بخارى تتنفس صحيح إمامها

ليس هناك أفضل من اكتشاف ثقافات وحضارات ومعالم تنفرد بها بلدان على حساب أخرى، مثل أوزبكستان، لؤلؤة آسيا الوسطى. فبعد طشقند أكثر المدن جذبا للسياح في آسيا، باعتبارها ملتقى الحضارات، وثراء الفنون والثقافة والتاريخ العريق والمعالم السياحية الرائعة، نطلعكم هذه المرة على إحدى عجائب الثقافة والعلوم ومبعث نشر تعاليم الدين الإسلامي. إنها بخارى العاصمة الدينية والروحية في أوزبكستان، لسببين، الأول لأنها مولد أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الشهير بالإمام البخاري، كما أنجبت علماء أجلاء مثل الطبيب والفيلسوف الإسلامي الحسين بن عبد الله بن سينا، أحد أعظم رواد الفكر الإنساني في التاريخ، إضافة إلى علماء آخرين برزوا في شتى المجالات. أما السبب الثاني، فيتجلى في معالم هذه المدينة الدينية، ومدارسها العتيقة وأسوارها، وهي أيضا محاطة بالمساجد والمآذن والقباب الفيروزية المنقوشة بالآيات القرآنية. تتعدد آراء المؤرخين حول دلالة كلمة بوخارى، إذ يعتبرونها مشتقة من "بخار" عند المغول التتار حين غزوها قديما، وتعني العلم الكثير. الطريق إلى بوخارى يبدو أن الطريق من طشقند الى بوخارى (670 كيلومترا) لم تعد شاقة وصعبة، كما كانت عليه قبل قرون، لتعدد وسائل النقل المتاحة، فما عليك إلا أن تختار أي توقيت تشاء للتوجه إليها عبر رحلة جوية مباشرة لمدة ساعة ونصف فقط، أو السفر عبر القطار، في رحلة قد تستغرق 10 ساعات، فيما خيار التنقل عبر الحافلة يحتاج إلى 12 ساعة تقريبا، لكن جودة البنيات التحتية الطرقية تجعل من السفر إليها ممتعا، وأنت تعاين حجم المعالم التاريخية المتوفرة في هذا البلد الآسيوي، ومستوى التطور الذي بلغه في ظرف وجيز، أي منذ حصول أوزبكستان على استقلالها عن روسيا في 1992. ولأن بخارى، أو المدينة الفاضلة تقع على المجرى الأدنى لنهر زرفشان، وتعد خامس مدن أوزبكستان، إذ يبلغ عدد سكانها أزيد من 300 ألف نسمة، فهي تشكل منطقة جذب بامتياز، بالنظر إلى موقعها الإستراتيجي على طريق الحرير، واشتهرت بأنها مركز تجاري على مر العصور، ومحج للدراسة والثقافة وعلوم الدين، بدليل كثرة العلماء والأطباء والمشايخ الذين تفتقت عبقريتهم في مختلف المجالات، بعد الفتح الإسلامي في بخارى. لا يغلق بابها أمام الطلاب شكلت بخارى، أو الأيقونة النبيلة، كما يناديها سكانها، منارة العلم وقبلة العلماء التي لا يغلق بابها أمام الطلاب من مختلف بقاع العالم، خصوصا الباحثين في علوم الحديث والطب ومجالات أخرى، لهذا خلد اسمها في سجلات العلم عبر التاريخ والحضارة. وتعد مدرسة مير العرب، الواقعة قبالة مسجد كالون، إحدى أبرز المدارس التعليمية في بخارى، إذ بنيت في القرن السادس عشر، وتتكون من طابقين يشملان 114 حجرة، فيما يستعمل الطابق الثاني للمبيت. ووفقا لبيانات رسمية، فإن هذه المدرسة الوحيدة في بخارى التي تستمر الأنشطة التعليمية فيها منذ خمسة قرون دون انقطاع، بما في ذلك الاحتلال السوفياتي لأوزبكستان. ولا يقتصر طلب العلم على مير العرب فحسب، بقدر ما هناك مدارس أخرى لها مكانة ورمزية خاصة، على غرار خان آقا، المصنفة ضمن المباني المهمة في مركز لب حوض، وكانت تحتضن الطلبة المتصوفة، وذوي الدخل المحدود، ومسجدا وغرفا خاصة بالطلاب، الذين يتلقون العلوم الدينية. أما مدرسة كوكلداش، فتعتبر أكبر مدرسة في بخارى، إذ تتألف من طابقين ب160 حجرة، إضافة إلى مدارس أخرى مثل خليف نيازكول (جهار منار) ومدرسة المآذن الأربع. المدينة القديمة تراث عالمي ما إن تقم بجولة وسط المدينة القديمة، أو مجمع "لب حوض" وسط بخارى، إلا وتثير انتباهك هندستها المعمارية التي مازالت شاهدة إثبات على عظمة علمائها وحضارتها العريقة، تسحرك بجودة تنظيمها ونظافتها وبناياتها المرصعة بالنقوش، كما لو تتجول داخل أستوديو لتصوير الأفلام السينمائية، وسط القباب الفيروزية المنقوشة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة، والمدارس العتيقة والمساجد والمآذن الرائعة، وعجائب من الفن المعماري الفارسي والتركي. إنها المعالم المتفردة التي أدرجتها في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي العالمي في 1996. ولا يمكن لأي سائح أن يأتي إلى بخارى، دون أن يتخذ من المدينة القديمة، وتحديدا مجمع "لب حوض"، متنفسا ترفيهيا، فهو يشكل منطقة جذب غير مسبوقة، إذ يعد من البرك الاصطناعية القليلة الموجودة في المدينة القديمة (1620 ميلادية) ليكون حوضا اصطناعيا لتخزين الماء، فمساحته تقدر ب42 مترا طولا و36 عرضا، وعمق بخمسة أمتار، وهو محاط بحديقة تاريخية تصنف ضمن الأجمل في أوزبكستان. وحسب استطلاعات المؤرخين، فإن بخارى تضم أكثر من 140 أثرا معماريا متنوعا، من أبرزها قبة السامانيين، والبوابة الجنوبية لأحد مساجد بخارى، التي جمعت كل الفنون الزخرفية، والعديد من المساجد ذات تصاميم فريدة ومصنفة المتاحف المعمارية، مثل “نمازكاه” ومئذنة “كليان” المزينة بالطوب المزخرف بمهارة عالية، ومسجد “بلند” الذي يتميز برواق خارجي به أعمدة خشبية تحمل سقفا خشبيا. كما يحيط بالمدينة الفاضلة سور عظيم، بمثابة حائط صد في مواجهة الرمال الصحراوية، وتنتشر على جنباته 11 بوابة. وإضافة إلى ذلك، تتميز بعمرانها العصري وعماراتها الشامخة والملاعب الرياضية والمراكز التجارية الكبرى. باختصار لقد جمعت بين الدين والدنيا. قدسية منزل البخاري الحديث عن بخارى، أو المنارة الفاضلة يجرك بالضرورة إلى الوقوف، إجلالا لعظماء علمائها الأفاضل محمد بن عمر الخوارزمي الشهير بـ”الزمخشري» والطبيب الفيلسوف الحسين عبد الله بن سينا، والإمام البخاري أشهر العلماء والفقهاء والمحدثين، الذين ملؤوا الدنيا علما وتقوى، وصاحب الجامع الصحيح، لهذا استحق أن يكون المرجع الأهم، والأكثر مصداقية لدى المسلمين الى الآن. ورغم الآلاف من السنين على وفاة الإمام البخاري (869 ميلادية)، إلا أن المكان الذي نشأ وترعرع فيه يحظى برمزية وقدسية لدى الأوزبك، وسكان بخارى تحديدا، فمنزل أشهر علماء الحديث مازال يحتفظ بأسراره إلى الأبد، إذ اندثر كليا وتحول إلى فضاء آثري، بعدما استعمل ترابه في بناء مسجد خوجة زين الدين، قبل 500 سنة، تبركا وتيمنا بأشهر الأولياء الصالحين. يقول مرشد سياحي ل"الصباح" "هذا المسجد بني من تراب من منزل الإمام البخاري باعتباره ترابا مباركا، فالمسلمون يتبركون بآثار الصالحين". والملفت للانتباه أن المسجد، الذي يبدو قديما ومتهالكا، مازال صامدا بأعمدته وسقوفه الخشبية، التي تظهر عليها بعض الشقوق، دون أن يشكل ذلك خطرا على المصلين، أو ينزعجون لحاله، عملا بمنطق «ما بني من تراب منزل الإمام البخاري سيصمد إلى الأبد، مهما كانت قساوة الزمن". لم يجرؤ أحد على ترميم مسجد خوجة زين الدين، تبركا بالصالحين الإمام البخاري، وخوجة ترك، أو خوجة زين الدين، فبقي على شكله القديم بجدرانه المتهالكة المرصعة بالزليج وسقوفه المزخرفة وقدسية فضائه، توحي كما لو أن مصليه يتنفسون صحيح الإمام البخاري. السياح يستمتعون بالموسيقى هناك من يستمتع بأجواء وهدوء مدينة بخارى، رغم طابعها الروحاني، ويضفون طابعا فرجويا على بعض فضاءاتها، خصوصا في "لبي هاوس" أشهر مطاعم المدينة القديمة، حيث يجتمع السياح الأجانب، وما أكثرهم، أغلبهم من روسيا، والهند والصين والطاجيك، وقليل من أوربا، للاستمتاع بالموسيقى والرقص إلى أوقات متأخرة، وهم يرقصون على نغمات أغان محلية وتركية وغربية. عليك فقط دفع 50 ألف سوم (80 درهما)، مقابل الأغنية التي تريد سماعها. الجميع في هذا الفضاء المطلق سواسية، ويمكن أن ترقص مع من تشاء، لكن باحترام تام لتقاليد البلد، والأعراف المسموح بها في بخارى، تلك المدينة الفاضلة، التي اجتمعت فيها علوم الدين والحديث والثقافة والفكر والأدب والفنون الجميلة من موسيقى ورقص وأغان طربية. إنجاز: عيسى الكامحي وتصوير: (أحمد جرفي وعبد الحق خليفة) (موفدو "الصباح" إلى أوزبكستان)

بخارى تتنفس صحيح إمامها

أنجبت علماء الدين والحديث والفلاسفة ومنزل البخاري يحتفظ بأسراره

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

خطوط مغربية حمراء في الصحراء

مكري يطرح "عمي"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات