العازف والموسيقار المغربي الذي جذب أم كلثوم بألحانه تحل يوم 21 نونبر الجاري الذكرى 12 لرحيل الفنان والموسيقار صالح الشرقي، أحد أبرز الأسماء التي ساهمت في تأسيس اللبنات الأولى للموسيقى العصرية بالمغرب على أكثر من واجهة. عبر هذا الخاص تسافر بكم "الصباح" في مسار هذا الفنان الاستثنائي الذي طبع اسمه في سجل الفن المغربي، عازفا وملحنا وباحثا في الموسيقى. إعداد: عزيز المجدوب أن تختار أم كلثوم خلال زيارتها التاريخية للمغرب نهاية الستينات، التغني بقطعة غنائية صوفية من توقيع المبدع صالح الشرقي، معناه أن كوكب الشرق قد كسرت قاعدة، لا يعرف على وجه التحديد إن كانت تتبعها عن قصد أم لا، وهي إصرارها على الغناء فقط للملحنين المصريين، قبل أن تخلب لبها أنغام قطعة "يا رسول الله خذ بيدي" والشحنة الصوفية المتضمنة فيها فاندفعت تترنم بها، وهي تبدي إعجابها بصاحب اللحن، الذي لم يكن سوى صالح الشرقي. ارتباط بمدينة القراصنة والأولياء في سلا، هذه الحاضرة العريقة التي اشتهرت على مر العصور بأنها مدينة القراصنة والأولياء والزوايا، اختار الفنان صالح الشرقي الإقامة قرب أوليائها وزواياها المبثوثة في كل أرجاء المدينة، إذ لا يخلو زقاق أو حارة من ضريح ولي أو ولية. في هذا الجو المشبع بالروحانيات والتصوف، آثر صالح الشرقي أن يقضي سنواته الأخيرة ولم يكن يبرح هذه المدينة إلا لماما، وهي المدينة التي ظلت تلهمه ويستنشق عبير ألقها الروحي، ليصرّفها لنا أنغاما تنزّ من أنامله وهي تغازل أوتار القانون، إلى أن غادر الحياة، متأثرا بإصابته إثر تعرضه لحادثة سير، إذ صدمته سيارة وهو يهم باجتياز الشارع، فأصيب بكسر في الورك قبل أن ينقل إلى المستشفى، ولبث هناك في غيبوبة إلى أن توفي عن سن ناهزت الثامنة والثمانين. وظل الراحل نشيطا حتى أواخر أيامه، إذ لم يحل تقدمه في السن، دون مواصلته تطوير اهتماماته الفنية وتنويعها، إذ أصدر قبيل وفاته كتابا باللغة الفرنسية بعنوان "الموسيقى المغربية تراث غني ومتنوع"، كما كان منشغلا بالإعداد لمعرض ينوي تقديم العديد من التحف الفنية فيه ومئات الصور النادرة، التي كان يهوى جمعها. في سلا رأى صالح الشرقي النور سنة 1923، وكتب له أن يعانق اليتم والحرمان في سن مبكرة بعد أن فقد والديه في سنة واحدة وهو لم يتجاوز بعد الخامسة من عمره. تكفل به شقيقه الأكبر لمدة سنتين، قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء حيث أدخل ملجأ للأيتام هناك، افتتحه الباشا الطيب المقري بطريق مديونة قرب ما يعرف ب"بياضة". وعن هذه الفترة حكى صالح الشرقي في حديث سابق مع "الصباح" قائلا "عندما التحقت بالملجأ كان عمري 7 سنوات، وهناك تلقيت مبادئ تعليمي، كما أن نظام التعليم الداخلي بالملجأ لم يقتصر فقط على تلقين الأطفال القراءة والكتابة، بل أيضا بعض الحرف اليدوية التي تعينهم على مواجهة الحياة، في ما بعد، مثل الدرازة و"تكباصت" و"البحرية" إضافة إلى الموسيقى". وقع اختيار صالح على الموسيقى، ولم يعرف لماذا اختار على وجه التحديد هذا التوجه، المهم أنه وجد نفسه ضمن تلاميذ "المعلم زنيبر" الذي يقول عنه صالح "إنه كان يعتمد أسلوبا بيداغوجيا فريدا من نوعه في تلقين الأطفال مبادئ الموسيقى، فمثلا كان يوجه التلميذ نحو اختيار آلة موسيقية معينة من خلال طريقة تشكيل يده وأصابعه". وهكذا وجد صالح الشرقي نفسه في البداية وهو يتعلم العزف على آلة العود، بناء على توجيه من معلمه زنيبر، وكان من زملائه في الدراسة العديد من الأسماء، التي سيصير لها شأن كبير في مجال الموسيقى منهم محمد اسميرس، عازف الكمان الشهير، وعازف العود عمر الطنطاوي والملحن محمد بن عبد السلام ومصطفى الحريري وغيرهم. وعن سر انتقاله من العزف على آلة العود إلى القانون يحكي صالح الشرقي "استهوتني هذه الآلة منذ أن رأيتها لأول مرة، ولحسن الحظ أن عازف القانون الذي كان معنا بالفرقة الموسيقية التي أسسها المعلم زنيبر كان "متكاسلا" وهو ما حفزني على تعلمها وطلبت من المعلم أن أستبدل آلة العود، التي كنت أعزف عليها، بتعلم آلة القانون، حتى إنني تنازلت عن مكافأة أسبوعية كان يخصصها زنيبر للتلاميذ النجباء، وكان لي ما أردت". قضى صالح الشرقي بضع سنوات ضمن فرقة المعلم زنيبر، التي اعتبرها مدرسة حقيقية مكنته من تملك الأسرار الأولية للموسيقى والتي واصل النهل منها بشكل عصامي، وبدأت الفرقة تجني ثمار ما تلقاه أفرادها على يد المعلم زنيبر، فأضحت تشارك في بعض الحفلات الخاصة بمنزل الباشا المقري، وأخذ صيتها في الانتشار. إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية، ساهم في ركود الحركة الفنية بالمغرب التي بدأت إرهاصاتها الأولى في التبلور، ووجد صالح الشرقي نفسه في عطالة وواجه مصاعب مادية، ما حذا بمعلمه زنيبر إلى أن اقترح عليه تعلم حرفة تعينه على مواجهة متطلبات الحياة، فلم تكن هذه الحرفة سوى "الدرازة". ويقول صالح الشرقي "في إحدى المرات كنت أشتغل ضمن ورشة للدرازة تابعة للمعلم التويمي، وحدث أن زارنا هناك المرحوم الحبيب القدميري ولما رآني بالقرب من منسج مازحني قائلا "سعدك أصالح خرج غير بين الخيوط" (في إشارة إلى القانون والمنسج). القانون في "فيل فرانس" سنة 1950 سينتقل صالح الشرقي إلى فرنسا وتحديدا إلى مدينة "فيل فرانس" حيث اشتغل أجيرا في أحد مصانع الحياكة، وكانت آلة القانون خير مرافق وأنيس له في ديار الغربة، وهناك اتصل ببعض الفنانين العرب المغتربين واحتك بهم عن قرب. قضى الشرقي بفرنسا سنتين وبعد عودته إلى المغرب، كانت الحركة الفنية بالمغرب، قد أخذت في الانبعاث، خاصة بعد أن أسس الأستاذ عبد النبي الجيراري أول جوق عصري كان من بين أعضائه كل من عبد القادر الراشدي وإسماعيل أحمد. وكان صيت صالح الشرقي عازفا ماهرا على آلة القانون، قد سبقه إلى مدينة الرباط، سيما أنه بعد عودته من فرنسا استقر بجارتها سلا، وهكذا تلقى الدعوة من طرف الراشدي والهاشمي بناني للانضمام إلى النواة الأولى لأول جوق عصري مغربي، الذي تشكل في البداية من كل من إسماعيل أحمد والمكي الرايسي وعبد الكريم بوهلال والمعطي بنقاسم وصالح الشرقي. أخذ هذا الجوق يتطعم بعازفين إلى أن بلغ عدد أعضائه 35 عازفا، وتولى رئاسته الموسيقار أحمد البيضاوي، ووجد صالح الشرقي نفسه وسط مجموعة متجانسة من العازفين كان همهم الأساسي إيصال الأغاني العربية والمغربية إلى المستمع المغربي. وكان الأسلوب الذي يعتمده أولئك العازفون، كما يتذكر صالح الشرقي، السماع أكثر من اتباع النوتة الموسيقية، وهو ما جعلهم يتعاملون مع القطع التي يعزفونها بنوع من الحميمية والصدق في الأداء. كما أن صالح الشرقي عمّق مداركه في "الصولفيج" وقواعد الموسيقى الغربية عن طريق فرنسي يدعى "جاك بوكار"، وانضاف ذلك إلى ما تلقاه من طبوع الموسيقى الأندلسية والموسيقى الشرقية العصرية، فضلا عن تمرسه وسط أعضاء الجوق، كل هاته العناصر ساهمت بشكل وافر في رسم الملامح الأساسية لشخصيته الفنية. وعايش صالح الشرقي ميلاد الأغنية المغربية العصرية، إذ أن جل القطع التي سجلت منذ فترة الخمسينات إلى حدود مطلع الثمانيات مرت من بين أنامله، وظل بذلك شاهدا على أكثر من جيل ساهم في تشييد صرح فن الغناء المغربي. ثلاثي الموصلي خلال 1984 سيحال الفنان صالح الشرقي على التقاعد، باعتباره عازفا ضمن الجوق الوطني، بطريقة اعتبرها مهينة ومحبطة لم يتم فيها تقدير ما أسداه إلى الأغنية المغربية طيلة عقود. لكن الشرقي لم يستسلم للتقاعد ولم يتعامل معه كعامل إحباط وإنما أسس لمرحلة فنية جديدة ابتدأها بتشكيل فرقة "الرباعي" المكون من الحبيب الشراف، عازف الفيولونصيل، والمخنتر ونزيه على الكمان، إضافة إلى آلة القانون، كان ذلك سنة 1986، وسنتين بعدها شكل فرقة "الخماسي" التي كان من أعضائها الشريف، عازف الساكسفون الشهير، وعبد الله الشاف على الكونترباص، إضافة إلى محمد كرم وعبد الله الإدريسي على الإيقاع. أما سنة 1991 فقد أسس صالح الشرقي فرقة موسيقية سميت "ثلاثي الموصلي" رفقة كل من بلعيد العكاف والبلول، ومكنت هذه التجارب الموسيقية الثلاث الشرقي من تمثيل المغرب في العديد من الدول بشتى أنحاء العالم. كما ترك صالح الشرقي العديد من المؤلفات منها "القانون في الموسيقى المغربية" و"المستظرف في قواعد الفن الموسيقي" و"أضواء على الموسيقى المغربية" و"الإيقاع والمقامات" و"جل ترى المعاني" وغيرها. وتعامل الشرقي مع العديد من الأصوات الغنائية ملحنا مثل المعطي بنقاسم في أغنية "رسالة وأمانة" وإسماعيل أحمد في "سلوا قلبي" وأمينة إدريس في "مظلومة" ثم عبد الهادي بلخياط في "هذا الميعاد" وأحمد الغرباوي في "يا هارب مني" وعبد الوهاب الدكالي في "عذروني يا احبابي". أم كلثوم تترنم بأنغام الشرقي حين حلت أم كلثوم بالمغرب سنة 1968 أحيت ثلاث سهرات رسمية بمسرح محمد الخامس، وكانت هناك سهرة أخرى خاصة أحيتها كوكب الشرف بفندق "السعدي" بمراكش، بطلب خاص من الحسن الثاني، الذي حضرها رفقة المقربين منه فقط. وأهم ما ميز سهرة مراكش التي كانت يوم 16 مارس، أن أم كلثوم غنت فيها موشح "يا رسول الله" الذي لحنه الفنان وعازف القانون المغربي الراحل صالح الشرقي الذي حكى، في حديث سابق مع "الصباح"، عن ظروف وملابسات هذه الواقعة. يقول الشرقي "في الواقع لم ألحن القطعة خصيصا لأم كلثوم، وإنما كان الأمر صدفة عندما حضرت الأخيرة عشاء أقامته الأميرة لمياء الصلح، زوجة الأمير عبد الله، بالرباط، فاستدعاني الأخير رفقة أعضاء الجوق الوطني لتقديم بعض الأعمال أمام "الست" وأفراد من العائلة الملكية". "وعندما دخلنا القاعة وجدنا الجميع بصدد تناول وجبة العشاء، ولما انتهوا قصدني الأمير عبد الله وسألني عما ننوي تقديمه، فأجبته بأننا مستدعون لتقديم كل ما يطلبونه، وهنا تدخل عضو بالكورال اسمه إبراهيم القادري فأخبر الأمير أن الفرقة حفظت للتو موشحا من تلحيني، كان الصديق الملحن عبد الله عصامي سلمني كلماته، وهي من شعر الشيخ عبد القادر الجيلاني". و"هكذا، يضيف صالح الشرقي، قدمنا الموشح أمام كوكب الشرق ولاحظنا انفعالها معه بطريقة غريبة، فأخذت تطلب من أحد أعضاء الكورال تلقينها كلمات الموشح، وأعدناه أمامها أكثر من مرة، قبل أن تفاجئنا بالوقوف وسط الفرقة فأخذت تغنيه معنا وهي تضمنه ارتجالات نغمية وجملا لم تكن فيه". وهو الموشح الذي أعادت غناءه في فندق السعدي بمراكش إلى جانب أغنيتي "فكروني" و"إنت عمري" في الاحتفال الذي أقيم على شرفها، وفيه اكتشفت أم كلثوم الفولكلور المغربي، الذي حضرت عشرات الفرق منه، وأعجبت به إلى درجة أنها لم تتردد في الانخراط مع نغماته بالتصفيق مع كل فرقة على حدة.