدم» بأنها «سيرو لأمراض البرد» وأردف بالدعاء لمن سيقتنيها بأن لا يدخل الطبيب بيته، فانطلقت المزايدات حولها ليستقر سعرها في 250 درهما. شاة صغيرة شكلت محور اهتمام العديد من الفلاحين، انطلق المزاد حولها من 300 درهم، وبعد صراع المزايدة رست في مبلغ 1300 درهم، اخترق الشخص الذي رست عليه المزايدة الجموع واحتضن «الشاة» بفرحة غامرة، وفي طريق عودته بادرناه بالسؤال حول مصدر سعادته بشاة دفع ثمنها مضاعفا ثلاث مرات، رمقنا بنظرة استغراب وأفلت من لسانه كلمات سريعة « أنا كا نشري «البركة» ماشي الحولية، او هاذي ما تباع ما تدبح هاذي غا نطلقها وسط القطيع ديالي تبرك بها». قطع علينا مرافقنا حبل التفكير في المنطق الذي انطلق منه صاحبنا بالتعبير على أن 1300 درهم مبلغ جد زهيد في مثل هذه الحالة، وبأن السنة الماضية مثلا عرفت بيع 5 شياه صغيرة ب5000 درهم للواحدة. قبل مغادرة خيام الواحة الإيمانية لأولاد بوزيري مساء كانت حركة مجموعة من الطلبة من الذين اختاروا الانتظار في الخارج تزداد في التسارع في اتجاه احدى الخيام من أجل الوقوف على حجم «فاتحة» اليوم، فيما انخرطت نسوة في البحث عن «مخفياتهم» التي جلبن فيها «كسكس» الغذاء، وبدأت الحشود بالتفرق وعلامات الارتياح بادية على وجوههم بعد يوم طويل من سماع ذكر الله ودعوات «الطلبة».

طقوس روحانية بالواحة الإيمانية بأولاد بوزيري

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصديقي والإدريسي ضيفا "نجوم الأولى"

دعاة التصحيح ليسوا أعضاء في الحركة الشعبية

مقالات ذات صلة