مظاهر البداوة … أريري: بـؤر “الحكـرة”

أريري: نسبة الهشاشة مقلقة والكثافة السكانية رهيبة في بيئة غير كريمة أكد عبد الرحيم أريري، مدير أسبوعية الوطن، أن أوضاع العاصمة الاقتصادية، لا ترتبط بتدبير مرحلي، لكن ما وصلت إليه نتيجة تاريخ وإرث معقد، جعل منها مدينة الريع والغنيمة، مبرزا أن الأحداث الإرهابية لـ 16 ماي 2003، شكلت صحوة لدى السلطات من أجل التحرك السريع لمحاربة الفقر والتهميش. وشدد مدير موقع "أنفاس بريس"، على أن الأحياء الهامشية للمدينة، ترزح تحت وطأة الحرمان، من الخدمات الأساسية وبرامج التنمية، وأن بعضها مرتبط بتقاعس مسؤولي المدينة، في تنفيذ البرامج بسبب حسابات شخصية وضيقة. في ما يلي نص الحوار: أجرى الحوار: عصام الناصيري < ما هو تشخيصكم لوضعية هوامش العاصمة الاقتصادية؟ < يصعب الجزم أن التهميش يقتصر على هوامش البيضاء وكأن وسط المدينة يرفل في النعيم ورغد العيش، إذ باستحضار مؤشرات التهميش ، نجد أن بؤر "الحكرة" توجد أيضا في قلب المدينة أيضا، وربما بمستويات أبشع. وحسبي هنا التوقف عند حالة المدينة القديمة ودرب غلف وأحياء درب السلطان، حيث نسبة الهشاشة جد مقلقة والكثافة السكانية رهيبة في بيئة غير كريمة، للأغلبية الساحقة من السكان، ناهيك عن الأرقام المفجعة بشأن الهدر المدرسي، ووفيات الأمهات وارتفاع المهن الهامشية. < لكن ماذا عن الهوامش وأحزمة البؤس؟ < الفرق بين السكان المهمشين القاطنين بأحياء وسط المدينة، والسكان المهمشين القاطنين بضاحية المدينة، يكمن فقط في أن الفئة الأولى " دازت عليها الدكاكة"، وتم تنويمها بخطاب خادع، لكي لا تصطف في طابور الاحتجاج والضغط على السلطة العمومية، للمطالبة بحقها في التوزيع العادل للثروة مجاليا وقطاعيا. فلو أخذنا سكان المدينة القديمة ودرب غلف وعدد من الأحياء الفقيرة لدرب السلطان، سنصل إلى كتلة ديمغرافية تبلغ حوالي 400 ألف نسمة، (مثل عدد سكان مكناس تقريبا)، أما إذا أضفنا الجيوب الصفيحية التي مازالت موجودة بقلب البيضاء، فسنصل إلى حوالي 500 ألف نسمة، مقصية من رادار التنمية. وهذا الرقم يمثل حوالي 15 في المائة من مجموع سكان بلدية البيضاء. أما سكان الهوامش من حي فرح السلام بعمالة الحي الحسني، إلى حي الأزهر بعمالة البرنوصي، مرورا بليساسفة وسيدي معروف القديم، ودوار تقلية، وسباتة، والشيشان، ومجموعات مولاي رشيد، والتشارك وأهل الغلام، فلا يختلف وضعهم عن سكان الأحياء التي ذكرت بوسط المدينة، سوى البعد عن ساحة الحمام أو شاطئ عين الذئاب. < هل يمكن اعتبار إقصاء الهوامش من برامج التنمية والبنية التحتية تمييزا بين مواطني المدينة نفسها؟ < هناك أسباب تاريخية جعلت الأحياء الموجودة بهامش المدينة، تتراكم فيها الاختلالات ويتفاحش فيها الخصاص على مستوى البنية التحتية. السبب الأول مرتبط بالمرحلة الاستعمارية، حيث كان الاحتلال الفرنسي يركز في الإنفاق والتجهيز على المدينة الأوربية، ويهمش المدينة القديمة والكاريانات والأحياء العمالية، التي كان يسكنها المغاربة (الأهالي) بلغة الاستعمار. ولما استقل المغرب (وهذا هو السبب الثاني)، وقع اصطدام بين القصر والحركة الوطنية، خاصة في شقها اليساري، حول من يحكم وأي شكل من أنماط الحكم يجب أن يتم تقعيده بالبلاد: هل ملكية تنفيذية أو ملكية صورية أو نظام الحزب الوحيد، إلخ... ودخلت البلاد في دوامة من الهزات والمؤامرات استدعت جعل تثبيت الوضع وتأمينه، على رأس الأولويات على حساب القضايا اليومية الأخرى. ومن هنا نفهم كيف أن عمال البيضاء، كانوا كلهم جنيرالات وكولونيلات في الجيش، منذ استقلال المغرب إلى مطلع السبعينات من القرن العشرين، (تاريخ آخر انقلاب عسكري ضد المرحوم الحسن الثاني)، والأولوية آنذاك لم تكن هي التخطيط لمدينة زاهية وبهية، بل كان الهاجس هو منع سقوط البيضاء في يد سلطة حزبية، مناوئة للحكم المركزي، وبالتالي وقع تراخ في ضبط المدينة وتوسعها. وهذا ما يفسر كيف أنه مع مجيئ الملك محمد السادس للحكم في صيف 1999، كان أول قرار قام به هو تفكيك إمبراطورية إدريس البصري بالبيضاء، وما تلا ذلك من إعفاء الوزير القوي من منصبه، وتعيين جيل جديد من العمال والولاة والتحضير "لمونطاج" مؤسساتي جديد بالبيضاء، وباقي المدن الكبرى، تمثل في نظام وحدة المدينة بغاية تجميع التدخلات وتوحيد الرؤية والإمكانيات المالية. < تعرف هذه الهوامش هشاشة كبيرة سواء تعلق الأمر بالمستوى التعليمي أوالخدمات الصحية والتأهيل المهني، برأيك كيف يمكن إدماج هذه الفئة في سلاسل الإنتاج والتنمية؟ < فعلا، تعرف أحياء هذه الهوامش نقصا كبيرا في مختلف الخدمات، التي طرحتها في سؤالك. لكن كما يقول المثل الشعبي، "دوي علي وجي علي"، فالإرث الأسود الذي تركه العهد الماضي بالبيضاء، كان جد ثقيل يستدعي "مخطط مارشال" لمواجهته، وهو ما كانت الدولة في كل مستوياتها (المحلي والجهوي والمركزي) عاجزة عن تدبره. لكن ما أن وقعت أحداث 16 ماي الإرهابية خلال 2003، حتى حدثت صحوة، لدى السلطة العمومية بوجوب التحرك السريع، لتجفيف منابع التطرف والفقر والجهل بضاحية البيضاء، فتم ضخ الملايير من الدراهم بهذه الأحزمة، منذ 2004 إلى اليوم، ولا يمكن للمرء أن ينكر المجهود المبذول لإحداث سكن مقبول نسبيا، لمائة ألف أسرة كانت تقطن بأحياء الصفيح (أذكر أربعة تجمعات صفيحية ضخمة ومشهورة: كاريان السكويلة وطوما وكاريان سنطرال وباشكو....)، كما علينا ألا ننسى موردا رمزيا هاما، ساعد في تلحيم ضاحية البيضاء مع باقي تراب المدينة، رغم استمرار الخصاص في المرافق العمومية، ألا وهو حرص الملك محمد السادس على زيارة دروب وأحياء هامش البيضاء، في كل مرة يأتي للمدينة، إما لتدشين مشروع أو إعطاء انطلاقة إنجاز مرفق معين، أو الصلاة بأحد مساجد هذه الأحياء، إلخ...وهذه الزيارات الملكية المتكررة، مسحت العار عن ضاحية المدينة التي كان يحتقرها المسؤولون ويغيبونها من أجندتهم. محنة المرحلين < تستمر الدولة في تأزيم الوضع عبر ترحيل مجموعة من الكاريانات إلى ضواحي المدينة، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟ < لما اتخذ قرار إعادة إيواء سكان الصفيح، كان هناك توجهان: توجه ينادي بإعادة إيواء المعنيين في المكان نفسه الذي استقر فيه سكان الكاريان، منذ سنين بمبرر أن الترحيل سيدمر اللحمة الاجتماعية ويسبب الغربة للمرحلين في الأحياء الجديدة، وبالمقابل كان هناك توجه يقول إن إعادة الإيواء في المكان نفسه ستكون صعبة إن لم نقل مستحيلة. ومبرر هؤلاء يكمن في أن أغلب الأراضي التي تحتضن "الكاريانات"، ليست عقارا عاما تابعا للدولة، بل هو عقار خاص وثمنه باهظ جدا، لا يسمح للخزينة العامة تحمل كلفة الإيواء وشراء الأرض، وبالتالي من الأنسب ترحيل هؤلاء نحو أراض عمومية تابعة للدولة لربح كلفة العقار، خاصة أن المستهدفين بإعادة الإيواء يشكلون 102 ألف أسرة، أي حوالي 600 ألف نسمة، وهو عدد كبير جدا ليست للمغرب الإمكانيات المالية لإعادة إسكانهم في زمن معقول. وانتصر أصحاب الطرح الثاني، وهو ما أفرز هذه الأقطاب الحضرية الموجودة في الرحمة وبوسكورة، وأولاد صالح والهراويين الجنوبية، وزناتة وسيدي حجاج والشلالات، وهي أقطاب توجد خارج المدار الحضري للمدينة، وتقع تحت نفوذ وحدات إدارية أخرى مستقلة عن البيضاء. "سميك" حضري المسؤولون عن تدبير المدينة (منتخبون أو إدارة ترابية أو مصالح خارجية)، لا يتوفرون على لوحة قيادة تتضمن الخدمات المدنية الدنيا المشتركة، الواجب توفيرها لكل سكان المدينة، أيا كان المجال الجغرافي الذي يوجد فيه المرء. فكما أن هناك "سميك" إجباريا في الأجر في قطاع الشغل، يجب أن يكون هناك "سميك حضري" أو "سميك في رفاهية العيش الحضري" بالمدينة المغربية، مثلما هو موجود في كل مدن العالم المتمدن، وأعني بذلك: سكن لائق، مرافق القرب من صحة وتعليم وترفيه...، أسواق بلدية، شوارع فسيحة ومشجرة، ساحات عمومية، حدائق الأحياء ومنتزهات كبرى لكل حوض جغرافي، نقل عمومي يغطي كل تراب المدينة، وولوج سلس لمجال الشغل... ريع وغنيمة ترتبط أوضاع التمييز بين مواطني البيضاء أيضا، بتداعيات الانقلابين العسكريين ضد المرحوم الحسن الثاني (1971 و 1972) من جهة، وخوض المغرب للحرب ضد الجزائر وليبيا (كانا يمولان البوليساريو)، لاسترجاع أقاليمنا الجنوبية من جهة ثانية، حيث وقع انفراج سياسي بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية، أثمر تنازلات متعددة من الطرفين معا. ومن ضمن ثمار هذه التنازلات إصدار ظهير 1976، الذي اعتبر آنذاك بمثابة ثورة في تدبير الشأن المحلي، بما حمله من سلط وصلاحيات للمنتخبين لتدبير مدنهم. لكن سرعان ما تم الالتفاف على هذا التحول ببروز فاعل قوي، يتجلى في إدريس البصري (وزير الداخلية القوي والخالد في العهد الماضي)، الذي أفرغ هذا الظهير من فحواه، وعزز بالمقابل سلطة العمال من جديد وقزم تدخلات المجالس المحلية، وجردها من الأدوات التقنية الصانعة للمدينة، (من قبيل مرفق الماء والتطهير والنقل الحضري وغير ذلك)، ووضعها تحت قبضة الداخلية، فضلا عن تحكمها في العقار والموارد المالية، بشكل لم تعد معه المرافق العمومية والبنيات التحيتة والتجهيزات العمومية، تنجز وفق حاجيات كل حي أو منطقة بالمدينة، بقدر ما أصبحت الدار البيضاء مضخة "للهمزات"، مع ما تعنيه لفظة "الهمزة" من شحنة الريع والغنيمة. "بيروقراطية إجرامية" للأسف، أن المسؤويون الساهرين على تدبير الأمور اليومية تعاملوا مع هذا الورش ببرودة قاتلة، وببيروقراطية إجرامية، ولم يخرجوا ويواكبوا تنفيذ المشاريع المصاحبة، (نقل، طرق، أسواق، مرافق تعليمية وصحية وترفيهية...). وبحكم أن المقام في هذا الحوار الصحفي، لا يسمح بسرد كل الحالات، يكفيني أن أستشهد بمثالين اثنين: الأول يتعلق بالصندوق الخاص بربط المشاريع السكنية الكبرى، بحي الرحمة مع دار بوعزة وبوسكورة بالطرق والشوارع الكبرى، وهو صندوق يمول من اقتطاع عن شقق المنعشين، الذين استفادوا من تراخيص استثنائية لإنجاز وحداتهم السكنية، علما أن معظم المنعشين سددوا التزاماتهم، فالأموال موجودة والصندوق "عامر بالفلوس"، لكن "الماكينة" البيروقراطية قتلت مدينة الرحمة وقتلت أحلام السكان في التنقل، في ظروف ميسرة وسريعة وآمنة، بسبب أن مسؤولا لم يسبق له أن تنقل إلى الرحمة ليعاين مشاكل المواطنين. المثال الثاني ويهم ملاءمة خدمات الماء والكهرباء والتطهير، بين ضاحية البيضاء ووسط المدينة، فرغم أن الاتفاقية وقعها كل المسؤولين الحكوميين والمنتخبين المعنيين بالملف، فضلا عن مدير المكتب الوطني للماء والكهرباء أمام الملك محمد السادس عام 2014، فإلى حدود الساعة لم يتم تنفيذها لوجود حسابات "خاوية في عامرة"، بين عبد العزيز العماري عمدة البيضاء، ووزير الطاقة عبد القادر اعمارة، من جهة ووزارة الداخلية من جهة ثانية. والضحية هم حوالي ثلث سكان البيضاء، محرومون من مزايا اتفاق وقع أمام الملك عام 2014، ولا أحد انتفض وقال "لقد عيقنا بزاف"، علما أن تجميد اتفاق الملاءمة نتج عنه تجميد مشاريع أهم وأنفع، تتجلى في تعطيل إنجاز مشاريع "الواد الحار" ومياه المطر بمدينة الرحمة، التي سيصبح وضعها بعد خمس أو ست سنوات، مثل الوضع الحالي بمنطقة ليساسفة، التي عانت عشرين سنة بسبب الفيضانات، قبل أن تباشر الأشغال حاليا لتمكين سكانها من الحق في الربط مع الشبكة. إشارات ملكية تكمن مأساة البيضاء، في أن أغلب المسؤولين الذين تعاقبوا عليها (منتخبون أو رجال سلطة أو مديرون ومندوبو مصالح خارجية)، كانوا إما من عيار خفيف، أو كانوا يفتقدون لحس يجعلهم قادرين على فهم العقل العام للدولة، والتقاط الإشارات الكبرى للملك محمد السادس في علاقته بالبيضاء . فهم لم يلتقطوا الإشارة، حين أصر الملك محمد السادس، على أن تكون أول خرجة رسمية له بعد توليه الحكم هي زيارة البيضاء، في شتنبر من 1999. ولم يلتقطوا إشارته حين تم استثناء البيضاء من "مونطاج" "مدن بدون صفيح" عام 2004، وإخراج البيضاء من هذا التصور مع تمتيعها بشركة خاصة تتولى العملية (أي إدماج سكن). ولم يلتقطوا الإشارة عام 2006 حين نزع الملك محمد السادس، "مسمار جحا ديال الجيش"، المتمثل في إخراج العسكر من مطار أنفا، وأهدى عقار المطار للمدينة، لإحداث قطب مالي يتماشى مع التمطط المغربي نحو إفريقيا. ولم يلتقطوا الإشارة عام 2008 حين حرص الملك محمد السادس، على أن يبارك بنفسه في القصر الملكي بحي الحبوس، أول مخطط مديري للتهيئة الحضرية للدار البيضاء يصدر في عهده، وهو المخطط الذي قلب المعادلة بجعل ضاحية البيضاء المنقذ لمشاكل البيضاء، فتم وضع معظم المشاريع المهيكلة واللوجيستيكية بحزام البيضاء. ولم يلتقطوا الإشارة عام 2011 حين ترأس الملك بالهراويين، اتفاقيات التأهيل الحضري لكافة أحزمة البؤس بضاحية المدينة. ولم يلتقطوها عام 2013 حين خص الملك البيضاء بخطاب بالبرلمان. ولم يلتقطوا الإشارة عام 2015 حين أشرف الملك على أضخم برنامج حضري بالمغرب، تجلى في رصد حوالي 34 مليار درهم لبرنامج خماسي للبيضاء يمتد إلى 2020، وهو مبلغ ضخم لم يسبق أن خصص لمدينة مغربية بهذا الشكل.

مظاهر البداوة … أريري: بـؤر “الحكـرة”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"السورسي" لمحامي أبي الجعد

تنازل يبرئ مدير مدرسة من الخيانة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات