محكيات أحمد الطالبي : اليوسفي وأبو أيوب يسهران على ترتيبات عودتي

من جحيم أوفقير إلى زنازين البركاوية بالجزائر استعرضت (في الحلقات الماضية) بعض التفاصيل، هي جزء من رحلة مضنية. فسحة تخللتها متاعب حاولت تبليغها عبر الكلمات. الكلمات لا تفي بكل المراد، عشت لحظات لم تكن الكلمة تسعفني وأنا استرجع رحيق مر السنين..وأداري وجعي وأقاوم وأنا استحضر ثلة من المنفيين واللاجئين الذين لم يكن وضعهم أحسن مني حالا. هذا البصيص من تجربة السجن والمنفى حين رويته كنت استهدف بالأساس الإسهام في إحياء الذاكرة حتى لا تتكرر مأساة أكثر سوءا أو أقل بهدف رسم أفق سياسي واجتماعي حضاري يؤمن حرية الرأي وينأى عن كل نزوع متوحش وعنيف، خدمة للمواطن.لذا لم أندم على ما أقدمت عليه، وما عانيت منه له ما يبرره، أنا الآن مرتاح البال ومتخوف على مآل جيل ليس جيلي، أو من سبقني بل الجيل الحالي والقادم..لذلك أنا اكتب هذه الذاكرة من أجل الشباب وأرجو أن تثري المستقبل، ولا أريد لهذا الجيل أن يكون جيل سجن ومنفى...حين اغتربت، كان حديث الهجرة لافتة ترفرف فوقق رأسي.حين سجنت، اعتبرته امتحانا في الثبات.حين عروني، أحسست نفسي ألبس ثوب الشرف.حين أساوم.. امتحان الضمير باختصار صنع مني القمع إنسانا في أوسع معانيه..وفي السجن أحببت الموسيقى والشعر..عرفت معنى التضامن وفي الغربة عمقت مفهوم الوطنية.ها أنا الآن بين ظهراني أهلي وأحبابي ورفاقي تسكنني أرواح الشهداء وجيل من المنفيين بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم انتهت بهم إلى الموت المفاجئ أو الانتحار...سواء بالمنفى أو بمجرد التحاقهم بالوطن..عانوا الأمرين غربة وأمراضا خبيثة لحقتهم بسبب الضغوط والكبت وويلات الإرهاب...لقد كانوا في أغلبهم رموزا للنضال الوطني ومنهم من برز على الصعيد الوطني ومنهم من ساهم في تأسيس المقاومة وقيادة جيش التحرير، ناهيك عن اليسار الجديد الذي دشن لجوءه بانتحار زميلي وشريكي في المقعد الجامعي ابن يوسف المناضل الرمز بوعبيد حمامة.لكل هؤلاء نقول على العهد باقون.في لقاء جمع مدير ديوان الوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي، والعربي عجول ومناضلين محدودين بباريس وأثير موضوع النظر في وضعيتي.التقيت مناضلا قديما وصديقا بباريس وسألني إن كنت أفكر في العودة، ذكرته بالموقف السابق..تحدثنا عن المتغيرات..لم أتردد..أثرت موضوع العمل وجواز السفر.وعدني بمتابعة ملف العمل على تتبع المسطرة العادية فيما يتعلق بالأوراق الإدارية. اتخذ قرار بإرجاعي لعملي.بقيت مسألة التسوية الإدارية، حيث عرفت عدة عراقيل وأخيرا التحقت بالمغرب لأكون أول منفي يدخل بما يسمى «لسي باصي» من باريس.اقترب الموعد المحدد والمعلن في الصحافة لالتحاقي بأرض الوطن 30 دجنبر 1999. واجهتني مشكلتان عويصتان: المشكل الأول: التذكرة..فكرت في الدخول بواسطة الحافلة، لكن الأصدقاء نصحوني بالدخول ولأول مرة بالطائرة في اتجاه الرباط أو الدار البيضاء..لكن لا سبيل لتوفير التذكرة، ابتعدت وفي سرية كاملة عن أصدقائي عفة وهروبا من هبة الناس. وجوابا عمليا على الذين اقترحوا إهدائي تذكرة سفر.المال الذي بين يدي اشتريت به تذكرة ذهاب فقط عبر القطار من باريس إلى مدريد وتذكرة ذهاب فقط من مدريد في اتجاه الدار البيضاء.. على أساس انتظار توفر قدر مالي لشراء تذكرة رجوع وبالطريقة نفسها البيضاء مدريد ثم باريس.المشكل الثاني: جواز السفر.. كانت العراقيل تستهدف تأخير عودتي خاصة، قد أعلن عنها في الصحافة. أما أنا، فقررت العودة في التاريخ المعلن وفي اليوم والساعة.لم أكن أتوفر على أوراق إدارية للعودة ولم يبق إلا يوم واحد للسفر والجهات الإدارية كانت تقول بأنها لا يمكن أن توفر الجواز في هذا التاريخ، طالبت بالإذن بالمرور بحيث لا يمكن لي تغيير الموعد. في اليوم نفسه، اتصل بي شخص من ديوان الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، هو الأخ محمد بن يحيى المستشار الصحفي للوزير الأول، ليطلب مني تأخير موعد الالتحاق بالمغرب، حتى تتم التدخلات لتسوية جواز السفر..رفضت مجيبا:اقترح علي السيد البصري الدخول في وقت معين فرفضت. الآن أنا الذي اخترت التاريخ والظرف، وسأغادر وأدخل بالجواز الفرنسي المسلم لي كلاجئ سياسي، حسب اتفاقية جنيف...وليحصل ما يمكن أن يحصل.اتصل ديوان الوزير الأول بالسيد حسن أبو أيوب، سفير المغرب بباريس وقتذاك، وصادف أنه يعرفني سابقا أيام كان طالبا بفرنسا فاتصل بقنصلية ليل لتسلمني ورقة الإذن بالعبور.علمت فيما بعد أن عبد الرحمان اليوسفي بقي في مكتبه لساعة متأخرة حتى يرعى بنفسه دخولي في أحسن الظروف ودون مشاكل أمنية.ما إن امتطيت الطائرة، حتى عشت لحظة الشرود الأبدي. ثلاثون سنة مرت ولم تبق إلا لحظات حتى أعانق الوطن. وما إن قبلت المضيفة بابتسامتها توزع بطاقات النزول التقطت الأنفاس حتى رجعت إلى رشدي..العنوان؟؟؟أين أسكن؟ كنت في غربتي أظن دائما أنني أسكن الوطن كله..أي عنوان أكتب؟ تذكرت عنوان الطفولة. تكدلت.. قبيلة المعذر.. تزنيت.. كلما اقتربت ساعة الهبوط تجدد خفقان القلب على نبرات الوطن. قررت أن أكون آخر من ينزل من الطائرة. أحسست بالاطمئنان وما إن اقتربت من الحاجز الأمني حتى سمعت هتافات وشعارات...لافتات...احتضنني الجميع، واختصر، لينتقل إلى لقاء خاص في قاعة أنوال..أحسست وكأني لم أغادر المغرب قط في تلقائية نادرة.ابتدأ الحفل..تحول إلى مهرجان خطابي.مات من مات من أفراد العائلة..ستتوفى زوجتي بعد معاناة دامت سنوات.ستكبر البنات..بثينة وأميمة وخولة.وبسبب طول مدة الغياب، ستتولد وضعية خاصة لا أستطيع وصفها أو التعبير عنها، تشكلت في علاقتي مع البنات. بنات لا يعرفن أباهن..بذلت أكثر من جهد لاسترجاع علاقة سوية..لكن ما حصل لن يسوى أبد الدهر..ما أعيشه الآن هو الحد الأدنى فقط مع بناتي..تعارف صداقة. أحاول تصحيح خطا غير شخصي لم أكن مسؤولا عنه بل أنا ضحيته الأولى..أبذل قصارى الجهد ماديا ومعنويا لإثبات الأبوة كأني أريد تعويض ما فات..لكن الواقع مر..أميمة في أحاديثنا تترجم هذا الواقع بوضوح..إنه الاغتراب داخل العائلة..على مستوى العمل...بذلت قصارى الجهد للاندماج...بل طلبت الالتحاق بالتدريس، وبشغف، لكن وجدت نفسي أمام تحديات حقيقية ...انقطاع عن التدريس مند ثلاثين سنة ..تغييرات في المناهج والبرامج. كنت أمام اختيار صعب، ما جعلني أتقدم بطلب التقاعد النسبي...رغم انه لم ييق لي للحصول على التقاعد العادي إلا بضع سنوات...أريد أن أكون مرتاحا مع ضميري...أستطيع أن أصارحكم أنني في الواقع أعيش اغترابا إضافيا لمنفاي السابق...قد تتوقعون أن إخوتكم المنفيين، ومن النفي ما قتل يبدؤون حياة جديدة ...ممكن.. إعداد: يوسف الساكت

محكيات أحمد الطالبي : اليوسفي وأبو أيوب يسهران على ترتيبات عودتي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جرائم الأصول : قتل والده بدم بارد

اعتقال امرأة تسطو على ذهب صديقاتها بآسفي

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات