البريسم يحلل بنية المفارقة في “الفروسية”

صدر حديثا للناقد واللساني العراقي قاسم البريسم كتاب بعنوان "نص الحداثة.. بنية المفارقة في الشعر المعاصر" عن منشورات "سليكي أخوين" بالمغرب. الكتاب يشكل امتدادا لمشروع البريسم في تعقب مفهوم "المفارقة" في الشعر، وتطبيقه على مجموعة من النماذج الشعرية. في هذا الخاص تتوقف "الصباح" عند الفصل الذي خص فيه الناقد العراقي التجربة الشعرية للشاعر المغربي أحمد المجاطي (1936 ـ 1995) من خلال ديوان "الفروسية" بالتحليل. إعداد: عزيز المجدوب تعرّفت على الدكتور والناقد قاسم البريسم خريف 2009. كانت الصدفة وراء اللقاء، حين جاءني صوته عبر الهاتف الثابت ليومية "الصباح"، وهو يقدم نفسه ناقدا وكاتبا عراقيا مقيما بين لندن والدار البيضاء، ويود أن يتعرف على صحافي بالقسم الثقافي للجريدة. كانت لكنته البصراوية (نسبة إلى البصرة) واضحة ونبرة صوته الجهورية، وهو يضغط على الحروف وينطق الجيم معطّشة، تشي بعنايته بمخارج الألفاظ وأثر الصوت في النفس والأذن، وهو الدكتور في علم الأصوات النطقي والفيزيائي التي درسها بشكل أكاديمي بجامعة "اكستر" ببريطانيا ثم درّسها في جامعات أخرى بالعراق والأردن وتونس والمغرب. تبادلنا أرقام الهواتف المحمولة، والتقينا بعد أيام بإحدى مقاهي شارع "أنفا"، قبل ننتقل بعد ساعات من النقاش الطويل في مجالات مختلفة، إلى شقته الموجودة على بعد أمتار من المقهى بالشارع نفسه، ومنذ ذلك الحين نشأت بيننا علاقة صداقة طويلة وممتدة إلى يومنا هذا. خلال السنوات الأولى لتعارفنا كان قاسم البريسم يود التعرف على الثقافة والأدب المغربيين، خاصة الشعر، وكانت تحذوه الرغبة في أن يطبق منهج النقد الصوتي كما درسه أكاديميا، على بعض النماذج الشعرية المغربية، كما فعل في تجارب سابقة مع شعراء آخرين من العراق وغيرها، سيما في مؤلفاته ودراساته المبكرة. كنت أزوّد البريسم ببعض الدواوين الشعرية، وأوجّهه لاكتشاف أخرى، كما كان يكتشف بنفسه أصواتا شعرية، فضلا عن تعرفه على شعراء مغاربة في مناسبات ثقافية مختلفة، كما استضاف كثيرين منهم في بيته، مما مكّنه من الاطلاع على جانب مهمّ من الرصيد الشعري المعاصر للمغاربة ويعنى بدراستها وتحليلها. وفي إحدى الجلسات وضعت بين يديه ديوان "الفروسية" للشاعر الراحل أحمد المجاطي، رغبة مني في أن أتقاسم معه المتعة التي كانت تخلّفها نصوص هذا الشاعر في نفسي، ولم أكن أتوقع أن تصعق قصائده البريسم منذ الوهلة الأولى، إذ كان يتلو أمامي القصائد جهرا ويتلذذ بجرسها الموسيقي وإيقاعها الداخلي، وهو يصيح بإعجاب "يا إلهي من هذا الشاعر؟" قبل أن يستطرد قائلا "هذا أعظم شاعر مغربي قرأت له... ويستحق أن يكون أول تجربة شعرية مغربية أطبق عليها منهج النقد الصوتي في انتظار الباقي". وهكذا بعد سنوات ظهر كتاب "نص الحداثة.. بنية المفارقة في الشعر المعاصر" والذي خص فيه قاسم البريسم الشاعر أحمد المجاطي بفصل وظف فيه مفهوم المفارقة في تحليل ونقد نماذج من الشعر المعاصر. سحر المعاني والدهشة تناول الباحث قاسم البريسم ديوان "الفروسية" بالدراسة إذ اعتبر أن قصائده تتمحور "حول مرتكزات دلالية لا تخرج عن استشراف مصير الإنسان العربي، الحضاري والوجودي، واستنطاق ما يواجهه من انتكاسات نفسية، ومصادرة لحريته، واستلاب لطاقته وتعطيل ارادته في الحياة. فهي تجسد لهيب ثورة ووجع مزمن، تتنهد في النفوس على مجد آفل، وتراث لم يبق منه سوى سيف مكسور وعمامة منكسة. يستنطق المجاطي في قصائده إنسانه المغيب، ويغور في عالمه، باحثاً عن ماضيه المشرق، وحسرته على حاضره المبتل بالهزيمة والانكسار والتخلف العلمي". ولاحظ البريسم أن البناء اللغوي لقصائد الديوان، يتصف بالاختزال اللفظي والكثافة الدلالية، حيث يختزل فيها المجاطي الدلالات ووميض المعاني المجسدة للهم الإنساني، والتراث المستباح، في نسيج شعري مرهف، خالي من التعقيد، الذي يقطر فيه الشاعر ذرات المعاني، ويوظف أقصى حدود الكثافة اللغوية البسيطة الممتنعة عن الحذف والزيادة الشعريين. فلا يفيض البناء اللغوي الشعري، وتهطل أورامه بتقريرية نثرية باردة، خارج فضاء الدلالات الباعثة لها، ولا تنكمش الدلالات في زوايا البناء، تبحث عن بناء لغوي يحملها. ويرى الباحث العراقي أن "القصيدة عند المجاطي تبدأ وتنتهي عند خطوط اللغة الحمر داخل النص. إذ يموت وهجها إذا تقدمت، وتفقد سحرها ووهجها إذا تأخرت. يحس القارئ، أنها تواً ابتدأت، وهنا انتهت. وهناك يقيم المجاطي عالم شعره وحدود لغته الشعرية البسيطة الممتنعة، ويقتل فيها كل أشكال البذخ اللغوي الشعري، وبين هذين الحدين المرهفين، الدلالي- اللفظي، يهرب لنا المجاطي سحر المعاني الإنسانية ودهشتها". ليس في قصائد المجاطي صخب لغوي، وتشكيل صوتي عالي النبرة، كما وجدنا ذلك عند الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، الذي يعتمد عليه في شحن الدلالات بطاقة مضافة، بل يعتمد المجاطي على اللمحة الدلالية المهربة بالتشكيل اللغوي الشفاف، الذي يأتيك هدير أصواته من بعيد، ويثير إحساسك، ويشيع الانبهار والدهشة في روحك. غابة مكتظة بالرموز والدلالات يشبّه البريسم قصائد المجاطي "بغابة كثيفة مجهولة، مكتظة بالدلالات والرموز، ومحاطة بأسوار التشكيل اللغوي الشفيف والجرس الصوتي الدفين، الذي يأتيك متدفقاً بهدوء، ومشحوناً بسحر الدلالة المفتوحة على فضاء التأويل. تغويك قصيدته بسهولة، وتشعر في لحظة أنك امتلكتها واستطعت فك أبواب مجهولها، ووصلت إلى دلالات رموزها الغائرة في وجداننا الجمعي، وتراثنا المشرق، لكن سرعان ما تفتح لك سحراً آخر أجمل من سابقه، يبهرك ضوؤه، ويسحرك عالمه، وتركض بحثاً عنه، لأنه يتناغم مع تطلعات وجودنا الإنساني ويستنطق معاناتنا، ويهز عواطفنا ويثير سخطنا واحتجاجنا ضد الفاسد والمشوه في الحياة". ويرى أن تجربة المجاطي الشعرية، ليست وصفا لقشرة الحياة، وتسجيلا لمظاهر حياة الإنسان الخارجية فيها، فقصائده لا تكتفي في وصف رومانسية إنسانه وترف حياته وزيفها، وعذاباته ومعاناته الخارجية، بل هي استبطان للجوهر الإنساني، وانشغال بهمومه الكبرى ومصير وجوده كقيمة عليا، وهي بالمجمل بحث عن التناقض، وكشف له في حياتنا. خصائص أسلوبية يعتمد المجاطي في بناء أغلب قصائده، يقول البريسم، على ضمير الأنا فهو الرائي لمشاكل إنسانه، كما في قصيدة "السقوط"، لكن قد يُشرك المخاطب (العاقل وغير العاقل) ويأخذه معه بحثاً عن مصير إنسانه، وعن عشبة الحل لانبعاث أمته من جديد، كما في قصيدة "كبوة الريح". المجاطي يرى الأشياء ويستبطنها ويستنطقها. ومهما تعددت أشكال الوصف والاستبطان، فانه يسعى إلى اشاعة المعرفة عند القارئ، وإظهار الحقيقة المستورة، وتنبيه الناس لها، من أجل تعميق الوعي. ويضيف صاحب كتاب "منهج النقد الصوتي في تحليل الخطاب الشعري" أن قصائد ديوان "الفروسية" تبنى في الغالب على بنية المفارقة، بين قطبي التضاد أو التوازي السلبي، كما استخدمه ياكبسون وريفاتير في نقدهما لقصيدة القطط لبودلير، الذي يتحكم بمسارها الدلالي ومفاصلها التركيبية. نجد ذلك واضحاً، مثلاً، في قصيدة "السقوط" حيث الموت والحياة، العقم والولادة، الماء والجفاف، النور والليل، الدنس والطهارة، والضياع والحضور وغيرها. والمتأمل في قصائد المجاطي، يتابع الناقد العراقي، يجد أنه لا يمكن قراءتها دون البحث عن مرجعياتها الخارجية. فهناك رحلة دلالية عكسية بين النص والخارج، أو بعبارة أخرى، يمكن وصف نص المجاطي بأنه سياق صغير، للسياق الكبير الذي ولد في رحمه النص، واستقى منه مرجعياته الدلالية، إذا استخدمنا مصطلحات العالم اللغوي مالينوفسكي في نظريته "سياق الحال"، التي طورها اللغوي الإنكليزي، جون فيرث، الذي يعد القصيدة فيها، سياقا مصغرا للسياق الكبير، الذي سماه سياق الثقافة أو سياق الحياة، وهي المسألة التي سبق أن طبقها البريسم في الكثير من قصائد السياب ومحمود البريكان وعبد الوهاب البياتي، تلك التي تنبع مرجعياتها الدلالية من الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي. نماذج التحليل يتوقف البريسم عند قصيدتين من ديوان "الفروسية" أولاها "كبوة الريح" التي جاء في مطلعها: "على المحيط يستريح الثلج/ والسكوت/ تسمّر الموج على الرمال/ والريح زورق / بلا رجال/ وبعض مجذاف/ وعنكبوت..." ويقول "تبدأ القصيدة في وصف زمن أمته، الذي لا تتحرك فيه مظاهر الحياة، بل يسود الصمت في كل شيء فيه، بديلاً عن الحركة. يذهب الشاعر بعيداً في كشف تضاد مفارقته الخفي بين الثبات أو الجمود وبين الحركة أو التحول على مستوى الوعي والعقل وارتباطهما بمظاهر الحياة، لأن هدفه البعيد يقوم على أن الإبداع والإنتاج، هما نتاج التفكير وحركته ضد الجامد والثابت في الحياة، وهو تواز مع الزمن واللحاق بتطوراته، وليس ابتعاداً وتراجعاً وتخلفاً عن عجلته السريعة في التصور والوعي والإنجاز وفي كل المستويات." يقول المجاطي في المقطع الأخير للقصيدة "من شدّ عند صخرة ظنوني/ ومد منقاراً/ إلى عيوني/ يا سارق الشعلة/ إن الصخب في السكون/ فاقطف زهور النور/ عبر الظلمة الحرون/ نحن انتجعنا الصمت/ في المغارة/ لأن نتن الملح/ لا تغسله العبارة/ فانزل معي للبحر/ تحت الموج والحجارة لابد أن شعلة/ تغوص في القرارة/ فارجع بها شرارة / تنفض توق الريح/ من سلاسل السكوت/ تعلم الإنسان/ أن يموت...". ويعلق البريسم على المقطع قائلا إنه "من الناحية الدلالية، يعد اعلان ثورة، ودعوة صارخة وغاضبة، لإنسانه الحاضر، كي يكسّر قيود ذاته المهزومة بالخوف والتردد، ويحطم أسوار سجانه من ناحية، وينطلق باحثاً عن عشبة الانبعاث، وشعلة النور، من ناحية أخرى". أما القصيدة الثانية التي اختارها البريسم فهي بعنوان "السقوط" ويستهلها المجاطي بقوله " تلبسني الأشياء /حين يرحل النهار/ تلبسني شوارع المدينة/ أسكن في قرارة الكأس..." ويصف الناقد العراقي المقطع قائلا " لم يكن إحلال المجاطي في الأشياء وهروبه إلى الكأس، متعة ولذة، بل كان هروباً وجودياً، يمس وجوده وكيانه، كما أنه يختلف في اتجاهه وهدفه، عن الإحلال الصوفي الذي يحل في ذات الله كي ينعم ويرتاح، بل يحل في الأشياء كي يضيع ويهرب من وجوده، خوفاً وخجلاً، بسبب خيبة وخذلان، وهو يعيش طافياً دون تحقيق هدفه الإنساني المؤثر في الحياة، حيث يصفه المجاطي ضمن دورة فلكية مصغرة، تبدأ بالليل وتنتهي بالفجر." ويتوقف عند مقطع من القصيدة يقول فيه المجاطي: "... في اللحظة الأخيرة/ إذا تلاشى الليل/ في سعلته الضريرة/ يرفض أن يغسلني الفجر/ وأن تشربني الغمامة/ أبقى وراء السيف/ والعمامة/ مُلقى على ظهر الثرى/ مُلقى/ بلا قبر/ ولا قيامة..". ويعلق صاحب كتاب "الشرارة والرماد" على المقطع قائلا " يشرك المجاطي الطبيعة في إدانة إنسانه المعطل الإرادة والفعل، كي يكشف عظم ورطته وأزمته في زمن الإنجاز العلمي والحضاري، كما يفعل شكسبير في اشراك غضب الطبيعة ضد الأفعال الشريرة التي يرتكبها الإنسان. ليس هذا حدود الإدانة ضد إنسانه، المعطل لقدرته وإرادته، بل حاول أن يتركه عارياً على الثرى بلا قبر وشاهد، وبلا تأثير انساني وحضاري وفلسفي معين (قيامة) لمن مات، بعد أن جرده من قوته (سيفه) ورفع عنه عمامته (تراثه)، وبالتالي انقطع عن جذوره وماضيه الفكري، وأصبح خارج دائرة الإسهام الفعلي في التقدم العلمي والحضاري في الوقت الحاضر".

البريسم يحلل بنية المفارقة في “الفروسية”

الناقد العراقي يستعيد قصائد الشاعر المغربي أحمد المجاطي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أزمة ماء وغذاء في طاطا

ثلثا المدارس بدون "طواليط"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات