بنايات مهجورة بالبيضاء…غرف الموت

تنتشر وسط الشوارع والأحياء الراقية ويستغلها المتشردون وأطفال الشوارع فنادق للمبيت ولقضاء "مآرب أخرى" تحسس متشردو الدار البيضاء رؤوسهم، بعد الانهيار الجزئي الجديد لما تبقى من أسوار وأعمدة مهترئة لفندق "لينكولن" المطل على شارع محمد الخامس. وفي لحظة، استوطنت كوابيس الموت والدمار وإزهاق الأرواح الواجهات المهترئة لأغلب البنيات المهجورة التي تنتشر مثل الوباء القاتل في عدد من الأحياء والأزقة والشوارع الكبرى، ويتخذها جيش من الأطفال واللصوص وبائعات الهوى الرخيص، إقامات "دائمة" لهم يهجعون إليها عبر الثقوب والمنافذ السرية كلما أرخى الليل سدوله. "الصباح" تلقي نظرة على بعض هذه الخرب التي لا يعرف عددها على وجه التحديد، بعضها يعود إلى فترة الثورة الهندسية في عهد الحماية الفرنسية، وبعضا عبارة عن مشاريع "مهيكلة؟ توقف البناء بها إلى حين، وجزء منها عبارة عن فنادق صغيرة ومساكن وفيلات هجرها سكانها، والجزء الآخر، يعلو الأحياء الصناعية القديمة بعين السبع والحي المحمدي والصخور السوداء، في شكل وحدات صناعية "منتهية الصلاحية" تنتظر معاول الهدم لتصير عقاراتها شققا فاخرة تسيل اللعاب. إنجاز يوسف الساكت تصوير: عبد اللطيف مفيق بخفة النشالين المحترفين، يجرد المراهق ذو السابعة عشرة سنة، الرجل الإفريقي من هاتفه المحمول الذي كان يغرسه في أذنه منهمكا في حديث متوتر، ثم يطلق ساقيه للريح وسط السيارات والدراجات النارية، وعيناه على البناية المهجورة والمظلمة الموجودة أمام مطاعم السمك بمنطقة "البزارات" بالمدينة القديمة.لم يكن الرجل الإفريقي وصديقه ذو القامة الفارهة من "العاكزين"، حين أطلقا بدورهما سيقانهما للريح متعقبين "اللص الصغير"، واخترقا خلفه ظلمة البناية المهجورة، حيث قبضا عليه مختبئا خلف ركام من المتلاشيات ومواد البناء غير المستعملة. "جابها في راسو" مد أحدهم يده إلى جيب اللص "الظريف" لسحب الهاتف المحمول، قبل أن يتفرغا الاثنان إلى إخضاع "المسكين" إلى حفلة سلخ و"بوطيات" بكل ما أوتيا من عضلات وقوة، وكيفما اتفق، ولم ينقذه منهما سوى مواطنين وحراس سيارات طلبوا منهما الكف عن ضربه، والاتصال بالأمن بدل ذلك.عاد الرجلان إلى الوراء، وانسحب المواطنون أيضا إلى مشاغلهم، تاركين خلفهم جسدا نحيلا مسجى على الأرض، يلعق صاحبه رضوضا وكدمات حولت وجهه إلى خليط من ألوان قزحية. وبصعوبة، استطاع أن يقف على رجليه، ويختبئ في ظلام البناية التي تفوح منها رائحة كريهة، لفرط التبول والتغوط في زواياها.في الواجهة، مازال مسير المطعم المتخصص في السمك، يندب حظه التعيس لوجود محله أمام خربة تحولت إلى ملتقى لكل المصائب، بعد أن حولها عدد من المتشردين واللصوص والباحثين عن لحظات جنسية هاربة، وأطفال الشوارع إلى مسكن دائم لهم، في وقت تذهب صيحات واحتجاجات السكان وأصحاب المحلات والمقاهي المجاورة أدراج الريح، ولم ينفع سيل الرسائل والشكايات التي توصلت بها السلطات المحلية في إيجاد حل لبناية تحمل كل جينات الخطورة.هذا "الفندق" المجاني الطافح بالمياه النتنة، ليس وحده ما يقلق راحة السكان والشركات والمحلات التجارية المجاورة لشارع الجيش الملكي، ومحور "البازارات" والمدينة القديمة، بل جزء من العمارات المطلة على محطة الدار البيضاء الميناء التي عمدت السلطات المحلية إلى طلاء واجهاتها وإخفائها ببعض اللوائح الإشهارية، أثناء الزيارة الملكية الأخيرة لتدشين هذه المحطة. مرحبا بكم في "مرحبا" بعض العمارات التي تعود إلى الفترة الاستعمارية والمتنازع حول ملكيتها تحولت طوابقها وشققها إلى أوكار قارة للمتشردين وذوي السوابق والأشخاص بدون مآو، وأطفال الشوارع التي يعرفون كيف يصلون إلى شققها ومكاتبها المهجورة من ثقوب وأبواب وسلالم ومداخل خاصة بخرائط معروفة لديهم، رغم الحراسة المشددة عليها من قبل حراس الأمن الخواص، وحراس السيارات.بشارع الجيش الملكي، ينتصب فندق "مرحبا" الذي لم يكتب له أن يفتتح أبوابه بعد ويعود بالزمن الجميل ساعات إلى الوراء، رغم المحاولات التي قامت بها المؤسسة المكلفة به منذ سنوات، إذ يعود مشروع تجديده إلى 1992 بقيمة استثمارية تبلغ 45 مليار سنتيم.ويبدو أن التأخير الذي يعرفه مشروع إعادة هيكلية واحدة من أعرق الوحدات الفندقية التاريخية الكبرى بالعاصمة الاقتصادية، يصب في مصلحة المتربصين به من المتشردين واللصوص والهاربين من العدالة والهاربات من بيوتهن الذي نجحوا في اختراق بعض أجنحته واتخاذها مآو قارة لهم، رغم "مظاهر" الحراسة والسياجات الحديدية المضروبة عليه.وتعود ملكية فندق "مرحبا" ذي الـ15 طابقا، لمجموعة سعودية للسياحية كانت قد اشترته من مستثمر مغربي يدعى "جيف أوحنا"، بعد ما اشترت المجموعة أيضا "فندق مرحبا" بمدينة الجديدة الشاطئية.وترجع أسباب تعثر مشروع إصلاح فندق "مرحبا"، إلى خلاف بين مجموعة "غدير للفنادق" ومكتب للهندسة بالبيضاء والذي يطالب بمبلغ 1.4 مليون دولار أمريكي تعويضات للتخلي عن نقض العقد الجامع بين الطرفين، إلا أن الشركة السعودية رفضت الأمر ليحتكم الطرفان المتنازعان إلى القضاء لتظل القضية عالقة بأروقة محاكم البيضاء سنوات طويلة. في عمق المثلث الذهبي وليس صعبا أن تعثر على هذا النوع من البنايات وسط المدينة وفي عمق أحيائها الراقية، كما هو الشأن بالنسبة إلى الفيلات المنتشرة على امتداد شارع أنفا، خصوصا الفيلا المتاخمة لفندق "الكندرا"، ثم البناية المهجورة في زاوية شارع مولاي يوسف التي كان أحد الانتحاريين، سنة 2007، لجأ إليها بعد مشاركته في تنفيذه عملية قرب المركز الثقافي الأمريكي. وهنا أيضا الفيلا الملاصقة بمقهى "سيكافريدو" بالشارع نفسه، التي لا تخلو من خطورة، رغم العناية الظاهرة عليها.نغادر قليلا شارع أنفا، ونعرج على شارع روماندي، وبالضبط في زاوية شارع المسيرة، أمام مقر الكوميسارية، حيث تنصب في الزاوية بناية فيلا مهترئة مغطاة بأشجار ونباتات طفيلية، تتنازع الروايات ملكيتها وأصل مشاكلها، بالنظر إلى موقعها الإستراتيجي في شارع ينتمي إلى المربع الذهبي بمقاطعة المعاريف.هذه الفيلا أيضا تنتهك في واضحة النهار من قبل المتشردين و"الشماكرية" وذوي السوابق الذين صنعوا منها "مسكنا فاخرا" لهم. وكثيرا ما تعالى ضجيجهم وشجاراتهم واخترقت أصوات نزواتهم الشاذة نوافذ الشقق المجاورة بالزقاق الخلفي. سرقة ودعارة وأشياء أخرى هذه البنايات المهجورة لا تكمن خطورتها فقط في وضعها البنيوي المهترئ الآيل للسقوط، في أي لحظة، فوق رؤوس المختبئين فيها، بل تحولها إلى قواعد خلفية للإجرام وتكوين العصابات، ووكر للممارسات الجنسية غير الشرعية والشاذة، حيث توفر الأسقف والغرف والزوايا غير المكتملة مخابئ "مؤمنة" لهذا النوع من الممارسات في ساعات محددة من اليوم، خصوصا أثناء الليل.في يونيو الماضي، كشف فريق أمني بالدار البيضاء الحجاب عن إحدى الفيلات المهجورة بعمالة الفداء مرس السلطان، تحولت إلى قاعدة خلفية لعصابة متخصصة في سرقة السيارات والهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية، ضمن عناصرها فتاتين، أنجبتا في الفيلا نفسها، طفلين، مــن علاقة جنسية غير شرعية.وتمكنت الشرطة القضائية العاملة بمنطقة أمن الفداء مرس السلطان، من إيقاف ثمانية أشخاص من بينهم قاصر يبلغ من العمر 15 سنة وفتاتان.وبسيدي مومن، الجميع يتذكر قصة الطفل الذي استدرجه بعض الأشخاص إلى بناية مهجورة غير مكتملة البناء من أجل اغتصابه، قبل أن ينجح الأخير في الإفلات منهم ورمي نفسه من علو شاهق، كاد يفقد حياته جراءه، لولا الألطاف الإلهية.