"الصباح" في قلب قرية حولها الزلزال الغادر إلى أطلال ومشاهد تدمي القلوب الساعة تشير إلى الرابعة والنصف عصر الأحد الماضي. الوصول إلى دوار تافكاغت بجماعة أمغراس، لم يكن بالأمر السهل، إذ استغرقت الرحلة المنطلقة من إيمنتانوت عمالة شيشاوة إلى دوار تافكاغت مرورا بجماعة أمزميز التي تقع على بعد 56 كيلومترا جنوب مراكش، وتتبع إداريا لعمالة إقليم الحوز، (استغرقت) 3 ساعات من الزمن وسط حذر شديد مرتبط بوعورة المسالك الجبلية ومخلفات زلزال أتى على الأخضر واليابس. إنجاز: محمد بها / تصوير(عبد الحق خليفة) (موفدا "الصباح" إلى إقليم الحوز) من أجل الوصول إلى دوار تافكاغت المدمر عن آخره، عاش طاقم "الصباح"، صعوبات كبيرة، شأنه شأن باقي عائلات الضحايا الذين كانوا يطوون المسافات بمختلف وسائل النقل، متلهفين للاطمئنان على ما تبقى من ذويهم الناجين ومشاركتهم الحزن على فقدان أحبة قضوا نحبهم تحت الأنقاض. طريق الموت تسميتها بطريق الموت لم تكن وصفا قدحيا أو حكم قيمة، بل كان نتيجة معاينة مشاهد تبث الخوف، ضمنها مجموعة من المنعرجات الخطيرة، التي تهدد سلامة مستعمليها، وهو ما عاشه طاقم "الصباح"، في رحلة الذهاب والعودة، إلى درجة اضطر معها السائق الذي تمت الاستعانة بخدماته إلى استعمال منبه السيارة، لإرسال إشارات لباقي السيارات القادمة حتى لا تقع حادثة سير ما. وتسببت الانهيارات الصخرية ووجود بقايا بعض البنايات المدمرة بالطريق المؤدي إلى دوار تافكاغت، في مضاعفة صعوبة حركة السير بالطريق الجبلية الموصلة في الوقت نفسه إلى العديد من الدواوير المتضررة من الزلزال، الأمر الذي عرقل عملية مرور سيارات الإسعاف وقوافل السيارات المدنية المحملة بالمساعدات الإنسانية والغذائية نحو القرية التي تعتبر ضمن بؤر الهزة التي خلفت ضحايا بالجملة. روائح الجثث من الأمور التي تلفت انتباه زائر دوار تافكاغت إضافة إلى مشاهد الدمار، رائحة الموت التي كانت منتشرة في كل مكان من القرية التي لم تعد سوى أطلال للبكاء. وكشف أيوب أحد الشباب الذي كان يرافق طاقم "الصباح" للإرشاد، أن الروائح المنتشرة هي نتيجة مخلفات جثث بشرية تم دفنها السبت الماضي بعد تجميع عدد الجثامين إلى أن بلغت رقما مهولا، كيف لا والقرية تم انتشال 106 جثث ضحايا منها. وأضاف المتحدث ذاته، أن المصدر الثاني للرائحة النثنة يعود إلى نفوق حيوانات بقيت عالقة تحت الأنقاض، وهو ما عاينته "الصباح"، التي اختار طاقمها الصعود فوق مخلفات دمار مروع واختراق أطلال تتضمن مشاهد تدمي القلب. ومن المشاهد التي تم توثيقها بالصور، جثث دواب تتوزع ما بين أبقار وحمير ونعاج، نفقت بعدما لم تجد سبيلا للفرار، ما حول المكان إلى مطرح يتضمن روائح تزكم الأنوف. قرية الأطلال انهيار المباني والدور السكنية بشكل كامل، حول المنازل إلى أطلال، وأصحابها إما قضوا نحبهم تحت الأنقاض، وإما تشردوا بعدما استطاعوا النجاة من موت محقق. وعاينت "الصباح" مخلفات الدمار الذي لحق بالبيوت ومسجد الدوار، والذي لم تتبق منه إلا زرابي تعلوها أحجار وأتربة، كما أن البيوت التي ردمت بفعل قوة الهزة، لم تتبق منها سوى مخلفات أفرشة وتجهيزات منزلية تعرضت للتلف. قصص مأساوية وهو يذرف الدموع بحرقة، قال أحد الناجين، إنه فقد أسرته الصغيرة بمن فيهم فلذات كبده، مضيفا وهو يتحدث تارة بالعربية وتارة أخرى بالأمازيعية، "غاماغ وحدوي، دان تاروانو مش الغالب الله"، بمعنى "أصبحت وحيدا بعدما فقدت أبنائي، ولكن الأمر لله". وهو يسرد تفاصيل ليلة استثنائية، تغيرت معها حياته رأسا على عقب، وكيف عاش المرارة وهو يعاين عملية انتشال جثة أسرته الصغيرة، استأذن "الصباح"، بالسماح له بالمغادرة، لأنه لا يستطيع إكمال الحديث، بعدما عجز لسانه عن حكي يقلب المواجع. وختم وهو يغادر بصوت مبحوح نحو بقايا منزله حاملا كيسا بلاستيكيا به سرول وقميص، "اسمحوا لي سأغادر لتغيير ملابسي، ولأغفو قليلا لأني لم أذق طعم النوم منذ الفاجعة التي حلت بالدوار. أرغب في الاختلاء بنفسي بعدما صرت متشردا دون مأوى ودون عائلة". محفظة وأكل من المشاهد المبكية، بقايا حاجيات أسرة بكاملها تم انتشالها جثثا من تحت الأنقاض بعدما انهار المبنى عليها، إذ عاينت "الصباح"، مخلفات زلزال مدمر، من بينها محفظة وكتب مدرسية لأطفال كانوا يمنون النفس بالالتحاق بالمدرسة كباقي تلاميذ المغرب، قبل أن يلقوا حتفهم بطريقة مأساوية. ومن الصعب تحمل رؤية حاجيات أطفال ترجلوا من قطار الحياة، إذ دخلت إحدى النسوة التي حلت بالقرية رفقة زوجها وأبنائها للاطمئنان على أقاربها الناجين، (دخلت) في موجة نحيب، بعدما لم تستطع التحكم في مشاعرها. وعاينت "الصباح"، بقايا أطعمة وسط ثلاجة أصبحت علامة على وجود مطبخ مهدم، وسرير بيت للنوم تعرض للخراب وتحول إلى مقبرة لزوجين. عمر جديد بأحد المنازل المهدمة، كشف أيوب أنه تم انتشال جثة امرأة وهي تعانق فلذة كبدها الرضيع البالغ من العمر عاما ونصف عام، الذي كتب له عمر جديد بعد إخراجه من تحت الأنقاض حيا يرزق. وبتأثر بالغ أوضحت إحدى نساء الدوار، أن ما يظهر عظمة الأم العثور على الهالكة وهي تعانق رضيعها محاولة حمايته من تساقط الأحجار، مفضلة التضحية بنفسها من أجل الحفاظ على حياة أعز ما تملك. وقصة طفل آخر نجا من الموت، بعدما منعت عمته والده من إرجاعه إلى الدوار الذي دمر عن آخره، مفضلة إبقاءه لبعض الوقت من أجل اقتناء ملابس جديدة وكتب مدرسية قبل التحاقه بالمدرسة، قبل أن يتبين أن بيت الأسرة أصبح خرابا ولحسن الحظ لم يكن أي من أفراده بداخله. ناجون يعيشون التشرد الأحياء الذين كتب لهم عمر جديد، سواء بتمكنهم من الفرار لحظة وقوع الزلزال أو تم انتشالهم من تحت الأنقاض، تحولوا إلى جرحى ومشردين. وعاينت "الصباح"، كيف قضى السكان لياليهم في العراء، بعدما فقدوا أفرشتهم وأغطيتهم التي مازالت تحت الانقاض، باستثناء خيمة حصلوا عليها فضل رجال الدوار تخصيصها للنساء والأطفال، في انتظار وصول الأغطية والأفرشة التي يعول عليها لحماية المتشردين من البرد القارس. دروس في الصبر من الدروس المستخلصة في زيارة دوار تافكاغت، رغم هول الدمار وحجم الخسائر في الأرواح وألم فقدان الأحبة، فإن من تبقى من سكان الدوار المنكوب أصروا على البقاء في القرية التي تحولت إلى مقبرة وبقايا أطلال. وكشف عدد من الناجين من الزلزال، أنه رغم الألم الذي يعتصر القلب إلا أنه لا يمكنهم الرحيل عن قرية المنشأ والميلاد والعيش، مشددين على أن الارتباط بأرض الجدود لا يمكن أن ينتهي بسبب واقعة تعتبر قدرا محتوما.