خاص

من خليج الخنازير الى أوكرانيا… ترتيبات نظام عالمي جديد

حرب اقتصادية وإعلامية ورقمية بين روسيا وحلفاء كييف

بقلم: عبد الله بوصوف(*)

كثيرا ما نستحضر لعبة الشطرنج عند الحديث عن إدارة النزاعات و الملفات السياسية الكبرى ونُسْهب في مدى تماهي خطط اللعب والتكتيكات وتراتبية الفاعلين الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري والإعلامي وغيرهم…
وما نعيشه اليوم من سيل جارف من المعلومات حول الحرب الساخنة في أوكرانيا وتعدد القراءات سواء حول أسباب نزولها أو حول مآلات الصراع الدائر هناك… يجعلنا بحق أمام لعبة شطرنج سياسية من نوع جديد ترتكز على خلفية صراع سياسي وإيدولوجي قــديم..عرف أولى بداياته مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بالحرب الباردة وسقوط حائط برلين وتسمية موسكو”الوريث الوحيد” لكل تركة الاتحاد السوفياتي بما فيها الترسانة العسكرية، خاصة الأسلحة النووية والعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي أي “حق الفيتو”… في مقابل ذلك انضمام العديد من بلدان المعسكر الشرقي إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي (الناتو)…
لا يمكن الجزم و القول، بأن يوم 24 فبراير من 2022، هو يوم إعلان الحرب باجتياح القوات الروسية للحدود السيادية لدولة أوكرانيا، بل هو فقط حلقة ضمن مسلسل طويل من التصعيد والتهديد وتبادل الرعب، توقف قليلا في محطة جزيرة القرم سنة 2014 بفصلها عن أوكرانيا وضمها لروسيا وتوقيع “معاهدة مينسك” عاصمة بيلاروسيا… وهي المعاهدة التي أجلت الصراع ولم تُـنهه، لأنها تضمنت قراءات تختلف حسب مصالح كل جهة، فأوكرانيا كانت تفضل ترتيب العملية العسكرية أولا ثم السياسية ثانيًا، أي إجلاء القوات الروسية ومليشيات الانفصاليين ثم إجراء انتخابات حرة تحت الحكم الفدرالي الأوكراني، في حين أن روسيا كانت تفضل العملية السياسية أولا ثم العسكرية ثانيا، أي إجراء الانتخابات أولا ثم العملية العسكرية بمغادرة القوات الروسية… وهو ما يعني استمرار التوتر في المنطقة… وصولا إلى أبريل من 2019 والفوز الكاسح للممثل “زيلينسكي” ذي الميولات الغربية على “بيترو بوروشينكو” بنسبة كبيرة …

“الناتو” يقلق روسيا

لتأتي خطوة موسكو بإرسال الجيوش إلى الحدود الأوكرانية مع مراسلة إلى كل من حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية في نهاية 2021، تضمنت المراسلة شروطا جديدة عـرت عن بعض حقائق الصراع، وهي وقف انضمام دول المعسكر الشرقي السابق إلى حلف الناتو، ومراجعة خريطة الصواريخ الأمريكية بدول أوربا… ستتبعها منذ العاشر من يناير 2022 سلسلة من اللقاءات والمفاوضات سواءً حضورية وعن بعد بين مسؤولين روس وأمريكيين وقـادة الناتو… لكن دون نتيجة واضحة والعودة للنقطة الصفر…
ومن جديد سنعود للعبة الشطرنج بتحريك ملفات وفـاعلين وبتوظيف قـوة الإعلام بما فيها ترويج الأخبار الزائفة، وتحريك الآلـة الدبلوماسية وتوظيف فضاءات استقبال الرئيس بوتين لـضيوفه في تأجيج الصراع مثل جلوسه بعيدا عن الرئيس الفرنسي ماكرون على طرفيْ طاولة كبيرة، فسرها العديد من المحللين بتباعد وجهات النظر بين الروس والأوروبيين في الملف الأوكراني أو خرقه للأعراف الدبلوماسية بخروجه منفردا بعد مؤتمرات صحفية وبدون أخذ صور، سواء مع ماكرون أو المستشار الألماني أولاف شولــز… وتبادل الاتهامات وشيطنة الآخــر على المنصات الرقمية خاصة التويتر والفايسبوك و المواقع الإعلامية العالمية…

مزيج بين حرب باردة وساخنة

ما يـدور الآن في أوكرانيًا هو شيء أكبر من حرب تقليدية، هو مزيج بين حرب باردة وأخرى ساخنة… هو أكبر من اعتراف بوتين باستقلال أراض كانت تابعة لسيادة أوكرانيا حتى يقوم تبرير حماية الانفصاليين “شرعنة” الغزو الروسي لأوكرانيا..
هو استمرار لتوازن الرعب بين روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي وأمريكا… هو نسخة جديدة من أزمة “خليج الخنازير” بكوبا لسنة 1962 بين كينيدي وخورتشوف، لكن بمساحيق جديدة وتطور رهيب في الإعلام الرقمي وأدوات العمل ألاستخباراتي والدبلوماسي… هو نسخة جديدة من صراع أيديولوجي قديم / جديد بين قـيـم الديمقراطية والحريات وإحداثيات السيادة الوطنية.. وصراع المصطلحات بين الغزو والاعتداء والأنظمة الشمولية من جهة والتدخل العسكري الخاص وحماية الحدود من جهة ثانية…
لقد رصدت المتابعات الصحفية هجرة الآلاف من المواطنين الأوكرانيين وغيرهم من الأجانب والطلبة (ومنهم مغاربة أوكرانيا) إلى الدول المجاورة، كما رصدت معاناة الاستقبال وأزمة النقل الجوي وارتفاع أسعار المواد الأولية والبترول وتوقف الاستثمارات… حتى قبل يوم 24 فبراير من جهة، وتبادل التهديدات بين كل من روسيا والاتحاد الأوربي والناتو وأمريكا… من جهة ثانية… وهو ما يعني تفاقـم هذه الأوضاع بعد الاعتراف باستقلال إقليمي “لوغانسك” و”دونيتسك” الأوكرانيين وبعدها علا صوت الرصاص وسقوط القتلى والجرحى وتضاعف عدد اللاجئين…
وهو ما تطلب جولـة جديدة في لعبـة الشطرنج وإخراج أورق جديدة سواء من طرف بوتين وتهديده بمصير سيء لكل جهة خارجية حاولت التدخل في صراعه مع الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” واللعب بورقة الغاز الطبيعي من جهة، وإعلان دول الغرب والناتو بفرض العقوبات الاقتصادية والفصل عن النظام البنكي العالمي swift وتقديم مساعدات مالية ومعدات حربية، والتعهد باستقبال اللاجئين بدول الجوار كمولدافيا وهنغاريا وبولونيا ورومانيا وألمانيا من جهة أخرى.
لقد تحركت الآلـة الدبلوماسية الغربية بوتيرة أسرع خاصة المفوضة الأوربية، والتي صرحت رئيستها بإمكانية الضم السريع لأوكرانيا ضمن عائلة الاتحاد الأوربي، وتنظيم سلسلة من الاجتماعات التنسيقية بين وزراء الاتحاد الأوروبي ببروكسيل، أو من خلال المشاركة المكثفة في “مؤتمر ميونيخ للأمن” يوم 23 فبراير، والذي غابت عنه روسيا لأول مرة منذ 1991، مع توظيف توصيات “منتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعي” المنعقد بدولة قطر في 22 فبراير والتي تعهدت بتعويض السوق الأوربي بحصة روسيا من الغاز الطبيعي أي الثلث.
إن ما يدفعنا للقول، بأن الحرب على أوكرانيا ليست حربا تقليدية ولا تشبه باقي الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فلأنها تجري على أكثر من ميدان.. ففي مجال الإعلام فقد تم حجب كل من قنوات “روسيا اليوم” و”موقع سبوتنيك” من فضاء دول الاتحاد الأوربي، وفي مجال الرياضة فقد تم إقصاء روسيا من كاس العالم بقطر 2022، وفي مجال الـنقـل فقد تم إغلاق المجال الجوي للاتحاد الأوربي أمام الطيران الروسي، وفي مجال العالم الرقمي فقد تميزت بعمليات القرصنة واختراق مواقع مؤسسات بنكية ومالية وأمنية، وفي مجال المال والأعمال فقد تهاوت البورصات وعملة “الروبل الروسية” إلى مستويات قياسية مقارنة مع الدولار الأمريكي والأورو الأوربي…

الغاز الروسي… نقطة تحول

لكن ملفات الغاز الطبيعي والنظام البنكي SWIFT حظيا باهتمام إعلامي وسياسي كبيرين وبقراءات عديدة تسوق القارئ إلى خُلاصات قـوية، ومن ضمنها أن الغاز الروسي مثلا، سيُشكل سلاحا قويا في اختراق دول الاتحاد الأوربي وفصلها عن التحالف السياسي والاقتصادي مع أمريكا.
والحديث هنا لا يعني أنبوب ستريم نورد 2 الذي سيزود أوربا بـ 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا، والذي ساهمت في إنجازه شركات أوربية عملاقة من فرنسا وألمانيا وهولندا وإنجلترا، إلى جانب شركة “غازبروم” الروسية بقيمة 30 مليار دولار، ولا تنقصه سوى بعض التصريحات الإدارية الألمانية.. مع التذكير باعتراض إدارة ترامب على أنبوب ستريم نورد 2 وأنه سيرهـن استقلالية القرار الأوربي.
بل كان تزويد أوربا بالغاز الروسي مناسبة لتأجيج الصراع الأمريكي مع المعسكر الشرقي، فـقـد نشرت “نيويورك تايمز” مثلا في يونيو 1982 مقالا حول انقسام المعسكر الغربي بمناسبة اتفاق الاتحاد السوفياتي بتزويد الدول الأوربية بالغاز، وأن إدارة “ريغان” لم تكن راضية عن بناء أنبوب الغاز الرابط بين سيبريا ودول أوربا ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والتي كلفها الأنبوب حوالي 15 مليار دولار… تلك الدول فضلت خسارة كُـلفة البناء أي 15 مليار دولار على خسارة التحالف مع أمريكا.
فأمريكا ضد أنبوب ستريم نورد 2 المار عبر بيلاروسيا الحليف التاريخي والسياسي لروسيا، ومع استمرار أنبوب GTS UCRAIN المار عبر هنغاريا، وهو ما ترفضه بشدة روسيا بوتين التي خفضت كثيرا من صبيب أنبوب أوكرانيا في انتظار إغلاقه نهائيا… في الوقت نفسه سعت أمريكا إلي ضمان تدفق الغاز الطبيعي إلى منازل وشركات أوربا من خلال بعض الدول كمصر والجزائر التي ضاعفت في الإمدادات خلال يناير، وهو ما سيجعلها في مواجهة مع رفاق الأمس “روسيا بوتين” ورفاق المعسكر الشرقي مستقبلا، بالإضافة إلى دولة قطر ودول أخرى…
لقد فضلت دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الحرب الاقتصادية والإعلامية والرقمية، لأنها تعلم جيدا أنها ستصيب روسيا في مقتل، وأنها عندما عزلت بنـوكـا روسية بعينها مثل Sberbank وVTB من النظام العالمي SWIFT، فلأنها تعلم أن بنك Sberbank مثلا هو المكلف بتصريف المعاشات والأجور وهو ما يعني أنها تسعى إلى ضرب الاستقرار الاجتماعي، لأن أي كلفة اقتصادية لها كلفة اجتماعية.
لكن المثير في هذه الحرب هو خروج دولة سويسرا عن حيادها بإعلانها عن عقوبات ضد روسيا بوتين، وإعلان ألمانيا عن تخصيص 100 مليار أورو سنويا للتسليح في تطور نوعي مهم له ما بعده لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
إننا نعيش اليوم السابع من اجتياح الحدود الأوكرانية بكل مآسيها، حيث العالم يحبس أنفاسه في انتظار الكشف عن أوراق جديدة في لعبة شطرنج مثيرة بين لاعبين كبار يعرفون جيدا بعضهم البعض، لذلك فإعلان نهاية اللعبة أو الحرب سيكون إعلانا عن نهاية ترتيبات النظام العالمي الجديد… سننتظر..
(*) الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات

نود أن نشكركم على زيارتكم لموقعنا. لكننا نود أيضًا تقديم تجربة مميزة ومثيرة لكم. لكن يبدو أن مانع الإعلانات الذي تستخدمونه يعيقنا في تقديم أفضل ما لدينا.