حكايات ناجين من الهلاك بأعجوبة وآخرون مازالوا تحت وقع الصدمة في غمرة الموت، تستمر الحياة، فرغم مآسي الفقد ووجع الدمار، ينبعث الأمل وتعود الحياة إلى أرواح كانت تحت الأنقاض، رغم أن الصدمة مازالت تجثم على نفوس الكثيرين ممن نجوا من دمار زلزال الحوز، فقد عاشوا مشاهد مرعبة، وعايشوا الموت عشرات المرات، ولم يسمعوا سوى صراخ يأتي بعيدا، أو ركضا هنا وهناك... إنه يوم الخسف وخراب الجغرافيا ونهاية التاريخ، يقول العديد ممن التقتهم "الصباح". حكايات يختلط فيها الألم والأمل، ألم لفقدان الكثير من الأقارب، والأمل الذي أعاد إليهم حياة جديدة. فرغم مرور خمسة أيام، مازال هناك أمل في الحياة، فقد استخرجت فرق الإنقاذ وكذا العديد من المواطنين المتطوعين من أبناء القبيلة، العشرات من الأشخاص. إعداد: محمد العوال - تصوير: عبد المجيد بزيوات (موفدا الصباح إلى إقليم الحوز) يصف الناجون من الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز، أنه فيلم رعب حقيقي، فقد زلزلت الأرض من تحت أقدامهم زلزالا عظيما، وتمايلت المباني، قبل أن تتساقط فوق بعضها البعض، والكثير من الناس صاروا تحت الأنقاض، كأن جند سليمان مروا عليهم. تمايلت البنايات يمينا ويسارا وشمالا وجنوبا، واستسلمت لرجة الأرض، وسقطت فوق رؤوس من بداخلها، واختلطت جثث الأطفال بالنساء والشيوخ والشباب، كما المواشي.. فاضمة... خروج قبل الانهيار تحكي فاضمة إبراهيم (75 سنة)، التي التقيناها بدوار أسني القديم بجماعة أسني إقليم الحوز، عن رعب حقيقي مازال يسكنها إلى الآن "كنت نائمة رفقة ابنتي، فجأة سمعت صراخها فاستيقظت مفزوعة، لكن المنزل يتمايل هنا وهناك، في حين كانت ابنتي تسحبني إلى الباب للفرار، لكن الباب انغلق وكل محاولات فتحه باءت بالفشل، تملكتني قوة خارقة، وبعد جهد كبير استطعت بمعية ابنتي الخروج، وبمجرد ما غادرنا المنزل هوى بالكامل". تضيف "فاضمة" التي ارتسم على وجهها زمن حمل في طياته وجعاً تكاد تسمع أنينه في كلامها "عمّ الظلام المكان، ولا تسمع سوى الصراخ القادم من هناك والعويل والبكاء، أشعر بالدوار، أتذكر أبنائي.. يا الله ما الذي يجري، هل سُتفنى الدنيا؟ يتملكني الخوف والرعب، أصرخ بأسماء أبنائي الذين يسكنون هناك غير بعيد، لكن لا صوت سوى صوت العويل والبكاء، أحاول أن أقف لكني أسقط أرضا، ابنتي غادرت للبحث عن اشقائها".. فجأة يقترب أبناء الدوار، يبددون بمصابيحهم ظلمة المكان ووحشته، "فأنظر إلى منزلي الذي تحول إلى ركام، وأستفسر عن أبنائي، فيؤكد لي أبناء القرية أنهم بخير، حينها تنفست الصعداء". لكن فاضمة، سرعان ما يخيم عليها الحزن، حينما تجد الكثير من أبناء القرية قضوا نحبهم تحت الأنقاض. حاول إنقاذي فمات فوقي! غير بعيد عن دوار فاضمة، المرأة المفعمة بالإيمان الصادق وحب الخير ونكران الذات، كنساء الأطلس الشامخات، قصة مؤلمة لنعيمة، التي عادت إلى الحياة بأعجوبة. تحكي نعيمة، عن لحظات سبقت انهيار منزلهم "أخي عيّن أستاذا بضواحي مراكش، عاد مساء يوم الجمعة للمنزل، كانت فرحتنا لا توصف، أخيرا شقيقي أصبح يتوفر على وظيفة، سيوفر لنا معها حاجياتنا، ولن أضطر مرة أخرى للعمل في الحقول، كان يعدني بذلك". وتضيف نعيمة، بعد أن مررت يدها على خدها تمسح دموعها، "تناولنا وجبة العشاء، وجلست بجانبه يحكي لي عن تجربته الأولى في العمل، وهل التقى بتلاميذته، وكيف تم استقباله في المدرسة، وغيرها من الأسئلة التي أثيرها بدافع فضولي، وفجأة تمايل المنزل واستشعرنا رجة قوية، في لحظة ارتمى عليّ شقيقي وسحبني خارج الغرفة، لم أتذكر بعد ذلك أي شيء". تضيف "لا أدري كم مرّ من الوقت، حينما شعرت بصعوبة في التنفس، وشيء ثقيل فوقي، لا أستطيع الحركة، بالكاد أحرك يدي اليسرى.. ما أسمعه هو نباح الكلاب، وأصوات رجالية ونسائية، كأنها قادمة من مكان قصي لا أستطيع فك شفراتها". وتضيف نعيمة، التي تكفكف دموعها بين الفينة والأخرى، "لقد استسلمت للموت، واسترجعت شريط ذكريات الصبا، وأنا بين الموت والحياة، في لحظات أعتقد أني مُت والآن في يوم البعث". مرّ يوم كامل على نعيمة تحت الأنقاض، كأنه سنوات طويلة، ليتم استخراجها، بعد انتشال جثة شقيقها. نعيمة كأنها ولدت من جديد، ورغم هذه المساحة الشاسعة من الأمل، أمل الحياة، مازالت تعيش رعبا حقيقيا "فالنوم هجرني، رغم أن الطبيب قدم لي أدوية، أعاني في صمت أتمزق داخليا كل لحظة، أحترق داخليا، إنه يتم الأخ الأكبر، أكبر يتم أن يموت من حاول إنقاذك من الموت". أبزيم... قصة نجاة وحسرة نتوغل في طرقات غير معبدة، تقودنا إلى أحد الدواوير ما بين جماعة وركان وإمكدال، التي زرناها سابقا، فنتوقف عند خيمة منصوبة بها مجموعة من النسوة، نقترب منهن، تفضل بعضهن الانصراف، استحياء واحتراما، كما هي عادة أهل المغرب العميق ، فنصادف امرأة في الخمسينات من عمرها، وبعد حديث قصير، تُقدم لنا من خلاله صورة لزلزال دمّر العشرات من المباني، وحول حياة الكثيرين منهم إلى جحيم لا يُطاق.. تحدُثنا هذه المرأة عن أناس، قضوا نحبهم تحت الأنقاض، ومنهم من تم إخراجهم أحياء، وهم يوجدون الآن بالمستشفى لتلقي العلاج، وفي خضم هذا الحديث، تدلنا على ناجية من الزلزال، إنها "أبزيم". تجلس "أبزيم" في مكان قصي بعيدا عن نساء القرية، كطير حطّ على غير سربه، تبدو متعبة كزيتونة أحرقها الصقيع، تداعب بيديها الصغيرتين غصن شجرة، لا ترفع عينيها من الأرض إلا لماما لتسبح بهما في عنان السماء. تتكلم باقتضاب شديد، وكأنها ترفض النبش في تجربة أعادتها إلى الحياة، لكن سرعان ما اكتشفنا أن عودتها للحياة كلفتها حياة مازال يتملكها. رغم فراق زوجها وطفليها، فإنها لم تغادر الدوار، إلى منطقة أهلها بعيدا عن هذه المنطقة، بل مازالت ملتصقة بذكرى طفليها وزوجها. تحكي "أبزيم" (وهو اسم أمازيغي)، ذات 21 سنة، بلكنة أمازيغية خالصة، عن ليلة سوداء، فتقول "تناولت رفقة أبنائي وجبة العشاء خلال ذلك اليوم المشهود، وتركت نصيبا من العشاء لزوجي في انتظار عودته من العمل ليلا، كما هي عادته، غير أنه لما عاد من العمل، لم يرغب في تناول وجبة العشاء، فاستأذنته أن أقوم بمنح نصيبه من الطعام لإحدى جيراننا حيث لا يبعد منزلهم سوى ب15 أو 20 مترا عن منزلنا، وبالفعل توجهت نحو منزل جارتنا التي كانت لتوها خلدت للنوم. طرقت الباب مرات، ثم ناديت عليها، وبمجرد أن سلمتها الإناء وأغلقت الباب، خطوت خطوتين فقط، فشعرت بالأرض تتحرك من حولي، وفي لحظة بدت لي العديد من الأبنية تنهار، وانقطع التيار الكهربائي وسُمع صوت رعب بالمكان، فسقطت أرضا مغمى علي، وبعد مرور وقت ليس باليسير، استعدت وعيي، فوجدت منزلي انهار عن آخره، وتوفي من بداخله". قبل يومين، تم استخراج جثة ابني الثاني، وتبدد أملي في الحياة، تقول "أبزيم"، وتضيف "أشعر بالأسى، لقد خرجت من المنزل ولم يرافقني أي من ابنائي، فابني الصغير نهرته عندما أراد أن يخرج معي". "عفاك ماما باغي نخرج معاك"، هذه هي العبارة التي رددها ابن "أبزيم" بلغة أمازيغية، فنهرته، غير أنها مازالت تسمع صدى هذه العبارة يتردد في كل مكان، فترد عليه بداخلها "سامحني يا بُني".