“دار المقري”… مقام برائحة الموت

اتخذته الأجهزة السرية سجنا فيه أبشع صور التعذيب مر منه الرئيس المصري السابق حسني مبارك في وصفه لزاوية دار المقري، يقول مومن الديوري، أحد الذين زاروا المكان بعد اتهامه في أحداث مؤامرة الانقلاب سنة 1963، في كتابة «بلاغ إلى الطاغية»، «خيل إلي أنني في قاع بئر، طرقت مسامعي تنهدات مستمرة وصرخات متأوهة وسعال وأصوات نساءٍ ورجال وأطفال.. أخيراً رفع الحارسُ العصابةَ عن عيني. بدا لي أنني أرى كائناتٍ بشرية معلقة من أرجلها في السقف ورأسها إلى الأسفل. فكرت أن عيني قد غشيتا لانتقالهما من الظلمة إلى النور. خلال دقيقة وستعود رؤيتي واضحة وسأجد هؤلاء الأشخاص جلوساً أو وقوفاً. لم يكن ما رأيت خطأ أو خديعة فالصورة حقيقية فعلا.. رجال ونساء مقيدون ومعلقون بالسقف بكلاب حديدي رُبط إلى حبل، وعلى الأرض أطفال يرفعون رؤوسهم نحو أمهاتهم وآبائهم وهم ينتحبون وقد أضناهم التعب والبكاء.. وجوههم الصغيرة متسخة بالدموع.. لا عمر لهذه الكائنات الصغيرة التي بدت قريبة من الاحتضار.. رائحة رهيبة من نتن.. منذ كم من الليالي والأيام يتخبط هؤلاء في هذا المكان؟».تعكس هذه الصورة قذارة المكان، في زمان يوصف اليوم بسنوات الرصاص، فقد اتخذت الأجهزة السرية من دار المقري، سجنا خارج القوانين والأنظمة، وحولته، بمكر تاريخي، إلى وكر تمارس فيه أبشع صور التعذيب والتعنيف. من المكان نفسه، مر الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، بعد إسقاط طائرته في حرب الرمال بين المغرب والجزائر، سنة 1963. كان النظام المصري يومها قد أرسل فيلقا من سلاح الجور لدعم القوات الجزائرية التي جرت خيبات الهزيمة.ويحاول مصطفى العلوي، في مذكراته «صحافي وثلاثة ملوك»، رسم صورة هذه الواقعة في دار المقري، بالقول: «بينما كنت نائما معصوب العينين، سمعت صخبا واهتزازا كالزلزال حول دار المقري، وحركة وصياحا وكأن الأمر يتعلق بهجوم على تلك الدّار. وإذا بباب الغرفة يفتح في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فسارعت إلى الركون إلى أحد أركان الغرفة في خوف وارتعاش، ثم سمعت أصوات أجساد ومعها أصوات سلاسل بدا أنها مربوطة بها، وتوالت أصوات تلك الأجساد التي تلقى داخل الغرفة واحدا تلو الآخر. وفي كل مرة أسمع صوت السلاسل حين تضرب الأرض رفقة تلك الأجساد. ثم أغلق الباب وتوقفت الحركة، وهدأ الوضع لفترة قصيرة، قبل أن يشرع هؤلاء الوافدون الجدد في تبادل همسات، وإذا بواحد منهم يتحرك زاحفا ليبحث بيديه عما يوجد في تلك الغرفة، وضع يده عليّ ثم سحبها بسرعة وعاد إلى رفاقه ليخبرهم بلهجة مصرية: "فيه حد هنا". لقد كان الأمر يتعلّق بالضباط المصريين الذي ألقي عليهم الجيش المغربي القبض في موقع «حاسي بيضا» ومن بينهم الرئيس حسني مبارك.لقد كان زوار الدار كثرا، في منتصف الستينات تحديدا، فقد ظلت تعج بالكثير من المعتقلين والمناضلين، من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من الذين اعتقلوا على خلفية مؤامرة 15 يوليوز 1963. فقد مر من عذابات دار المقري، الحبيب الفرقاني والمهدي بنبركة والفقيه البصري وآخرون.. كما عبرت المكان نفسه، زوجة شيخ العرب وأبوها وابناها. في "دار المقري"، أيضا، جرى تذويب جثة المهدي بن بركة، في حامض الآسيد، فقد تم نقله من باريس، جثة هامدة، والعهدة على عميل المخابرات السابق أحمد البوخاري، وجرى تصوير المشهد الكامل لعملية الإذابة، وتسلم الشريط، الجنرال أحمد الدليمي، واختفت الحقيقة إلى اليوم.زوار الدار يتذكرون فظاعاتها اليوم، ويحكون بألم عن تجارب قاسية تحفظها جدران "دار المقري"، وهي التي كانت ذات يوم بيتا لسلطان حكم المغرب، بإيعاز من فرنسا إبان فترة الاستعمار، فاستعادتها الدولة، بعد الاستقلال، وحولتها، بغير قليل من المكر، إلى سجن يسقط فيه الناس واقفين. إحسان الحافظي

“دار المقري”… مقام برائحة الموت

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بالأرقـام

المقري...اللغز الأعظم

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات