أحوال بنيانه سيئة جدا وأغلب المفقودات تنتهي في مزادات علنية "هل أنت وافد جديد على البيضاء وضاعت منك بطاقة تعريفك؟ أو نسيت عربة أطفال في سيارة أجرة أو حديقة، أو مجموعة مفاتيح، أو حتى نصف سقيطة خروف عيد الأضحى؟... لا تيأس، ففي المدينة مكتب تابع للشرطة يعيد للناس أغراضهم التي فقدوها".ذلك، ما قيل لأحد الأشخاص، عن مكتب ورثته مصالح الأمن الوطني عن عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، فبدا له الأمر مثيرا للاهتمام، وتجسيدا حقيقيا لشعار "الأمن في خدمة المواطن"، غير أنه بزيارته للمكتب، كان واقع الحال شيئا آخر. إنجاز: امحمد خيي شكل المكتب وأحواله سيئة جدا، وقد يعتقد القادم أنه سيفقد في الداخل إن لم يخرج مصابا بأعراض شتى أنواع الحساسية، عوض العثور على أغراضه الضائعة. فبسبب الرطوبة، ينبعث من الخشب "المبلل" والإسمنت المهترئ، والحديد الصدئ، خليط من الروائح، لا يعطي إحساسا بالاطمئنان. يوجد بشارع إبراهيم الروداني، في قلب البيضاء، في الصف الذي تقع فيه مكاتب الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وفي الخارج لا وجود لأي لوحة أو علامة تقود نحوه. هو نفسه مفقود، ولا بد من سؤال حارس سيارات أو صاحب أقرب كشك أو دكان، ليوجهك نحو بابه.يختفي الباب الرئيسي للمكتب وراء حديقة صغيرة، ويقود إليه درج رخامي، تعتلي عتبته لوحة قديمة، تشير إلى أن البناية التي يوجد فيها المكتب، هي مقر الدائرة الثالثة للأمن الوطني بمنطقة آنفا.وقبل الانعطاف يسارا، نحو "مكتب الضائعات"، الذي تشير إليه ورقة صغيرة، مشدودة بالشريط اللاصق على الجدار، تكون قد طالعت "قسم المسيرة الخضراء"، المكتوب بالأخضر والأحمر على حائط مقابل للدرج.المكتب يشرف عليه ضابط شرطة واثنان من المعاونين، يجلسون إلى مكاتب، هي طاولات نال الزمن من صلابتها، وكراس قديمة غير مريحة، ولا وجود لهاتف أو حاسوب بمكتب أي منهم. إن الثلاثي يؤدون عملهم هنا، في أجواء غير ملائمة.في "مغارة علي بابا"، التابعة للهيأة الحضرية لأمن البيضاء الكبرى، يقولون إن "الأمتعة الضائعة من أصحابها، مصدرها الصناديق الصفراء المملوكة لبريد المغرب، ومراكز تنقيط سيارات الأجرة، حيث يسلم السائقون للأمن الأمتعة التي نسيها الركاب".مقبرة بطائق التعريفهنا توجد أغراض شتى، لا تخطر على بال وأغلبها ليست ثمينة، ففي ركن من المكتب، وضعت رفوف خشبية مُغَبَّرة، وفيها حقائب يد نسائية، وحقائب ظهر وأخرى للسفر، زيادة على كرة قدم ملفوفة في كيس بلاستيكي، وبالقرب من الرفوف، ركنت على الأرض، عربات للأطفال، وغير بعيد، علقت على الجدار، لوحة كبيرة علقت عليها مفاتيح كثيرة.وفي المكتب يقولون إن "أغلب هذه الأغراض، وصلت إلى هنا بعدما سها فيها مالكوها في سيارات الأجرة"، أما المواطنون الذين يأتون إلى المكتب لتسليم المشرفين عليه، أغراضا عثروا عليها، فهم عملة نادرة.والتفسير الذي يحوزه البعض، حول عزوف الأفراد عن تسليم الأغراض إلى المكتب، هو "التوجس من الدخول في لعبة سؤال-جواب مع الشرطة، أو أكثر، مع افتراض احتمال أن تكون تلك الأغراض على علاقة بقضية جرمية يحقق فيها الأمن".قبل أيام، حل عبد الحق، مواطن بيضاوي، بالمكتب وفي يده "تصريح بالضياع" أنجزه في دائرة أمنية، وبعد لحظة انتظار على كرسي خشبي، من ذلك النوع "العتيق" الذي يوجد بقاعات الانتظار في الإدارات وقاعات جلسات المحاكم، استقبل من قبل واحد من العاملين بالمكتب. يسأله الشرطي: شنو عندك؟ويجيب عبد الحق: "ضاعت مني محفظة وفيها وثائق تعريفي ورخصة السياقة وبطاقة رمادية، في ظروف غامضة وسط الزحام برواق تجاري في باب مراكش، صرحت بضياعها في الدائرة الأمنية، ووجهوني للمجيء إلى هنا، بعد مرور فترة زمنية".يفتح الشرطي دولابا مليئا بمئات بطائق التعريف، وآخر خاصا برخص السياقة، تم ترتيبها أبجديا بناء على أسماء أصحابها، فيتجه رأسا نحو المجموعة التي تبتدئ بالحرف الأول من اسم عبد الحق، لكن النتيجة سلبية، فطالبه بالعودة مجددا، بعد أيام.الكم الهائل من الوثائق التعريفية، التي يتوصل بها المكتب، وتقدر بحوالي 70 وثيقة في اليوم، هو الذي جعل المكتب يوصف بـ"مقبرة بطائق التعريف"، ويشرح عارف بشؤون المكتب: "يتوصل بها من بريد المغرب، فمن الشائع أن النشالين حينما يسطون على محفظة نقود، يأخذون منها الأموال، ثم يتخلون عنها".وأضاف المتحدث: "حينما يعثر عليها أحد، فهو يرمي بالوثائق في أقرب صندوق بريدي، وعندما يمر ساعي البريد يأخذها معه، ليتم تحويلها إلى مكتب الضائعات". مناقصات ومزادات علنيةعلى لوحة خشبية، معلقة على جدار داخل المكتب، توجد نسخ مراسلات رسمية ومذكرات بشأن تنظيم عمل المكتب، ومنها إخبارات وجهها المسؤول الأول على المديرية الجهوية لأملاك الدولة بالبيضاء، عن تاريخ ومكان مزاد علني، لبيع بعض الأغراض الضائعة، والتي سبق أن تلقاها المكتب لكن لم يظهر مالكوها."إذا كانت الوثائق، مثل بطائق التعريف الوطنية، توجه من قبل مكتب الضائعات إلى المصلحة المختصة في المديرية العامة للأمن الوطني، بعد مرور المدة القانونية، فبقية الأمتعة تبقى في دواليبه لتتحول إلى ملك الدولة"، يكشف متحدث إلى "الصباح".ولا يشترط القانون مدة زمنية موحدة، تتحول، بعد مضيها، الأمتعة الضائعة، إلى "ملك مخزني"، يتم التخلص منه عبر مناقصات ومزادات علنية، إنما تطول هذه المدة، كلما ارتفعت قيمة المتاع الضائع.وتشير معلومات، إلى أن الأمتعة التي تحسب ضمن منتوجات النسيج، وقد تكون سروالا أو قميصا وغيرها، بمجرد أن تمضي ثلاثة أشهر على توصل المكتب بها، دون ظهور مالكها، تتحول إلى "ملك مخزني".وتمتد تلك المدة، لتصل إلى ستة أشهر، أي نصف سنة كاملة، إذا كان الأمر يتعلق بمواد بلاستيكية، أما المواد المصنوعة من المعادن، فهي تصير مملوكة للدولة، بعد مضي سنة ويوم واحد تحديدا، على وجودها بمكتب الضائعات.وهناك ضائعات، لا تسمح طبيعتها بأن تبقى يوما واحدا بهذه المغارة، إذ يتذكر عامل سابق بالمكتب، حدثا طريفا لم يخطر بباله قبل وقوعه: "حضر إلى المكتب سائق سيارة أجرة، حاملا معه نصف سقيطة خروف، نسيه مواطن في السيارة، فقام المكتب بإرساله إلى دار لرعاية المتخلى عنهم". "الأمتعة الضائعة" بفرنسا في الأصل "مكتب الضائعات"، مصلحة ورثتها الدوائر الأمنية المغربية عن الفرنسيين خلال عهد الحماية، فهم من أنشؤوها أول مرة بالمغرب. وفي بلادهم تم تحديث هذه المصالح، وواكبت تطورات قطاع الخدمات، ولم تتحول إلى أقبية موحشة كما هو حال مكتب آنفا في البيضاء.في باريس يسمى المكتب "مصلحة الأمتعة المعثور عليها"، ويوميا تتوصل المصلحة بما بين 600 و700 متاع ضائع في فضاءات عمومية، ويصل عدد التي يتوصل بها مالكوها من جديد عن طريق المصلحة يوميا 150 متاعا. وإذا كان مكتب الضائعات بالبيضاء، لا يتوفر على هاتف ولا على حواسيب، فمصلحة باريس، التابعة للشرطة البلدية، يوجد بها مركز نداء، يمكن المواطنين من الاتصال والتأكد عبر الهاتف، إن كانت أغراض ضائعة تحمل اسمهم بحوزة المكتب.هذه الخدمة الهاتفية، تعني أن جميع الأغراض تسجل في قاعدة معطيات إلكترونية قبل توجيهها نحو المخزن، وفي حال كانت لا تحمل اسم صاحبها، مما يحول دون التأكد من وجودها في المكتب هاتفيا، تضع المصلحة رهن المواطنين خدمة بالبريد الإلكتروني، تقتضي ملء استمارة، يتوصل بها المكتب فيخبره إن كان يحوز متاعا بالمواصفات التي أدلي بها عبر البريد الإلكتروني.