الرائد الذي أسس أول جوق عصري ومكتشف المواهب حلت، نهاية الأسبوع الماضي، الذكرى 12 لرحيل الموسيقار عبد النبي الجيراري، الذي ودعنا يوم 30 شتنبر 2011 عن سن ناهز السابعة والثمانين. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الموسيقار الاستثنائي الذي نذر نفسه للأغنية المغربية العصرية، مؤسسا للحظات البداية فيها، موسيقيا وعازفا ومطربا وملحنا ومكتشفا للمواهب. إعداد: عزيز المجدوب في ليلة 15 ماي 2010 كانت آخر مرة التقي فيها الموسيقار الراحل عبد النبي الجيراري، بشكل مباشر، إذ اقتصر تواصلي معه بعدها، على بعض المكالمات الهاتفية، إلى أن غيبه الموت يوم 29 شتنبر من السنة الموالية. كان اللقاء الأخير في كواليس برنامج "أستوديو دوزيم" بمقر القناة الثانية بالدار البيضاء، حين خصص طاقم البرنامج الذي يعنى باكتشاف المواهب الغنائية، احتفالية خاصة بالفنان عبد النبي الجيراري عرفانا بما أسداه للأغنية المغربية ورموزها من أفضال وأياد بيضاء. وفي غمرة الاحتفالات وأجواء التباري، لم تكن مسحة الحزن تفارق محيا الموسيقار الذي أخرج من جرابه عشرات الأصوات الغنائية التي شكلت أعمدة الغناء في المغرب والعالم العربي، رغم رمزية الالتفاتة والتكريم لهذا الرجل الذي عانى الجحود والنكران، وظل يدق ناقوس الخطر حول وضع الأغنية المغربية في كل خرجاته الإعلامية حتى أعياه الحديث فلزم الصمت في سنواته الأخيرة وهو يراقب الوضع الفني من عزلته الاختيارية، التي لم يكن يبخل فيها بالملاحظات والنصائح على كل من قصده في بيته، الذي ظل مفتوحا للجميع كما كان دائما. وفي لحظة حديث عابر وعام عن المشهد الفني أدار عبد النبي الجيراري رأسه مرتين، وكأنه يتأكد من أن لا أحد يسمع حديثنا، فأخرج من جيب سترته الداخلي بطاقة تعريفه الوطنية، في صيغتها القديمة، قبل أن يريني إياها واضعا إصبعه على مكان المهنة التي اختار أن يضع فيها مهنة "فلاح"، قائلا "لقد تركت لهم المجال الفني والجمل بما حمل بعد أن تسلط الدخلاء على الفن". كانت تلك العبارة آخر ما سمعته من الراحل بعد أن أرفقها بابتسامة ساخرة مفعمة بالمرارة، على ما آلت إليه الأغنية المغربية العصرية التي كان واحدا من روادها وواضعي لبناتها الأساسية، وضحى من أجلها بالغالي والنفيس. الجوق الأول نشأ عبد النبي الجيراري المزداد سنة 1924 وسط عائلة سلاوية عريقة. تفتقت موهبته مبكراً، ورعاها بالتثقيف والصقل اعتماداً على نفسه وعصاميته، إذ تلقى المبادئ الأولى في الموسيقى على يد الشيخ البارودي والمصري مرسي بركات ، خاصة في الفترات التي كان فيها الجيراري يتردد، وهو شاب مساء كل جمعة على ساحة المشور السعيد بالرباط، حيث كانت فرقة الخمسة والخمسين الموسيقية التابعة للقصر الملكي تعزف لسكان العاصمة مقطوعات من الموسيقى، في عهد الملك الراحل محمد الخامس، خلال الأربعينات من القرن الماضي. وبالفعل، قادته خطواته ليتعلم قواعد الموسيقى في معهد موسيقي صغير وبسيط، مفتقرا إلى ابسط التجهيزات، حيث كان يجلس على الحصير في غياب المقاعد، في تلك الفترة. ولم يكن المستعمر الفرنسي ينظر بعين الرضى إلى إقبال شباب العاصمة السياسية للبلاد على صقل مواهبهم الفنية. خلال تلك المرحلة من تاريخ المغرب كانت إرهاصات البحث عن ملامح أغنية عصرية مختلفة عما كان سائدا من أنماط تراثية، تراود العديد من الموسيقيين الشباب في تلك الفترة، خاصة أن العديد من الروافد أثرت في هذا الاختيار تأثرا بما كان يصل من ألوان موسيقية، مشرقية ومصرية على وجه الخصوص. وتلقى عبد النبي الجيراري أبجديات الموسيقى بالمعهد الوطني للطرب الأندلسي، حيث تلقى أصول النوبات الأندلسية، كما تعلم الصولفيج والعزف على البيانو تحت إشراف أستاذ فرنسي، فضلا عن تعلمه العزف على آلات موسيقية أخرى مثل الكمان والقانون والأكورديون ما أكسبه وعيا فنيا مبكرا. ويحسب للفنان عبد النبي الجيراري، في هذا السياق، أنه أول من أنشأ جوقا موسيقيا عصرياً، خارج أسوار القصر الملكي، أطلق عليه "جوق الاتحاد الفني الرباطي" عام 1945، ولم يكن حينها يتجاوز الحادية والعشرين، رفقة صديقه ورفيق دربه الفنان الراحل عبد القادر الراشدي، الذي سرعان ما انفصل عنه، وأسس هو الآخر، جوق "التقدم"، لتتناسل بعد ذلك أجواق ومجموعات موسيقية أخرى في مختلف المدن المغربية، حتى كاد أن يصبح لكل ملحن مغربي جوقه الخاص. وكان من بين ضمن الأسماء الصاعدة التي عايشت لحظة ميلاد جوق "الاتحاد الفني الرباطي" شاب اسمه إسماعيل الخطابي، كان يتردد كثيرا على بيت الجيراري، لتعلم العزف على الكمان، هو الذي أصبح في ما بعد المطرب إسماعيل أحمد. اختص "جوق الاتحاد الفني الرباطي" بإحياء سهرات وحفلات غنائية ارتكزت بالأساس على ترديد الأناشيد الوطنية لبث الحماس في النفوس، وذلك بتنسيق مع رجال الحركة الوطنية في المغرب. وخلال نهاية الأربعينات لفت النشاط الفني للجيراري، رغم بعده الوطني، إدارة الحماية، فتم الاتصال به من قبل إدارة "راديو ماروك" لتقديم حصص موسيقية أسبوعية، فبدأت معزوفات ونغمات جوق الجيراري مثل "سلوى" و"بشرى" و"جمال الريف" تصل إلى المستمعين، فتثير انتباههم بنفَسِها العصري في انصهارها مع مقامات الموسيقى العربية، وخصائص الهوية التراثية المغربية في أصالتها وتنوع إيقاعاتها وزخم تنوعها. ملحن مجدد عايش الجيراري مخاض التحولات التي عاشها مغرب الخمسينات، بدءا بنفي السلطان محمد الخامس في غشت 1953 والانتفاضات الشعبية التي أعقبته، واشتداد حركة المقاومة، وصولا إلى لحظة الاستقلال وما واكبها من رغبة في الانعتاق وتحقيق الذات المغربية في كل المجالات، منها المجال الفني الذي تعزز بميلاد الجوق الوطني للإذاعة نهاية الخمسينات، تحت إشراف الموسيقار أحمد البيضاوي، وكان الجيراري حاضرا ضمن التركيبة التي أسست دعائم هذا الجوق. وبالموازاة مع ذلك ظهرت مواهب عبد النبي الجيراري في الغناء أداء وعزفا وتلحينا، وفي هذا السياق يشير الباحث والإعلامي محمد الغيداني إلى أن الجيراري "سبق عصره بانفتاحه على تركيبات وتعبيرات موسيقية لم تكن مألوفة آنذاك على الأذن المغربية، غير أنها سرعان ما فرضت نفسها وأثبتت صواب اختياره الفني وسعيه للتحديث والعصرنة عوض الارتكان للقوالب القديمة". وقدم الغيداني أمثلة ذلك موضحا أن ألحانا للجيراري "مثل "ابتسم يا غزال" و"اذكرى" لإسماعيل أحمد، و"رفيقتي" لمحمد علي، و"يا حبيب القلب" و"حسبتك" لعبد الهادي بلخياط، و"كان قلبي هاني" للراحل المعطي بنقاسم، ما زالت محتفظة بقيمتها الفنية المتجددة، وكأنها سجلت بالأمس فقط، وفي كل أغنية من هذه الأغاني التي شاعت وذاعت وانتشرت على الشفاه، وتردد صداها في كل أنحاء المغرب، يبرز وجه الجيراري الحداثي، وإضافته الفنية الواضحة التي تعطي للعمل الغنائي عمقه الأصيل." ويتابع الغيداني "وبلغ هذا التجديد ذروته في مسيرته الفنية باختياره لمقاطع من قصيدة "صلوات في هيكل الحب" المطولة لشاعر تونس أبي القاسم الشابي، وصاغها في أغنية سماها "أنت"، واسند غناءها للفنان عبد الوهاب الدكالي، فكانت محطة رائدة في طريق الأغنية المغربية العاطفية المستندة إلى متن القصيد". من جانبه يقول الباحث عبد المجيد شكير، في حديث مع "الصباح"، إن الجيراري كانت له عناية خاصة بتلحين القصائد الشعرية الفصيحة، ودائما كان يبحث عن الأصوات القادرة على أداء القصائد الصعبة، خاصة أنه كان يهتم بصياغة ألحان ذات تركيبة خاصة يسبغها على الشعر. محطة «مواهب» ويتوقف شكير عند تجربة أخرى في مسار الموسيقار عبد النبي الجيراري وهي عنايته باكتشاف الأصوات ورعايتها وتعهدها بالعناية والتوجيه، منها أصوات اكتشفها قبل تجربة برنامجه التلفزيوني الشهير "مواهب" ويتعلق الأمر بالمطرب عبد الهادي بلخياط الذي كان الجيراري أول من وثق في قدراته وقدم له ألحانه الأولى التي رسخت قدميه في عالم الغناء. كان برنامج "مواهب" أول برنامج في تاريخ التلفزيون المغربي يُعنى باكتشاف الأصوات، ويتبناها ويتعهدها بالرعاية والتوجيه إلى أن يشتد عودها. وعلى امتداد عقدين من الزمن (من 1967 إلى أواسط الثمانينات)، وبصفة مسترسلة ظل البرنامج فضاء حقيقيا ومشتلا لتفريخ أجيال جديدة من المغنين والمغنيات، تخرجوا من تلك المدرسة التي مدت الأغنية المغربية بحناجر أثبتت جدارتها وقوتها وكفاءتها. ومن بين أبرز الأصوات التي اكتشفها الجيراري، يقول شكير، هناك الفنان محمود الإدريسي والمطربة سميرة بنسعيد وعزيزة جلال ثم في فترة لاحقة رجاء بلمليح ومحمد الغاوي والبشير عبده وغيرهم. ولم يقتصر نشاط الجيراري في تجربة "مواهب" على اكتشاف الأصوات الغنائية فقط، بل امتد نشاط البرنامج وتوسع ليشمل مختلف أشكال التعبير الأدبي والفني، فكانت هناك فقرة خاصة بالشعر والزجل تحت إشراف الشاعر المعروف المهدي زريوح، بينما كان الشاب أنس نجل الجيراري معداً لفقرة الخط، ومنها انطلق خطاط التلفزيون محمد قرماد. كذلك سعيد الزياني المذيع في الإذاعة والتلفزيون الذي جرب حظه مع الغناء قبل أن يعتزل الفن والإعلام معا. والصناع التقليديون كانت لهم أيضا فقرة يستعرضون فيها إبداعاتهم على الشاشة الصغيرة. فظهر في البرنامج مخرجون، ومنهم المخرج التلفزيوني شكيب بنعمر، الذي سبق أن ساهم بفقرة فنية، قبل أن يتخصص في فن الإخراج، ويبرع فيه. وتردد أيضا على البرنامج في البداية زجالون وشعراء شباب، منهم الشاعر الغنائي عمر التلباني، كاتب كلمات أغنية "سوق البشرية" لعبد الوهاب الدكالي، الفائزة بالجائزة الأولى في إحدى دورات مهرجان الأغنية العربية بالقاهرة، وآخرون. وعن طريقة المشاركة في برنامج "مواهب" يوضح الغيداني أنها كانت "تقتضي بعث طلبات خطية لضبط وترتيب المشاركة وفق جدول زمني محدد. وفي حوزة الجيراري كميات من تلك الرسائل التي كتبها إليه أصحابها بخطوط مرتعشة، يلتمسون منه فيها فرصة للظهور وتجريب حظوظهم، وقد وضع كل تلك الرسائل في وثائق منظمة ومرتبة بشكل بديع ضمن أرشيف خاص، يحمل بين ثناياه خفقات الدهشة الأولى، موقعة بالأسماء الحقيقية التي تحولت في ما بعد إلى ألقاب فنية مستعارة. ليظل بيت الجيراري بمثابة متحف حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى، يؤرخ لفترة مهمة من تاريخ المغرب الفني".