أثارت مسألة "تقزيم" السلطة التقديرية للقضاة في القضايا الجزائية، نقاشات عديدة خاصة بعد تصريحات عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، بشأن إمكانية إدخال تعديلات على القانون الجنائي للتقليص من الإمكانية المتاحة للقضاة في شأن السلطة التقديرية في إصدار الأحكام. واعتبر عبد الرزاق الجباري، رئيس نادي قضاة المغرب، أنه يثار، في كل مرة وحين، نقاش حول السلطة التقديرية للقضاة وحدودها في تفريد الجزاء الجنائي، وغالبا ما يكون مثير هذا النقاش غير مختص ولا ملم بتفاصيله ودقائقه، لدرجة أنه لا يتردد في مطالبته بإلغائها أو التضييق من نطاقها تضييقا يكاد يكون إلغاء لها، وهو الأمر الذي يتطلب حسبه قبل الحديث عن حدود هذه السلطة، استيعابها وفهمها عن طريق التذكير بالمراحل العلمية التي مرت بها. وأكد الجباري أن السلطة التقديرية للقضاة في تفريد العقوبة وتقديرها مرت عبر المراحل العلمية التي عرفت الأولى فيها بـ"نظام العقوبات التحكمية"، إذ لم تكن الجرائم والعقوبات ثابتة ومحددة مسبقا، وكان القضاة مجرد أداة يستغلها الحاكم السياسي للسيطرة على خصومه ليس إلا، وثلاها "نظام العقوبات القانونية الثابتة"، وجاءت كرد فعل عن النظام السابق، إذ جرد القاضي من أي سلطة لتقدير العقاب وتفريده، واقتصر دوره، فقط، على التطبيق الآلي لقائمة الجرائم والعقوبات المحددة مسبقا وبشكل ثابت ومجرد من قبل المشرع، فكان القاضي، حينئذ، أداة في يد المشرع لا غير. ومن الانتقادات التي وجهت لهذا النظام، أنه لا يعير أي اهتمام بشخصية المجرم، ولا بظروف وملابسات ارتكاب الجريمة، لتأتي بعدها الثالثة التي اعتبرت، إصلاحية، إذ سميت "نظام العقوبات القانونية القضائية المتدرجة"، إذ حدد المشرع، في ضوئه، العقوبة بحدين، أولهما أدنى والآخر أقصى، كما أقر ظروف التخفيف التي تمكن من النزول عن الحد الأدنى للعقوبة، ووقف تنفيذ العقوبة، والأعذار القانونية المعفية أو المخففة من العقاب، وانعدام مسؤولية الفاعل لخلل عقلي أو نقصانها لضعف عقلي، والتدابير الوقائية الشخصية، كالإيداع بمؤسسات للعلاج، فترك للقاضي سلطة نسبية في تفريد الجزاء الجنائي، باختيار نوعه ومقداره الملائم لشخصية المجرم، مع ما يتناسب وخطورة الجريمة المرتكبة. وأشار رئيس النادي إلى أن نظام العقوبات القانونية المتدرجة جاء لإصلاح مساوئ النظامين السالفين، اللذين تمحورا حول الجريمة بنية مادية موضوعية دون أي اهتمام بشخصية المجرم مكونا شخصيا ذاتيا، وهو، بذلك، نظام يقوم على فكرة التناسب بين طبيعة الجريمة المرتكبة والباعث النفسي على ارتكابها من جهة، وبين الجزاء الكفيل بردع المجرم وإصلاحه في الآن نفسه، من جهة أخرى، وهو الذي تبنته العديد من الدول في إصلاح أنظمتها العقابية وسياساتها الجنائية، مما يتبين معه أن الدعوة إلى إلغاء تلك السلطة أو التضييق من نطاقها، هي دعوة ضمنية للعودة إلى أحد النظامين الأولين التحكميين، حيث لا مجال لتدخل القاضي في تفريد الجزاء، مع أن العدالة والإنصاف يقتضيان معالجة كل قضية على حدة. كريمة مصلي