وقد أعاد هذا الحادث المأساوي دق ناقوس الخطر حول هذا النوع من البنايات، سواء التي تعود ملكيتها إلى الدولة، أو الخواص، أو البنايات التراثية والتاريخية، التي تحولت إلى نقاط سوداء في مجموع تراب الدار البيضاء، وعنصرا من عناصر تشويه صورة المعمار في أكبر مدن المغرب. 4000 بناية تراثية تحتاج إلى الحماية يتربص ثلاثي الهدم والإهمال والمضاربات العقارية بالتراث المعماري بالبيضاء. فـ"شقق هذه البنايات العتيقة غالبا ما يقيم فيها أشخاص يدفعون إيجارات زهيدة جدا تتراوح بين 500 درهم وألف، يقول مسؤول بجمعية ذاكرة الدار البيضاء في تصريحات سابقة لوكالة "فرانس بريس"، مؤكدا أن هؤلاء المستأجرين ومعهم المالكين لا يقومون بأعمال الصيانة لهذه الأبنية التي تتدهور يوما بعد آخر. ويتطلب الأمر لإخلاء شقة من هذا النوع دفع مبلغ قد يصل إلى 500 ألف درهم.وقال إن بعض المقاولين والمضاربين العقاريين يستغلون غياب سياسة لصيانة التراث، إما لهدم بنايات قديمة من أجل تعويضها بمبان جديدة أكثر ارتفاعا وربحية، أو بإضافة طوابق جديدة فوق الطوابق القديمة على حساب الوحدة والجمالية الهندسية.ومن الأمثلة على التهديد الذي يلحق بالتراث المعماري للمدينة، حسب ممثل الجمعية، فندق "لينكولن"، التحفة المعمارية التي صممها سنة 1916 المهندس الفرنسي "هوبير بريد"، إذ صدر قرار بإغلاقها سنة 1989، ليتحول عشرون عاما بعد ذلك إلى خراب، مخلفا صدمة في نفوس السكان، ويوضح أن الجمعية حددت 4 آلاف بناية قديمة تحتاج حماية. الخرب... قنابل موقوتة رسمت دارسة أعدها قسم التعمير بالدار البيضاء خارطة البنايات الآيلة للسقوط، مستعينا بالإحصائيات المرتبطة بالمعاينات التي تقع لهذه الدور، أو التي تقوم بها اللجان المختصة، وكذا شكايات الملاكين والقاطنين. وكشفت الدراسة أن سكان هذه الدور يحطم الرقم القياسي للكثافة السكانية، حيث يتراوح ما بين 200 و2000 نسمة/الهكتار. وكشفت هذه الدراسة المنجزة تحت عنوان "إشكاليات الدور المتلاشية والمتداعية للسقوط بمدينة الدار البيضاء" أن عدد هذه الدور يصل إلى 2870 بناية تضم حوالي 72 ألف أسرة، منها 1874بمنطقة درب السلطان/الفداء بنسبة 65 في المائة و905 بعمالات مقاطعات الدار البيضاء آنفا بنسبة 32 في المائة، و91 بناية بعمالات مقاطعات عين السبع الحي المحمدي بنسبة 3 في المائة. وتشكل الدور الآيلة للسقوط بالدار البيضاء، حسب الوثيقة نفسها، حوالي 36 في المائة من السكن غير اللائق، أما السكن غير القانوني فيمثل 40 في المائة (حوالي 80 ألف أسرة) ثم أحياء الصفيح 48 ألف أسرة بنسبة 24 في المائة.وتشير الإحصائيات إلى أن القرارات الصادرة بخصوص الدور الآيلة للسقوط المصادق عليها، أو في طور المصادقة يصل إلى 551 بناية بمنطقة مرس السلطان و42 بناية في منطقة الفداء، فيما تحتاج 828 بناية بالمنطقتين معا إلى الترميم. وتوجد 10 أحياء (7 بمقاطعة مرس السلطان و3 بمقاطعة الفداء) ضمن الأحياء التي بها بنايات متلاشية وتضم حوالي 38 ألف أسرة. وأشارت الإحصائيات بالدراسة المذكورة إلى أن عدد قرارات الدور الآيلة للسقوط بعمالة مقاطعات الدار البيضاء آنفا، وصل إلى 492 بناية منها 480 بناية في سيدي بليوط، و3 في آنفا و9 بمنطقة درب غلف بالمعاريف، فيما تحتاج 151 بناية إلى الترميم أو التقوية.أما بعمالة مقاطعات عين السبع/الحي المحمدي، فيصل عدد الأسر المهددة بخطر انهيار منازلها إلى 3745 أسرة (17200 نسمة) وتتوزع هذه الأسر على 91 بناية، منها 66 بناية بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي، و13 بالصخور السوداء، و12 أخرى بمقاطعة عين السبع.ي.س

بنايات مهجورة بالبيضاء…غرف الموت

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تغيير زجاج النظارات كل عامين ضروري

مختصرات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات