دراسة في القانون … المحاكم التجارية دعامة أساسية لتشجيع الاستثمار
مع تزايد وتيرة الظواهر الاقتصادية والمالية وتكاثر القوانين التي تهدف الى تنظيم النشاط الاقتصادي، أصبحت المحاكم التجارية إحدى أهم الضمانات القانونية لحماية الاستثمار الأجنبي والوطني، وهو ما جعل معظم الدول تولي اهتماما كبيرا لمحاكمها التجارية والدور الذي تقوم به في التحفيز على الاستثمار، إذ تختلف المحاكم التجارية عن غيرها من المحاكم الأخرى بطبيعة القضايا المعروضة عليها، بالإضافة الى طبيعة أطراف النزاع الذين غالبا ما يكون ولوجهم الى هذه المحاكم بطريقة اعتيادية نظرا للحركية الدائمة والمستمرة التي تعرفها مصالحهم وحقوقهم.
يتعين إيلاء عناية خاصة للتكوين المتخصص لمختلف مكونات منظومة العدالة 2/1
لم تعد المحاكم التجارية تمارس صلاحياتها مرفقا عاديا للعدالة، بل أصبحت تتمركز أكثر من أي وقت مضى في سياق دولي، قادر على تحسين مناخ الاستثمار وفتح آفاق متعددة، إلى جانب دورها الأساسي المتمثل في ضمان حماية حقوق المواطنين من الممارسات التعسفية.
تحسين صورة القضاء التجاري وتقوية ثقة المتقاضين فيه سواء كانوا مغاربة أو أجانب، أصبح أمرا ضروريا للنماء الاقتصادي، إذ أصبح الرهان على القضاء التجاري أكبر لحماية الاستثمار الأجنبي والوطني، وعلى هذا الأساس أصبح من الضروري توفير قضاء متخصص وسريع لحل المنازعات المرتبطة بالاستثمار، وفي هذا السياق أكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس في الرسالة الموجهة إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة الذي افتتحت اشغاله يوم الاثنين 21 أكتوبر 2019 بمراكش، تحت شعار “العدالة والاستثمار.. التحديات والرهانات”. ما يلي:
“لقد أكدنا في مناسبات عديدة، على ضرورة وضع رؤية إستراتيجية في مجال تحسين مناخ الأعمال. رؤية قوامها توفير بيئة مناسبة للاستثمار، واعتماد منظومة قانونية حديثة ومتكاملة ومندمجة، تجعل من المقاولة رافعة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ولهذه الغاية، أصدرنا توجيهاتنا للإسراع بإخراج الميثاق الجديد للاستثمار، وإصلاح مراكزه الجهوية، وتمكينها من الصلاحيات اللازمة للقيام بدورها على أكمل وجه، ووضع حد للعراقيل التي تحول دون أدائها للدور المنوط بها. كما ألححنا في أكثر من مناسبة على ضرورة تبسيط مساطر الاستثمار، وتحيين برامج المواكبة الموجهة للمقاولات، وتسهيل ولوجها للتمويل، والرفع من إنتاجيتها، وتكوين وتأهيل مواردها البشرية. «
وقد عرفت الساحة القانونية والقضائية في الآونة الأخيرة نقاشا كبيرا حول مشاريع القوانين المقترحة، خاصة منها المرتبطة بالعمل داخل المحاكم، منها مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع رقمنة الإجراءات القضائية، وبالتالي تبقى المحاكم الأرضية الوحيدة لتطبيق هاته القوانين وقت صدورها، الأمر الذي أصبح معه استحضار مبدأ التناسب بين القوانين الجديدة وكيفية تدبير عمل المحاكم التجارية امرا ضروريا، من خلال التفكير المسبق لمختلف الفاعلين بقطاع العدالة في توفير الظروف الملائمة لتطبيق القوانين الحديثة، وكسر حاجز الممارسة القضائية الكلاسيكية. و قد فرض المشرع المغربي التقيد بالمسطرة الكتابية أمام المحاكم التجارية والتعامل مع المتقاضين عبر وكلائهم من المحامين الذين يمارسون مهام الدفاع في إطار الصلاحيات المخولة لهم قانونا، وما يفرض عليهم القانون المنظم لمهنة المحاماة، وبالتالي فإن النهوض بأوضاع المحاكم التجارية لن يتطلب جهدا كبيرا بالمقارنة مع المحاكم العادية، لأن التعامل مع مساعدي القضاء الذين يتوفرون على دراية قانونية في التعامل مع المساطر القضائية، من شأنه أن يسهل عملية التواصل بين مختلف الفاعلين، ولأن الجهود المستمرة التي تبذلها المحاكم التجارية من أجل مواكبة التطورات السريعة والمتنوعة للاقتصاد أصبحت تأخذ بعدا جديدا، من أجل ضمان المطلب الأساسي المتمسك به من طرف المستثمرين وهو توفير الأمن القضائي لهم وحماية استقرار معاملاتهم التجارية. والاستقرار الضروري للمعاملات التجارية و الاقتصادية لا يتحقق إلا من خلال التحسين المستمر في الأداء للمحاكم التجارية ولعمليات صنع القرار، من خلال البحث المستمر عن الجودة في الأداء، لتكون بذلك المحاكم التجارية قادرة على حماية هذا المبدأ الذي يتشبث به المتقاضون وتستجيب لشرط الحداثة و تعمل على اكتساب معايير الجودة، لأن السبب الرئيسي لإقبال المستثمرين الأجانب على سلوك مسطرة التحكيم أو اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات، راجع لتعقيد الأنظمة القانونية أمام المحاكم، مقابل ما أصبحت توفره هذه الوسائل من ضمانات للمستثمرين وقت إبرام عقود الاستثمارات الأجنبية، لأن التعامل بمنطق التجارة الدولية يقتضي تفادي الحدود الاقتصادية بين الدول، وتوفير الظروف الملائمة للراغبين في سلوك المساطر البديلة، باعتبارها أداة فاعلة تحمي حقوق المستثمرين الأجانب، وهو ما أكد عليه جلالة الملك من خلال الرسالة الملكية السامية الموجهة للمشاركين في الدورة الثانية لمؤتمر مراكش الدولي حول العدالة والاستثمار الذي أكد فيها جلالته ما يلي :
حضرات السيدات والسادة،
لقد مر ربع قرن على إحداث المحاكم التجارية في بلادنا، وهي مناسبة سانحة لتقييم هذه التجربة، والنظر في سبل تطويرها، بالعمل على تعزيز المكتسبات، واستشراف آفاق جديدة تستلهم أنجح التجارب عبر العالم، على غرار فكرة محاكم الأعمال، التي بدأت تتبناها بعض الدول.
وترسيخا لهذا التوجه، يتعين إيلاء عناية خاصة للتكوين المتخصص لمختلف مكونات منظومة العدالة، عملا على رفع قدرات المحاكم في إصدار الأحكام العادلة والملائمة، داخل آجال معقولة. وهنا نشير إلى دور المحاكم العليا في توحيد الاجتهاد وتفسير القاعدة القانونية، وهي مناسبة لتثمين الرصيد المهم الذي راكمه القضاء التجاري بالمغرب في هذا المجال، كقضاء متخصص.
وفي السياق نفسه ، ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية والقضائية، وتبني خيار تعزيز وتعميم لامادية الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية، والتقاضي عن بعد، باعتبارها وسائل فعالة تسهم في تحقيق السرعة والنجاعة، وذلك انسجاما مع متطلبات منازعات المال والأعمال، مع الحرص على تقعيدها قانونيا، وانخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي.«
وفي هذا الصدد قام المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتنزيل المخطط الإستراتيجي 2021 -2026 لعمل المؤسسة، الذي يعتبر مجهودا كبيرا ومتنوعا من حيث الأوراش المعتمدة والإجراءات المتخذة بكافة الجوانب المحيطة بالعمل القضائي، إذ تعتبر هذه الوثيقة أول إستراتيجية للمجلس منذ تنصيبه من طرف جلالة الملك بتاريخ 06 أبريل 2017، وقام من خلالها بتحديد الأهداف التي من شأنها أن تحسن من أداء عمل المؤسسة وعمل القضاة، وذلك عبر تبني مقاربة تشاركية تهدف الى تخليق القضاء والرفع من قدرات القضاة والزيادة من منسوب نجاعة أدائهم وتقوية الملكات القانونية لديهم وتأطير سلوكهم، بالإضافة إلى دعم نزاهتهم واستقلالهم وحيادهم وتجردهم، وهو ما جاء في كلمة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة افتتاح السنة القضائية لسنة 2022 الذي أكد على:
“ولعل أهم ما ميز السنة الماضية هو تبني المجلس لإستراتيجية عمله الأولى للفترة ما بين 2021 و2026. وقد استهدفت هذه الإستراتيجية إتمام تأسيس هياكل المجلس وتأطير علاقاته بالقضاة وبالمحيط وبمؤسسات العدالة، بالإضافة إلى إسهامه في النجاعة القضائية ودوره في تخليق القضاء وتأطير المسؤولين القضائيين والقضاة للحفاظ على قضاء مستقل محايد متجرد، متشبع بالقيم الأخلاقية الفضلى وبالنزاهة والاستقامة، ومحافظ على المبادئ الناظمة لمهنة القضاء، كما حددها الدستور والقانونان التنظيميان للمجلس والنظام الأساسي للقضاة”.
بقلم مريم الداودي: دكتورة في الحقوق