توالت الإصلاحات دون التمكن من سد كل الثغرات أمام المفسدين عجزت كل الحكومات المتعاقبة بمختلف تشكيلاتها وتلويناتها السياسية في التصدي إلى الفساد الذي يطبع الصفقات العمومية. توالت المشاريع الإصلاحية، لكن المفسدين يتمكنون في كل مرحلة من إيجاد النقائص والثغرات التي تشكو منها النصوص القانونية والمساطر التي تنظم هذا المجال. تعود أول محاولة للإصلاح إلى 1965، عندما صدر مرسوم يروم تنظيم مساطر تفويت الصفقات العمومية وطرق تدبيرها، إذ حاول تجميع كل النصوص المتفرقة واعتمد مبدأ المناقصة لاختيار الفائز بالصفقة، إذ كان معيار الاختيار يستند إلى السعر، وكان المتقدم بأدنى سعر يفوز بالصفقة، ما فتح الباب أمام مجموعة من الممارسات غير الشفافة ساهمت في تكريس الفساد، ليتم إلغاؤه، خلال 1998، وتعويضه بمرسوم عدد 482-98-2، الذي أسس لمعيار آخر لاختيار الحائز على الصفقة، من خلال اعتماد مبدأ العرض الأفضل، لكنه سرعان ما أبان عن عدد من النقائص، ليتم إصدار مرسوم 388-06-2، في 2007، الذي اعتبره عدد من المراقبين خطوة هامة في مسار تكريس الشفافية في طرف تدبير صفقات الدولة، غير أنه مع سنوات من التطبيق عرف انتقادات عديدة، خاصة بعد أن تناسلت الفضائح في المشاريع الذي فوتت في إطاره. وتعالت الأصوات المنادية بالإصلاح من كل جانب، إذ أجمع الكل أن المرسوم يتضمن مجموعة من الاختلالات والثغرات التي تشجع على التلاعب بالصفقات. لكن ظل الوضع قائما، رغم كل ملفات الفساد التي تم الكشف عنها وما يزال المسؤولون عنها إما وراء القضبان أو يتابعون في حالة سراح إلى الآن. وأمام ضغط المؤسسات الدولية، خاصة البنك الدولي، والأحداث التي عرفتها العديد من بلدان المنطقة والاحتجاجات المطالبة بالإصلاحات ومحاربة الفساد، اعتمد المغرب العديد من الإصلاحات الهيكلية بدءا من الإصلاح الدستوري، الذي جاء بدستور جديد كان منطلقا للعديد من الإصلاحات. وكان من الضروري مراجعة النصوص المؤطرة للصفقات العمومية، التي تعتبر إحدى مواطن الفساد. وجاء مرسوم 5 مارس 2013 متضمنا مجموعة من التدابير التي حاولت معالجة عدد من الاختلالات التي كانت تعانيها النصوص القانونية السابقة. وسعى المرسوم الجديد إلى إرساء قواعد جديدة في تدبير الصفقات العمومية، من خلال تدعيم الحكامة الجديدة وتدعيم وضمان الشفافية والمنافسة النزيهة. من أهم محاور إصلاح 2013 تدعيم وحدة الأنظمة المؤطرة للصفقات العمومية سواء بالنسبة إلى الدولة أو المؤسسات العمومية أو الجماعات الترابية وصفقات أعمال الهندسة المعمارية، وذلك من أجل تبسيط وتنميط مسار الاقتناء العمومي بالنسبة إلى جميع المؤسسات والإدارات العمومية. وفي هذا الإطار تم تبسيط الملف الإداري للمتنافسين بإدراج مقتضى ينص على أن الشهادة الجبائية وشهادة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والسجل التجاري لا تطلب إلا من المتنافس الذي قدم العرض الأكثر أفضلية والمزمع إبرام الصفقة معه، كما حدد المرسوم الجديد تركيبة اللجان المكلفة بتقييم العروض حسب طرق إبرام الصفقات وحسب الخصوصيات المرتبطة بصفقات الدولة أو المؤسسات العمومية أو الجماعات الترابية ومجموعاتها. ونص المرسوم الجديد على ضرورة توضيح طرق تحديد العرض الأكثر أفضلية حسب طبيعة الأعمال المعنية من أشغال وتوريدات وخدمات. وتضمن المرسوم، أيضا، إجراءات لفائدة المقاولة الصغرى والمتوسطة، إذ ألزم صاحب المشروع بتخصيص %20 من المبلغ التوقعي للصفقات التي يزعم الإعلان عن طلبات بشأنها برسم كل سنة مالية لفائدة المقاولة الصغرى والمتوسطة، ومنح الإمكانية للجهة صاحبة المشروع بتحصيص الصفقة عندما يكون من شأن هذا التحصيص أن يسمح للمقاولة الصغرى والمتوسطة بولوج الطلبية العمومية. وأكد المرسوم، في إطار دعم آليات الشفافية والنزاهة، على منع وجود تعارض المصالح في مجال الصفقات العمومية، سواء على مستوى أعضاء لجان طلب العروض أو بالنسبة إلى المتعهدين الذين يجب عليهم أن يوضحوا ضمن التصريح بالشرف أنهم لا يوجدون في وضعية تعارض المصالح. كما نص على نشر المبلغ التقديري للصفقة المعد من قبل صاحب المشروع في إعلان طلب المنافسة.ومن أهم المستجدات المتضمنة في النص التشريعي الجديد إدخال أجل للانتظار في ميدان المصادقة على الصفقات، الذي حدد في خمسة عشر يوما، لا ﻳﻤكن خلاله للسلطة المختصة المصادقة على الصفقات، وذلك بهدف إتاحة الإمكانية للمتنافسين من أجل تقديم طعونهم الإدارية تطبيقا للمعايير الدولية الجاري بها العمل في هذا المجال، وتقديم طعونهم و شكاياتهم أمام لجنة الصفقات بشكل مباشر ودون اللجوء إلى صاحب المشروع أو إلى الوزير المعني. وحدد المرسوم أجلا أقصاه ثلاثين يوما للرد على شكايات المتنافسين من قبل الوزير المعني أو وزير الداخلية أو رئيس الجهاز التداولي للمؤسسة العمومية حسب الحالات، كما ألزم السلطات الإدارية التي وضعت لديها الشكايات ﺑﻤسك سجل لتتبع مآلها.لكن رغم أن النص القانوني الجديد أعد وفق المقاربة التشاركية وجاء ملبيا لمطالب المهتمين بهذا الموضوع ويواكب التطلعات، فإن مشكل التأويل ما يزال مطروحا، ما يترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام شطط الإدارة في تأويل مقتضياته. عبد الواحد كنفاوي