تأملات في مدونة الأخلاقيات القضائية

التشريع حكر على السلطة التشريعية وواجبات القضاة والتزاماتهم محددة في الدستور نظم دستور المملكة لسنة 2011 السلطة القضائية وأفرد لها بابا خاصا بها، وكان حريصا على ضمان استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولأجل تحقيق هذه الغاية حرص الدستور على تأكيد حق القضاة في ممارسة حرية التعبير بشكل فردي أو ضمن جمعيات مهنية. كما أحال على إصدار قانونين تنظيميين أحدهما يتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والثاني بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. كل ذلك من أجل ضمان تنظيم تشريعي للسلطة القضائية وللمجلس المعهود إليه بتدبير وضعية القضاة يراعي المبادئ الدستورية الهادفة إلى ضمان حقوق القضاة وتأطير واجباتهم بشكل يرمي إلى تمكين السلطة القضائية من ممارسة مهامها على أكمل وجه. ورد مفهوم الأخلاقيات القضائية في الدستور المغربي في الفصل 111 منه بتنصيصه على أن: للقضاة الحق في حرية التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية. كما أورد النظام الأساسي للقضاة مصطلح الأخلاقيات القضائية ضمن المادة 44 منه: يلتزم القاضي باحترام المبادئ والقواعد الواردة في مدونة الأخلاقيات القضائية. في حين نصت المادة 106 من قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية على أنه: يضع المجلس بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة مدونة للأخلاقيات القضائية تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية وذلك من أجل: -الحفاظ على استقلالية القضاة وتمكينهم من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية. – صيانة هيبة الهيأة القضائية التي ينتسبون إليها والتقيد بالأخلاقيات النبيلة للعمل القضائي والالتزام بحسن تطبيق قواعد حسن سير العدالة – حماية حقوق المتقاضين وسائر مرتفقي القضاء والسهر على حسن معاملتهم في إطار الاحترام التام للقانون – تأمين استمرارية مرفق القضاء والعمل على ضمان حسن سيره. كما أضافت المادة نفسها أن هذه المدونة تنشر بالجريدة الرسمية وأن المجلس يشكل طبقا لمقتضيات المادة 52 من القانون المنظم له لجنة للأخلاقيات القضائية تسهر على تتبع ومراقبة التزام القضاة بالمدونة المذكورة. تطبيقا للنصوص القانونية المذكورة أصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية مدونة للأخلاقيات القضائية تم نشرها بالجريدة الرسمية بتاريخ 8 مارس 2021 تحت عدد 6967، فهل كان المجلس موفقا في إخراج هذه المدونة، سواء من حيث طريقة إعدادها أو من حيث صياغتها ومضامينها، وهل كانت شاملة في مقاربتها للمنظومة الأخلاقية للقضاة؟ وقبل ذلك ما هي القيمة القانونية للمدونة أو بالأحرى ما هي طبيعتها، هل هي نص قانوني أم مجرد قرار إداري ذي طبيعة تنظيمية أم أنها مذكرة داخلية توجيهية على سبيل التوجيه والتأطير والاسترشاد ليس إلا؟ ومعلوم أن مجال القانون حدد من طرف الدستور سواء من حيث موضوعه ونطاقه أو من حيث السلطة المختصة بسنه -السلطة التشريعية -وهو غير قابل للتفويض لأي جهة كانت، في حين أن مجال التنظيم هو من اختصاص السلطة التنفيذية ويشمل مختلف النصوص التنظيمية التي تنفلت من مجال القانون. من هذا المنطلق لا يمكن القول إن المدونة بمثابة تشريع منظم لالتزامات القضاة، لأن التشريع حكر على السلطة التشريعية كما أن واجبات القضاة والتزاماتهم محددة في الدستور وكذا في القانون التنظيمي بمثابة نظام أساسي للقضاة الذي لا يمكن أن يدخل حيز التنفيذ إلا بعد البت في مطابقته للدستور من قبل المحكمة الدستورية. ولا يمكن لمدونة سلوكية مهنية أن ترقى إلى مرتبة نص قانوني يفرض على القضاة واجبات إضافية أو تحرمهم من حقوق غير مقيدة بنص الدستور أو القانون. في حين أن القول بطبيعتها الإدارية التنظيمية فهو أمر يزعزع ثباتها لأنها ستكون عرضة للطعن بالشطط أو التجاوز في استعمال السلطة أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض باعتبارها أعلى هيأة قضائية بالمملكة وهي الهيأة المختصة أيضا بالبت في الطعون المقدمة ضد القرارات الفردية المتعلقة بتأديب القضاة المدانين من قبل المجلس من أجل مخالفات مهنية ومن بينها المخالفات المؤسسة على خرق مقتضيات المدونة المذكورة حسب ما يتبين من إرادة واضعها. تأسيسا على ما سبق نميل إلى القول بأن مدونة الأخلاقيات القضائية بمثابة مبادئ توجيهية تؤطر سلوك القضاة بشكل لا يتجاوز اختصاصات التشريع و لا يخالف القوانين، وبالتالي فهي أقرب إلى القاعدة الأخلاقية منها إلى القاعدة القانونية التي تتميز عما سواها بالقوة الإلزامية، سيما عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحريات الأساسية للمواطنين المنصوص عليها في الدستور من قبيل حرية الفكر والرأي والتعبير والحق في حماية الحياة الخاصة وسرية الاتصالات الشخصية وحرية التنقل والحق في الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي وتأسيس الجمعيات و الحق في الإضراب. وأن كل الحقوق والحريات المذكورة لا يمكن تقييدها إلا بقانون. وما يزكي هذا الطرح هو ديباجة المدونة التي نصت على: إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يضع هذه المدونة بهدف توفير إطار مرجعي للقضاة يسمح بالتعريف بأخلاقياتهم، ويشكل في نفس الوقت دليلا للقاضي من أجل دعمه وتوجيهه بشأن ما ينبغي عليه التحلي به من صفات والالتزام به من مبادئ لازمة لتقلد رسالة القضاء، وما يتعين عليه اجتنابه من ممارسات وسلوكات، وما قد يترتب من جزاء عن أية مخالفات. وبخصوص الإطار المرجعي للمدونة فقد نصت في ديباجتها أنها اعتمدت على معايير السلوك القضائي المتعارف عليها دوليا، والمتمثلة أساسا في مبادئ بانغالور ومبادئ الأمم المتحدة حول استقلال السلطة القضائية والقواعد المكرسة في بعض المدونات الأوروبية مثل فرنسا وبلجيكا وكندا. وهو ما يعطي انطباعا على الطابع الكوني لمدونة السلوك القضائي. إلا أن وجه القصور في إعداد المدونة هو عدم بيان المنهجية التشاركية التي اتبعت في إعدادها وهل كانت اقتراحات الجمعيات المهنية للقضاة متطابقة بهذا الخصوص أم أنها عرفت تباينا ملفتا خاصة في ما يتعلق بأشكال ممارسة الحرية في التعبير وكيفية تجسيد مبدأ التضامن بين القضاة، في حين أن القول باستحضار مجموعة من القواعد الأخلاقية التي تمت مراكمتها من خلال المساطر التأديبية التي بت فيها المجلس نفسه بقي مجردا من تعزيزه بما يفيد نشر القرارات التأديبية المذكورة و الاطلاع على التعليل الذي اعتمده المجلس، خاصة وأن هذه القرارات لم يكتب لها لحد الساعة معرفة رأي الغرفة الإدارية بمحكمة النقض بخصوصها في إطار المراقبة القضائية المكفولة دستوريا. فهل كانت المقاربة التشاركية التي اعتمدها المجلس كافية لعرض مختلف التصورات وبالتالي مراعاة الاختلاف الوارد في تسطير بعض القواعد والإجراءات التي سطرتها المدونة؟ أولا: سؤال المقاربة التشاركية. إن التشاركية في نظرنا تقتضي إحاطة الجمعيات المهنية للقضاة بكل مسودة أعدها المجلس من أجل تمكين هذه الجمعيات من الإدلاء برأيها في الموضوع وتنشيط النقاش بخصوصها والتفاعل حول مضامينها بعقد لقاءات حضورية وغيرها من وسائل التناظر تعرض مختلف الأفكار والتصورات إلى حين الوصول إلى مشروع نهائي للمدونة تحصر فيه النقط التي وقع عليها الإجماع فتكون بمثابة ميثاق قضائي ذي مشروعية لا خلاف حولها في حين يتم تأجيل النقط التي لم يقع عليها إجماع إلى مناسبات لاحقة. لذا يمكن القول إنه كلما كانت المقاربة التشاركية فعالة وناجعة كلما كان بالإمكان إعداد مدونة ذات جودة أسلوبا ومضمونا. وأن يتأخر النص ويأخذ مزيدا من الوقت في التفكير والنقاش خير من أن يخرج رديئا أو معيبا. * عضو نادي قضاة المغرب

تأملات في مدونة الأخلاقيات القضائية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الاستهلاك يرتفع بـ 16.3 % في شهر الصيام

بودراع: اللعب أثناء الصيام صعب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات